إنَّ أول ما يخطر ببالنا عند مراجعة ظروف إسلام أسد الله حمزة رضي الله عنه هي الآية الكريمة: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: 56]، فلا شكَّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كلَّم أهل مكَّة جميعًا في الإسلام؛ فهذه ثلاث سنوات مرَّت منذ الإعلان العام الذي قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوق جبل الصفا، وحمزة رضي الله عنه تحديدًا من الأقربين الذين سمعوا دعوة الإسلام من أوَّل أيَّام إعلانها؛ لكن شاء الله عزَّ وجلَّ -لحكمةٍ يعلمها- أن يُؤَخِّر إسلامه إلى هذا التوقيت، ولعلَّ العلَّة من وراء ذلك هي حفظ دماء المسلمين في هذه المرحلة الحرجة من مراحل الدعوة، التي تَعَرَّض فيها فريقٌ من المؤمنين للتعذيب، وتعرَّض فريقٌ آخر لترك الديار والهجرة إلى الحبشة، فكان إسلام العظيمين حمزة وعمر رضي الله عنهما تخفيفًا لهموم المسلمين آنذاك.

وكان حمزة أول الرجلين دخولًا في هذا الدين العظيم..

ولنراجع الروايتين الرئيستين اللتين تحدَّثتا عن إسلام حمزة ثم نُعَلِّق عليهما، مع العلم أنَّ الرواية الأولى أضعف من الثانية؛ لكن كل منهما تشهد للأخرى.

قال الحاكم في مستدركه على الصحيحين: حدَّثنا أبو العبَّاس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكيرٍ، عن ابن إسحاق، قال: فحدَّثني رجلٌ، مِنْ أَسْلَمَ وَكَانَ وَاعِيَةُ[1]، أَنَّ أَبَا جَهْلٍ اعْتَرَضَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الصَّفَا، فَآذَاهُ وَشَتَمَهُ وَقَالَ فِيهِ مَا يُكْرَهُ مِنَ الْعَيْبِ لِدِينِهِ، وَالتَّضْعِيفِ لَهُ، «فَلَمْ يُكَلِّمْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم»، وَمَوْلَاةٌ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ جُدْعَانَ التَّيْمِيِّ فِي مَسْكَنٍ لَهَا فَوْقَ الصَّفَا تَسْمَعُ ذَلِكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، فَعَمَدَ إِلَى نَادِي قُرَيْشٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَجَلَسَ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَلْبَثْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ أَقْبَلَ مُتَوَشِّحًا قَوْسَهُ رَاجِعًا مِنْ قَنْصٍ لَهُ، وَكَانَ صَاحِبَ قَنْصٍ يَرْمِيهِ وَيَخْرُجُ لَهُ، وَكَانَ إذَا رَجَعَ مِنْ قَنْصِهِ لَمْ يَصِلْ إلَى أَهْلِهِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ، وَكَانَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَمُرَّ عَلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ إلَّا وَقَفَ وَسَلَّمَ وَتَحَدَّثَ مَعَهُمْ، وَكَانَ أَعَزَّ قُرَيْشٍ، وَأَشَدُّهَا شَكِيمَةً، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكًا عَلَى دَيْنِ قَوْمِهِ، فَجَاءَتْهُ الْمَوْلَاةُ وَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَبَا عُمَارَةَ، لَوْ رَأَيْتَ مَا لَقِيَ ابْنُ أَخِيكَ مُحَمَّدٍ مِنْ أَبِي الْحَكَمَ آنِفًا، وَجَدَهُ هَا هُنَا، فَآذَاهُ وَشَتَمَهُ، وَبَلَغَ مِنْهُ مَا يُكْرَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَعَمَدَ إِلَى نَادِي قُرَيْشٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ وَلَمْ يُكَلِّمْهُ مُحَمَّدٌ.

