بقلم أمير ألأحزان
صــــدي الأزمنــــــــة و جغرافيــــــــة الأمكنـــــــــــة

صــــدي الأزمنــــــــة و جغرافيــــــــة الأمكنـــــــــــة



صدي الأزمنة و جغرافية الأمكنة
برواية ( صدي العشيات ) للقاص مبارك الصادق
بقلم : أمير الأحزان

قال الشاعر أحمد شوقي:-
يا جارة الوادي طربتُ و عادني * ما يشبهُ الأحلامُ من ذكــــــــــــــــــراكِِ ِِِِِِِِِِِِِِِ
مثلت في الذكري هواكِ و في الكري * و الذكرياتِ صدي السنين الحاكي
و هنا نجد الذكري صدي كرجع الصوت ..رواية ( صدي العشيات ) للكاتب ( مبارك الصادق ) .. صدرت مؤخرا عن ( وزارة الثقافة ) ..الطبعة الأولي .. و صدي العشيات ذكريات ذاك الوقت تردد في سمع الزمان كرجع الصوت لأنها لحظات من عمر الزمان لا يشوبها النسيان أو يطالها الموت .. تظل ما بقي الدهر .. حيةً بأصواتها التي يمثلها صدي الذكري بين الفينة و الأخرى ..
قال تعالي في سورة يوسف : ( و جاءوا أباهم عشاء يبكون ) .. وقت العشاء هو أول الليل .. و هو وقت لقاء ( سليمان )- بطل الرواية – بأصحابه في المقهى و السمر معهم ..
الرواية في هيئتها : تتحدث عن ( سليمان ) بطلها و رفقاء دربه و صخب حياتهم .. و قصة عشقه الباكر ، و ما شابها من أحداث غير ت مجري حياته .. فكانت سببا في تخليه عن مواصلة تعليمه و إلحاقه متدربا بمدينه عطبرة .. تمهيدا لسفره إلي إنجلترا و إكمال تعليمه المهني هناك ..
و كان أن عاد لأرض الوطن بعد غربةٍ متزوجا من بريطانيةٍ .. ليجد أن أباه قد عقد له قرانه علي إحدى قريباته في غيابه ، ليلقاه بها في المطار و هو يتأبط ذراع زوجته البريطانية !.. كمٌّ من الأحداث و الإدهاش يعرضه لنا الكاتب في سياق شيق و أنيق .. يعبق برائحة الزمان و المكان ..
و باطن الرواية يصرخ بصدي مدنٍ ثلاث .. المدينة الأولي لم يصرح الكاتب بإسمها و لكنها تترك أثراً كبيراً في ذاكرته ، لأنها المدينة التي نشأ و ترعرع فيها بطل روايته ..و قد أفاض في وصفها و وصف محطة السكة حديد بها..و المدينة الثانية بين المدينتين و تقع قبل الأخيرة هي مدينة الدامر ، ثم مدينة ( عطبرة ) الثالثة ..
المدينة الأولي في الرواية شهدت الكثير من أحداث حياة بطلها ( سليمان ) الذي نشأ فيها كما أسلفنا .. و هي تقع علي ضفاف النيل الأزرق .. و هي التي شهدت قصة عشقه البكر .. مدينة أحبها لأنه يدين لها بذكريات عزيزة علي النفس ..
ثم يمضي في وصف المحطة بتلك المدينة و بنايتها ..وصفاً مفصلاً شيقاً ..
أنظر النظام و الحفاظ عليه .. فكأن المحطة أ رض الملعب .. تحكمه قوانين لا يتعداها أحد اللاعبين و إلا عد مخطئاً .. و وجه له الزجر من قبل الحكم و لجنة تحكيمهِ .. كذا المحطة لها أفراد من بوليس السكة حديد يقومون علي نظامها و مراعاته فلا يتعداه أحد ..
