مما لا شك فيه أن حضارات الأمم تبنى بالأخلاق والقيم، وأن انهيارها مرتبط بالانحلال والانحراف عن منهج الله الواحد الأحد. يقول ابن خلدون: "إذا تأذن الله بانقراض الملك من أمة حملهم على ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طريقها، وهذا ما حدث في الأندلس، وأدى فيما أدى إلى ضياعه".
وأدرك هذه الحقيقة أيضًا أحد كتاب النصارى واسمه (كوندي)، حيث قال: "العرب هووا عندما نسوا فضائلهم التي جاءوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات". وصدق الله العظيم القائل: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
مما سبق يتبين لنا أن أهم عوامل سقوط بلاد الأندلس هو العامل الأخلاقي، وسقوط الأندلس بدأت معالمه ومظاهره قبل سقوط غرناطة بوقت مبكر، وذلك بعد أن قام على أنقاض الدولة الأموية بالأندلس العديد من الدويلات الإسلامية المتناحرة المتنازعة، والتي صورها الشاعر بقوله:
ممــا يزهدني في أرض أندلـس *** أسمـــاء معتمـــد فيهـا ومعتضـد
ألقاب مملكة في غير موضعهـا *** كالهر يحكي انتفاخًا صولة الأسد
ومما ينبغي التنبه له أن الضعف التدريجي للمسلمين في الأندلس والذي أدى إلى خروجهم من تلك الديار، لم ينشأ من فراغ كما لم يكن وليد يوم وليلة، بل كان نتيجة لعدة عوامل وأسباب يمكن إجمالها فيما يلي:
1- انحراف كثير من مسلمي الأندلس عن منهج الله.
2- موالاة العدو النصراني والتخلي عن الجهاد.
3- التفرق والتشرذم.
4- تكالب القوى النصرانية عليهم.
ويُعد الضعف الخلقي عند المسلمين في الأندلس قبل سقوطها أحد النتائج التي تمخضت عن الانحراف عن منهج الله، وقد كان لهذا الضعف مظاهر وصور منها:
1- الأنانية وحب الذات.
2- التشبه بالعدو وتقليده.
3- انتشار المجون والخلاعة بين المسلمين.
1- الأنانية وحب الذات:
بعد أن قامت دولة ملوك الطوائف بعد الدولة الأموية في الأندلس، تنافس أولئك على السلطة، وانتشر بينهم العداء المستحكم والخصام الدائم؛ فالكثير منهم لا همّ له إلا تحقيق مصلحته الذاتية وإشباع أنانيته ووجوده في السلطة، ولو على حساب المسلمين!!
وقد أدرك هذه الحقيقة الكثير من المؤرخين لهذه المرحلة، منهم أبو حيان الأندلسي الذي قال: "دهرنا هذا قد غربل أهليه أشد غربلة، فسفسف أخلاقهم، وسفّه أحلامهم، وخبث ضمائرهم...".
ويقول المراكشي: وصار الأمر في غاية الأخلوقة (الأضحوكة) والفضيحة، أربعة كلهم يتسمى بأمير المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخًا في مثلها.
وقال ابن حزم: "اللهم إننا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور يتركونها عما قريب عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم...".
وقال في موضع آخر عنهم: "والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم بادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين وأبنائهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعًا، فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس".
2- التشبه بالعدو وتقليده:
للمسلمين شخصيتهم المستقلة التي تميزوا بها عن غيرهم من الشعوب والأمم، وقد ظل مسلمو الأندلس خلال القرون الثلاثة الأولى لوجودهم في الأندلس محافظين على شخصيتهم تلك التي تأصلت فيها الأخلاق والقيم النبيلة، ولكنهم بعد أن دبّ الضعف إليهم وعصفت بهم الفتن، وضعف الوازع الديني عند بعضهم، بدءوا بالتخلي عن بعض تلك الأخلاق، والتأثر بأخلاق وعادات غريبة عليهم وعلى مجتمعهم.
ذكر ابن الخطيب أن جند مسلمي الأندلس تشبهوا بالنصارى في زيهم وأسلحتهم، ولم يقتصر الأمر على هذا، بل إن بعض مسلمي الأندلس قلد النصارى في الاحتفال بأعيادهم ومناسباتهم الشركية، وهناك فئة أخرى كانت تحضر مجالسهم وتشاركهم أفراحهم، من هؤلاء منذر بن يحيى أمير سرقسطة، فقد بالغ في التشبه بالنصارى وموالاتهم، حيث كان يحضر عقود المصاهرة التي كانت تتم بين أبنائهم.
ولا شك أن لذلك أثرًا في كسر الحاجر النفسي بين المسلمين وأعدائهم، فزالت مهابة المسلمين عند النصارى حينما تخلوا عن أصالتهم وأخلاقهم الإسلامية، حيث أصبحوا حقيرين في عين عدوهم، وأقل من أن يهتم بهم.
3- الخلاعة والمجون:
وكان ذلك من أعظم الأسباب أثرًا في انهيار الدولية الإسلامية في الأندلس، حيث كان شرب الخمور والاستغراق في الملذات والإكثار من الجواري والنساء - كان ذلك قاسمًا مشتركًا بين كثير من ملوك الطوائف، وغرقوا في مستنقع الفواحش والرذيلة. ويبدو هذا جليًّا لكل من طالع أخبارهم، واستغل هذا الأمر بعض الوزراء والموظفين الذين رغبوا أن يستبدوا بالحكم والسلطان.
قال أحد شعراء تلك الفترة عن الخمر:
فجُلّ حيـاتي من سكرهـا *** جرت مني الخمرة مجرى الدم
وكان أهل تلك الفترة يتفاخرون بكثرة آلات الطرب والغناء، حيث يقولون: عند فلان عودان أو ثلاثة وأربعة وأكثر من ذلك.
وامتد ذلك ليصل إلى حد الاستخفاف بالدين عند بعض الناس، فقد ذكر ابن حزم أن إبراهيم بن سيار النظام كبير المعتزلة في الأندلس تعلق بحب غلام نصراني، فألف له كتابًا في تفضيل التثليث على التوحيد؛ تقربًا إليه!!
مما سبق ذكره نقول ختامًا:
إن قصة خروجنا من الأندلس لم تكن قصة عدو قوي انتصر علينا بقدر ما كانت قصة هزيمتنا أمام أنفسنا.. قصة ضياعنا وأكلنا بعضنا بعضًا، كما تأكل الحيوانات المنقرضة بعضها بعضًا.
كان الترامي في أحضان العدو ممكنا.. وكان التنازل له عن الأرض ممكنًا.. وكان الخلاف بين بعضهم وبعض لدرجة الاستنجاد بالعدو ممكنًا..!!
أجل.. كان كل هذا ممكنًا إلا شيئًا واحدًا.. إلا العودة إلى الإسلام الصحيح الخالي من حب السلطة واستعباد الدنيا، والأمر بالاعتصام بحبل الله وحده وعدم التفرقة.. كل شيء كان ممكنًا -في عُرْفهم- إلا هذا.
ما أشبه الليلة بالبارحة! فحالنا في هذه الأيام من جهة استعلاء عدونا علينا، وتمكُّنه منا إنما هو بذنوبنا {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
فقد بعدنا وبعدنا جدًّا عن ديننا، وانتشرت رذائل الأخلاق بيننا، وتشبهنا بل ووالينا أعداءنا، وتفرقنا شذر مذر، ويوم أن نعود إلى ديننا سيعود لنا عزنا {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
إسلام ويب.