فَاحْتَمَلَ حَمْزَةُ الْغَضَبَ لِمَا أَرَادَ اللهُ مِنْ كَرَامَتِهِ، فَخَرَجَ سَرِيعًا لَا يَقِفُ عَلَى أَحَدٍ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، يُرِيدُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ مُعِدًّا لأَبِي جَهْلٍ أَنْ يَقَعَ بِهِ، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ نَظَرَ إِلَيْهِ جَالِسًا فِي الْقَوْمِ فَأَقْبَلَ نَحْوَهُ، حَتَّى إِذَا قَامَ عَلَى رَأْسِهِ رَفَعَ الْقَوْسَ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ ضَرْبَةً مَمْلُوءَةً، وَقَامَتْ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إِلَى حَمْزَةَ لِيَنْصُرُوا أَبَا جَهْلٍ، فَقَالُوا: مَا نَرَاكَ يَا حَمْزَةُ إِلَّا صَبَأْتَ. فَقَالَ حَمْزَةُ: وَمَا يَمْنَعُنِي وَقَدِ اسْتَبَانَ لِي ذَلِكَ مِنْهُ، أَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ، وَأَنَّ الَّذِي يَقُولُ حَقٌّ، فَوَاللهِ لَا أَنْزِعُ، فَامْنَعُونِي إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: دَعُوا أَبَا عُمَارَةَ، لَقَدْ سَبَبْتُ ابْنَ أَخِيهِ سَبًّا قَبِيحًا.

وَتمَّ حَمْزَةُ عَلَى إِسْلَامِهِ، وَتَابَعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمْزَةُ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَزَّ وَامْتَنَعَ، وَأَنَّ حَمْزَةَ سَيَمْنَعُهُ، فَكَفُّوا عَنْ بَعْضِ مَا كَانُوا يَتَنَاوَلُونَهُ وَيَنَالُونَ مِنْهُ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ سَعْدٌ[2] حِينَ ضَرَبَ أَبَا جَهْلٍ، فَذَكَرَ رجزًا غَيْرَ مُسْتَقَرٍّ[3] أَوَّلُهُ: ذُقْ أَبَا جَهْلٍ بِمَا غَشِيَتْ[4]. قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ حَمْزَةُ إِلَى بَيْتِهِ فَأَتَاهُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: أَنْتَ سَيِّدُ قُرَيْشٍ اتَّبَعْتَ هَذَا الصَّابِئَ وَتَرَكْتَ دَيْنَ آبَائِكَ، لَلْمَوْتُ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا صَنَعْتَ. فَأَقْبَلَ عَلَى حَمْزَةَ شَبَهٌ[5]، فَقَالَ: مَا صَنَعْتُ؟ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ رُشْدًا فَاجْعَلْ تَصْدِيقَهُ فِي قَلْبِي وَإِلَّا فَاجْعَلْ لِي مِمَّا وَقَعْتُ فِيهِ مَخْرَجًا. فَبَاتَ بِلَيْلَةٍ لَمْ يَبِتْ بِمِثْلِهَا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ، حَتَّى أَصْبَحَ فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ابْنَ أَخِي، إِنِّي وَقَعْتُ فِي أَمَرٍ لَا أَعْرِفُ الْمَخْرَجَ مِنْهُ، وَأَقَامَهُ مَثَلِي عَلَى مَا لَا أَدْرِي مَا هُوَ أَرُشْدٌ هُوَ أَمْ غَيٌّ شَدِيدٌ، فَحَدِّثْنِي حَدِيثًا فَقَدِ اسْتَشْهَيْتُ يَا ابْنَ أَخِي أَنْ تُحَدِّثَنِي. «فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَّرَهُ وَوَعَظَهُ وَخَوَّفَهُ وَبَشَّرَهُ»، فَأَلْقَى اللهُ فِي نَفْسِهِ الإِيمَانَ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: أَشْهَدُ إِنَّكَ لَصَادِقٌ شَهَادَةَ الْصِّدْقِ، فَأَظْهِرْ يَا ابْنَ أَخِي دِينَكَ، فَوَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ لِي مَا أَلْمَعَتِ الشَّمْسُ، وَإِنِّي عَلَى دِينِي الأَوَّلِ. قَالَ: فَكَانَ حَمْزَةُ مِمَّنْ أَعَزَّ اللهُ بِهِ الدِّينَ[6].