و كأن الكاتب يخبرنا عن زمانٍ كانت الخدمة بالمحطة علي أفضل ما كان و ليس كما الآن يشوبها كل الخلل ، من فوصي عارمة طالت كل قطاعاتها بل عامليها و موظفيها أيضا .. فيقول : ( الشاهد أن محطة هذه المدينة بالذات لها من الميزات و التفرد التي قلما تشاركها فيها محطاتٍ أخر ..الظلال و الجمال ..التنسيق البديع .. النظافة اللافتة .. المياه العذبة ..) هذا عن تنسيق الحدائق بالمحطة من أشجارٍ ظليله و تنسيق جميل للأزاهر .. و نظافةٍ تعم كل أرجائها .. فضلاً عن معمار بنايتها البديع ..
السكة حديد من ميراث الانجليز لنا .. بدأ يتفلت من بين أيدينا إلي أن تلاشي الآن او كاد ..
و يصف الكاتب وصول القاطرة إلي المحطة و الناس بين مودعٍ و مستقبلٍ كحال الدنيا .. ميلادٌ و استقبال .. موتٌ و وداعٌ ..
و أخيرا يكتمل الحدث بولوج القاطرة داخل المحطة و يزخر المشهد بحياة تموج بتدافع المسافرين نحو شباك التذاكر و صياح باعة متجولون و هتاف الركاب مع بعضهم : أن حمدا لله علي سلامة الوصول ..
و عن السياسة و فعلها .. يتحدث الكاتب بكل هدوء و لباقة - علي لسان بطل الرواية – توصل المعني دون أن تجرح الواقع الذي يحرم أفكار هذا الفصيل السياسي .. إذ يقول عن شخصية محمد المسالم ( مهموم هذا الرجل بالعمل العام – و إن شئت الدقة – قل بمشاكل المدينة و همومها .. يحس بكونها مظلومة .. و تفتقر إلي الخدمات الضرورية .. الصحة العامة .. صحة البيئة .. التعليم .. أنابيب الماء .. الكهرباء .. الاتصال .. الطرق ..ألخ
إنها بحاجة إلي نهضة كاملة .. زراعية تعمل علي تطبيق الحزم التقنية .. و تعمد إلي تنويع التركيبة المحصولية.. و صناعية تسعي إلي تصنيع جهد المزارع .. الطماطم البائرة .. و المانجو المعطوبة .. أين مصانع الصلصة ؟؟ أين تعليب الفاكهة ؟؟ أين مصانع النسيج و المحالج تهدر بالقطن المحلوج ؟؟ أين مصانع الزيوت ؟؟ و لماذا نصدر البذرة كخام ؟؟ و أين مصانع الطحنية و السمسم مكدس بقناطيره المقنطرة ؟؟)..
و كأن الكاتب يقول لنا واقع الحال و الازمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد ما كانت لتكون لو اننا إهتممنا بشأن الزراعة و طبقنا النظم الحديثه و التقنية التي تضاعف الانتاج و تصنيع المنتج منها ..
و لغة الكاتب تستوقفنا عند وصفه للسحب بالفتيات المتبرجات السائرات نحو
حفل عرس : ( و أخذت كتائب السحب و هن يتبرجن كأنهن سائرات إلي حفل عرس الرعود الوشيك فيما تجأر الرعود بالضحك المقهقه .. أم البروق فأخذن يومضن..) و جعل الرعود كأنها رجالٌ تتعالي أصواتهم بالضحك و القهقهة ..
صورٌ بلاغية حبيبة إلي النفس .. تبقي ما بقي الدهر ..لما لها من صديً و عطر ذكري يدل علي ذاك الزمان ..
و مما يكون في ذاك الموسم من عاداتٍ .. ختان الأطفال و طقوسها لارتباطها بزيارة النيل .. و هنا تبدو قضية ختان الإناث و رأي الكاتب حولها : ( وحدهن النساء يبقين في لحظتهن تلك .. الصراخ يتعالي و لا مفر .. ترتجف الضحايا وسط حشد النساء ..) الضحايا .. كلمةٌ واحدة قد قالت رأي الكاتب .. نعم هن ضحايا التقاليد و القيم البالية .. و قد قال العلم الحديث و الدين كلمته في هذا الشأن .. و صار لا عزر لأحدٍ بعد الآن في ختانهن !؟ ..