وعند ابن هشام والطبري أن حمزة رضي الله عنه قال لأبي جهل بعد أن ضربه: «أَتَشْتِمُهُ وَأَنَا عَلَى دِينِهِ أَقُولُ مَا يَقُولُ؟ فَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيَّ إِنِ اسْتَطَعْتُ»[7].

أما الرواية الثانية فعند الطبراني وجاء فيها: قال مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: كَانَ إِسْلامُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَحِمَهُ اللهُ حَمِيَّةً، وَكَانَ رجلًا رَامِيًا، وَكَانَ يَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ فَيَصْطَادُ، فَإِذَا رَجَعَ مَرَّ بِمَجْلِسِ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا يَجْلِسُونَ عِنْدَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَيَمُرُّ بِهِمْ، فَيَقُولُ: رَمَيْتُ كَذَا، وَصَنَعْتُ كَذَا وَكَذَا. ثمَّ يَنْطَلِقُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَأَقْبَلَ مِنْ رَمْيِهِ ذَاتَ يَوْمٍ، فَلَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا عُمَارَةَ، مَاذَا لَقِيَ ابْنُ أَخِيكَ مِنْ أَبِي جَهْلِ بن هِشَامٍ؟ وَتَنَاوَلَهُ وَفَعَلَ بِهِ وَفَعَلَ. فَقَالَ: «هَلْ رَآهُ أَحَدٌ؟» قَالَتْ: إِي وَاللهِ لَقَدْ رَآهُ نَاسٌ. فَأَقْبَلَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ عِنْدَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَإِذَا هُمْ جُلُوسٌ وَأَبُو جَهْلٍ فِيهِمْ، فَاتَّكَأَ عَلَى قَوْسِهِ، فَقَالَ: «رَمَيْتُ كَذَا وَفَعَلْتُ كَذَا». ثمَّ جَمَعَ يَدَهُ بِالْقَوْسِ، فَضَرَبَ بِهَا بَيْنَ أُذُنَيْ أَبِي جَهْلٍ، فَدَقَّ سِيَتَهَا[8]، ثمَّ قَالَ: «خُذْهَا بِالْقَوْسِ، وَأُخْرَى بِالسَّيْفِ، أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللهِ». قَالُوا: يَا أَبَا عُمَارَةَ، إِنَّهُ سَبَّ آلِهَتَنَا، وَلَوْ كُنْتَ أَنْتَ، وَأَنْتَ أَفْضَلُ مِنْهُ، مَا أَقْرَرْنَاكَ وَذَاكَ، وَمَا كُنْتَ يَا أَبَا عُمَارَةَ فَاحِشًا[9].

لقد رأينا في قصَّة إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه التدبير العجيب لربِّ العالمين!

كعادته خرج حمزة بن عبد المطلب عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصيد، وأثناء غياب حمزة في رحلة صيده، مرَّ أبو جهل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند الصفا وحيدًا، فما كان منه إلَّا أن تطاول عليه بلسانه وقد سبَّه سبًّا مقذعًا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم صامت لا يُجيبه، ولا يردُّ عليه سبابه.. قال تعالى: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63]، لكنَّ أبا جهل لم يزده حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اغترارًا وجهلًا، فزاد في سبابه وطغيانه، وبعدها انصرف أبو جهل -لعنه الله- إلى نادي قريش عند الكعبة.

ولقد سخَّر الله عز وجل امرأة كافرة، وكانت أمَةً لعبد الله بن جدعان، فسمعت ذلك الذي حدث بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي جهل، ثم تزامن ذلك -بترتيب إلهي- مع عودة حمزة من صيده، فوقفت الجارية تقصُّ ما حدث عليه.

الجارية كافرة، ومولاها كافرٌ أيضًا، والذي تحكي له كافرٌ كذلك؛ لكن شاء الله عز وجل أن يُخْرِج من هذا الوَسَط الكافر نصرةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: 31].

لقد تفاقم الظلم الشديد، ووصل إلى الدرجة التي حرَّك فيها العواطف والمشاعر والأفكار في قلب حمزة وعقله، إنها مشاعر الحب لابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولأبيه عبد الله الذي مات وترك محمدًا، ولو كان عبد الله حيًّا ما ترك ابنه يُفْعَل به هذا، وأيضًا مشاعر القبليَّة الهاشمية الشريفة، وكذلك مشاعر الغيظ والغضب من زعيم القبيلة المنافسة بني مخزوم، وأيضًا مشاعر النخوة تجاه نصرة المظلوم.. مشاعر كثيرة تفاعلت معًا لتُفرز موقفًا عجيبًا حقًّا!

بعد سماع كلام الجارية لم يجد حمزة نفسه إلَّا متَّجهًا نحو الكعبة، ومدفوعًا، وبقوَّة عجيبة، تجاه عملٍ لم يخطر ببال أحدٍ قط أن يُقْدِم عليه؛ بل لم يُفَكِّر حمزة نفسه في أن يفعله؛ فقد انطلق الفارس -وهو الذي ما زال على دين قومه- إلى أبي جهل، حيث يجلس بين أصحابه وأقرانه وأفراد قبيلته في البيت الحرام، فأقبل نحوه لا يقوى أحدٌ على الوقوف أمامه، وأمامه تمامًا كانت نهاية خطواته، ثُمَّ -ودون أدنى تردُّد أو تفكير- رفع قوسه، وهوى به على رأس أبي جهل، في ضربةٍ شديدةٍ مؤلمة، شُجَّت على أثرها رأسه، وسالت منها الدماء! لقد كان قصاصًا شديدًا؛ فلئن كان أبو جهل قد اكتفى بِشَتْم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنَّ حمزة ردَّ بضرب أبي جهل، لكن فوق ذلك فإنَّ الإهانة كانت غايةً في الشدَّة لأبي جهل؛ حيث كانت ضربة حمزة أمام أفراد قبيلته وعشيرته؛ بينما كان الذي حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيدًا عن نادي قريش، ولقد كان مثل هذا الردِّ في عرف الناس كافيًا لأن يشفي الغليل، ويُريح الصدر، ويُسَكِّن القلب؛ لكنَّ حمزة ما زال ثائرًا، لم يُشْفَ غليله، ولم يُرَحْ صدره، ولم يَسْكُن قلبه! أراد حمزة أن يكيد لأبي جهل بكل ما يستطيع، وأراد أن يُلقي في قلبه حسرةً تُزلزل جوانبه، وتشلُّ أركانه.

فكَّر حمزة في أشدِّ ما يغيظ أبا جهل، وفي نفسه عَلِمَ أنَّه الدين الجديد، إنَّه الإسلام، وعلى الفور، ودون سابق تفكير أو تَرَوٍّ، أعلن حمزة إسلامه أمام القوم جميعًا!

انطلق هذا الإعلان من فم حمزة فوقع كالقذيفة على قلب أبي جهل، ولم يستطع بعدها أن يُحَرِّك ساكنًا، فألهته مصيبته عن التفكير في الانتقام، وقد تضاءل حجمه حتى كاد يختفي وهو كبير الكافرين، حينها قام رجالٌ من بني مخزوم يُريدون أن ينتصروا لأبي جهل؛ لكنَّه منعهم من ذلك؛ بل هدَّأ ثائرتهم وقال: دَعُوا أَبَا عُمَارَةَ، لَقَدْ سَبَبْتُ ابْنَ أَخِيهِ سَبًّا قَبِيحًا.

لكن ما الذي حدث من حمزة؟!

أبهذه السهولة يدخل في دين الإسلام؟!

أبهذه السهولة يقول -وفي لحظةٍ واحدة- الكلمة التي رفض أن يقولها سنوات وسنوات؟!

سنوات ستٌّ[10] مرَّت وحمزة يسمع عن الإسلام، ولم تنقله من الكفر إلى الإيمان؛ بينما نقله هذا الحادث غير المقصود في عُرف الناس، ودخل حمزة دين الإسلام رغمًا عن إرادته، ولم يتروَّ في التفكير كعادته؛ فقد خرجت الكلمة من فمه فما عرف كيف يستردُّها.

يظنُّ بعضهم أنَّ حمزة قد أَسْلَم مصادفة؛ لكنَّ الحقيقة -والله- أنَّ إسلامه ليس بالمصادفة؛ إنَّما هي سُنَّة من سنن الله عز وجل، فالظلم الشديد إذا تفاقم أمره وطال ليله، أعقبه نصرٌ من الله عز وجل، ولا شكَّ أنَّ إيمان حمزة بن عبد المطلب كان نصرًا للدعوة، وإذا لم يكن هذا الظلم الذي وقع شديدًا ما لفت نظر حمزة، وما استطاع أن يُحَرِّك أشياءَ كثيرة جدًّا ما تحرَّكت منذ سنوات ستٍّ، فهو تدبير ربِّ العالمين، فكما يخلق من بين الفرث والدم لبنًا خالصًا سائغًا، يخلق من وسط الظلم عدلًا ونورًا، ومن وسط الاضطهاد والقهر والبطش نصرًا وتمكينًا، ولو كان أبو جهل يعلم أنَّ مثل هذا سيحدث ما فكَّر، ولو لمرَّة واحدة، في سبِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكنه تدبير ربِّ العالمين؛ قال تعالى: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال: 30].

فهي رسالةٌ إلى كلِّ الدعاة: لا تُحْبَطُوا من الظلم الشديد؛ فلعلَّه الظلم الذي يسبق نصرًا عظيمًا للدعوة، ولعلَّها أحلك لحظات الليل سوادًا، التي يأتي بعدها ضياء الفجر، فحين يتفاقم الظلم ما يلبث أن يُولَد نصرٌ للإسلام والمسلمين.

بعد كلمته الكيديَّة السابقة لأبي جهل، وكرجلٍ صادقٍ مع نفسه ومع مجتمعه، لا يستطيع أن يرجع في كلمته، وفي الوقت ذاته لا يستطيع أن يدخل في دعوةٍ لا يُؤمن بها حقًّا؛ لذا فقد عاد حمزة رضي الله عنه إلى بيته وهو في صراعٍ شديدٍ مع نفسه، ماذا أفعل؟ ولمن ألجأ؟!

ولفطرته السويَّة السليمة لجأ إلى الله عز وجل؛ فقد كان العرب في جاهليَّتهم يؤمنون بالله، وأنَّه خالقٌ ورازقٌ وقويٌّ وقادرٌ، يُؤمنون بذلك كلِّه لكنَّهم كانوا لا يُحَكِّمونه في أمورهم، ويُشركون به أصنامهم يتقرَّبون بها إليه سبحانه وتعالى زلفى، ولهذا لجأ حمزة إلى الله عز وجل بما يُشبه صلاة الاستخارة قائلًا: مَا صَنَعْتُ؟ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ رُشْدًا فَاجْعَلْ تَصْدِيقَهُ فِي قَلْبِي وَإِلَّا فَاجْعَلْ لِي مِمَّا وَقَعْتُ فِيهِ مَخْرَجًا.

ولأنَّ الله عز وجل يُريد به خيرًا فقد هداه إلى أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير طبيب، ليعرض عليه أمره وما أهمَّه، وعنده صلى الله عليه وسلم صرَّح حمزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشكلة الكبيرة التي وقع فيها.. إنَّه لم يُعلن إسلامه عن قناعة؛ إنَّما أعلنه حميةً لابن أخيه، وأمرُ الدين ليس أمرًا هيِّنًا، فلا يتقبَّل حمزة أن يعتنق دينًا لمجرَّد الدوافع القبليَّة، فهو يُريد أن يعرف بصدق هل هذا الدين حقٌّ أم أنَّ الحقَّ في اتِّباع اللَّات والعزَّى.

وهنا أقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدَّثه بما كان يُحَدِّثه به من قبلُ، وذكَّره بما كان يُذَكِّره إياه، ووعظه بما كان يعظه به، وخوَّفه ممَّا كان منه يُخَوِّفه، وبشَّره بما كان به يُبَشِّره! اللغة هي اللغة، والحديث هو الحديث؛ لكنَّ الوعاء الذي يستقبل الفيض اختلف وتغيَّر، وإنَّها للحظة هداية يختارها الله عز وجل بحكمة بالغة؛ فقد سمع حمزة الكلمات التي طالما كان يسمعها؛ لكن هنا انبسطت أساريره، وانشرح صدره، وآمن من ساعته بصدقٍ، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيقينٍ صادقٍ من قلبه: أَشْهَدُ إِنَّكَ لَصَادِقٌ شَهَادَةَ الصِّدْقِ، فَأَظْهِرْ يَا ابْنَ أَخِي دِينَكَ، فَوَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنْ لِي مَا أَلْمَعَتِ الشَّمْسُ -يقصد الذهب والفضة- وَإِنِّي عَلَى دِينِي الأَوَّلِ.

وسبحان الله! هكذا وفي لحظةٍ واحدةٍ أصبحت الدنيا، كلُّ الدنيا، لا تُساوي شيئًا في مقابل دينه الجديد الإسلام، ومن بعدها أصبح حمزة رضي الله عنه أسدَ الله.

لقد انتقل حمزة رضي الله عنه بعد إسلامه -ومن فوره- من رجلٍ مغمورٍ في صحراء الجزيرة العربيَّة يعيش فقط لتجارته وملذَّاته وصيده، إلى رجلٍ قد أصبح كلُّ همِّه أن يُعبِّد الناسَ لربِّ العالمين، وأن يُدافع عن دين الله، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يُظْهِر الإسلام، ويحمي المستضعفين، ولننظر كيف ترقَّى في القدر من كونه سيدًا لمجموعة من الرجال في قرية لا تكاد تُرى على الخارطة في فترة محدودة من عمر الدنيا لم تتجاوز سنوات معدودات، إلى كونه سيدًا للشهداء في الجنَّة، فقد أصبح حمزة رضي الله عنه سيدًا لكل الشهداء على مرِّ التاريخ، وإلى يوم القيامة، وقد خلَّد بذلك ذكره في الدنيا، وخلَّد ذكره كذلك في الآخرة، وبحقٍّ لو نُريد أن نعرف قيمة هذا الدين العظيم، فلننظر إلى حمزة قبل الإسلام، ولننظر إليه بعده، فهذا الإسلام هو الذي صنع حمزة، و-أيضًا- صنع أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا رضي الله عنهم، وصنع غيرهم وغيرهم على مرِّ التاريخ، وإذا كنَّا حقًّا نحتاج إلى رجال أمثال حمزة فيجب علينا أن نأخذ الإسلام كما أخذه؛ بل يجب أن نعيشه كما عاشه.

د.راغب السرجاني
[1] واعية: حافظ لما يسمع.
[2] لم أقف على «سعد» المذكور في رواية الحاكم هذه، ويحتمل أنه سعيد بن بزيع (قال عنه ابن أبي حاتم: روى عن محمد بن إسحاق. انظر: الجرح والتعديل 4/8)، كما ذكر ابن ناصر الدين الدمشقي في كتابه جامع الآثار في السير ومولد المختار، طبعة دار الكتب العلمية 3/1538، أو أن يكون هناك تصحيف بالكلمة، ويكون الصواب: «شعرًا» بدلًا من «سعد»، أي فقال حمزة في ذلك الموقف شعرًا، وهو الرجز غير المستقر الذي أشارت إليه الرواية، ويُؤَيِّد هذا الاحتمال الأخير أن الرواية جاءت في سيرة ابن إسحاق (ص172) بلفظ «شعرًا» وليس «سعد»، مع العلم أن رواية الحاكم جاءت من طريق ابن إسحاق أيضًا، ممَّا يُوحي أنَّ الخطأ جاء في رواية الحاكم، والله أعلم.
[3] غير مستقر؛ أي: غير ثابت به اختلال إمَّا في انضباط المعنى أو في الوزن والقافية.
[4] ذكر هذه الأبيات ابن إسحاق في سيرته (ص172) بلفظ:
ذُقْ يَا أَبَا جَهْلٍ بِمَا عسيت مِنْ أَمْرِكَ الظَّالِمِ إِذْ مشيت
سَتَسْعَطُ الرَّغْمَ بِمَا أتيت تُؤْذِي رَسُولَ اللهِ إِذْ نهيت
عَنْ أَمْرِكَ الظَّالِمِ إِذْ عتيت لَوْ كُنْتَ تَرْجُو اللهَ مَا شقيت
وَلَا تَرَكْتَ الْحَقَّ إِذْ دعيت وَلَا هويت بَعْدَ مَا هويت
تُؤْذِي رَسُولَ اللهِ قَدْ غويت مَا كُنْتَ حبًّا بَعْدَ مَا غدرت
فَحَتَّى تَذُوقَ الْخِزْيَ قَدْ لقيت فَقَدْ شفيت النَّفْسَ وَأشفيت
[5] الشَّبَه: الْمِثْل. وبلفظ: «بَثُّهُ». عند ابن إسحاق: السير والمغازي ص172، والبيهقي: دلائل النبوة 2/214، وابن كثير: البداية والنهاية، طبعة دار هجر، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، 4/84، أما البداية والنهاية طبعة دار إحياء التراث العربي فهي بلفظ: فأقبل حمزة على نفسه. والبثُّ: إظهار الحديث، والحال والحزن. وهي من حَضَرني بَثِّي أي: اشْتَدَّ حُزْني. ابن منظور: لسان العرب، 2/114، قلتُ: ويُحتمل أن تكون الكلمة: «شه»، وذلك كما رأيتُها في مخطوط المستدرك على الصحيحين نسخة مكتبة الأزهر برقم (634) رواق المغاربة الجزء الثالث اللوحة (84/أ)، ومعناها: حكَايَةُ كَلامٍ شبه الانْتِهارِ. الزبيدي: تاج العروس 36/427، فكأن المقصود أن حمزة رضي الله عنه ينتهر نفسه ويحاسبها.
[6] الحاكم (4878)، وابن إسحاق: السير والمغازي ص171، وابن هشام: السيرة النبوية، 1/291، والطبري: تاريخ الرسل والملوك، 2/333. وقال سعد بن عبد الله بن عبد العزيز آل حميد في تحقيقه لمختصر تلخيص الذهبي لابن الملقن بعد أن ذكر طرق الحديث: وعليه فالحديث بهذه الطريق، والأخرى التي يرويها يعقوب بن عتبة، يكون حسنًا لغيره، والله أعلم. انظر: مختصر تلخيص الذهبي 4/1743.
[7] ابن هشام: السيرة النبوية، 1/292، والطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/334، وابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 2/385، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/679.
[8] السية من القوس: ما عُطف من طرفيها؛ وهما سيتان.
[9] الطبراني: المعجم الكبير (2926)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني مرسلًا، ورجاله رجال الصحيح. والطبراني (2927)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني مرسلًا، ورجاله ثقات. انظر: مجمع الزوائد 9/267، وقال الصالحي الشامي: وروى ابن إسحاق قال: حدثني رجل من أسلم وكان واعية، والطبراني برجال ثقات، عن يعقوب عن عتبة بن المغيرة والطبراني برجال ثقات عن محمد بن كعب القرظي رحمهم الله. انظر: سبل الهدى والرشاد 2/332، وقال إبراهيم العلي: ومجموع الطرق المرسلة تفيد الحديث قوة وصحة. انظر: صحيح السيرة النبوية، ص60.
[10] قال ابن الجوزي: ومن الحوادث في سنة ست من النبوة: فمن ذلك إسلام حمزة وعمر. وقيل: إن ذلك في سنة خمس. انظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم 2/384، وقال محب الدين الطبري: وكان إسلامه رضي الله عنه في السنة الثانية من المبعث، وقيل: كان إسلامه بعد دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم في السادسة من المبعث، ولم يذكر في الصفوة غيره، وذكر الحافظ أبو القاسم الدمشقي أن إسلامه كان يوم ضُرِب أبو بكر حين ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل إسلام عمر من دار الأرقم، وروى أن ذلك كان قبل إسلام عمر بثلاثة أيام. انظر: ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى ص174، والصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 11/90.