يقول الكاتب : ( السيرة تغادر النيل .. و تترك من عطرها أثرٌ باق .. و في نفسي بقية من ألم البنات اللائي سيلاقين مصيرهن بعد حين ..)
ثم يعود الكاتب للحديث عن السكة حديد مرةً أخري .. و هذه المرة تحديداً عن عمال الدريسة .. عمال صيانة خطوط السكة حديد ..و عن طبيعة عملهم و عن أجسامهم القوية .. و ما يقدم لهم من عونٍ يتمثل في أطعمةٍ مفيدة و مغذية مثل : القمح و الأرز و العدس و السمن و العسل و الجبنة المضفورة و ألزبده و الدقيق الفيني و الساردين و الفول المصري .. و غير ذلك ..لكنهم يبيعونها للحصول علي المال .. و يظل طعامهم : ( كسرة بائتة أو عصيدة بلا أدام أو قطعات من خبزٍ جاف عليها قليل من سكرٍ إن وجد .. أو في أحسن الأحوال قراصة من دقيق القمح يابسة ..) فيمرضون لفقر الطعام الذي يتناولونه من الفايتمينات اللازمة للجسم ..
يقول الكاتب عن هؤلاء العمال : ( لو أنهم كانوا يأكلون ما يصرفون لبدوا في أحسن حالٍ .. و أتم صحةٍ و قوةٍ .. ) .. ( لكنهم يحتاجون المال .. و المال عند التجار ..)
و هنا تبدو بصمة الأستاذ ( مبارك الصادق ) في تفجير قضايا المجتمع من خلال مجريات الحوار كلما وجد إلي ذلك سبيلا .. فلننظر إليه و هو يفجر هذه القضية إذ يقول : ( هنا ينطلق عبدالمنعم محمد بابكر .. يبشر بمذهبه الجديد متحدثاً عن الاستغلال و عن الشغيلة / ملح الأرض / و عن الوعي الطبقي / وفائض القيمة / و رأس المال / و البلوتاريا الرثة / ثم مشيراً إلي هؤلاء البسطاء في طبيعتهم الساذجة .. فهم يقدمون إلي الرأسمالية كل خيراتهم التي يأتون بها من الريف ليعودون بقبض الريح .. أنظر إلي البسطاء القادمين لنري ما ماذا يحملون ؟؟
إنهم يأتون باللبن و السمن و البيض و الدجاج و الحمام .. يبيعونه و يرجعون بماذا ؟؟ بالويكة الناشفة !!
تلك أسباب نحولهم و نشافهم ألا ترونهم كما السياط صاروا ؟؟)
و تلك لعمري معضلة الريف الغني الفقير .. غني بثرواته .. و فقيرٌ بإنسانه الذي يسعي لجمع المال و تكديسهِ .. فيدفع بخيراته كلها للتجار مقابل المال لا يبقي شيئاً لنفسه .. و هو في أشد الحوجة ..
قضية يفجرها الكاتب عن طريق شخصية ( عبد المنعم محمد بابكر ) صاحب ذاك الحزب و مذهبه الذي يعري واقع كل الأنظمة ببلادي ..
نعم بمدينة ( عطبرة ) كانت إدارة سكك حديد السودان بكامله .. فهي تقوم بدور الريادة فلا غرو أن كانت عاصمة الحديد و النار بمحطتها الكبرى و ورشها .. و عامليها .. و إنسانها و وسيلة نقله السائدة .. هي الدراجة .. إذ تعد المدينة الثانية في العالم في استخدام الدراجات و البسكليتات .. في كل بيت منها نجد ثلاثة أو أربعة دراجات ..
و عند ذكر الكاتب لمدينة عطبرة لابد له من التطرق للسياسة و شأنها .. إذ أنها مدينة الكفاح و النضال و النقابة .. و لكن الرقيب و أمر النشر كانا له بالمرصاد .. فأشار للأمر مجرد إشاراتٍ متفرقةٍ هنا و هناك ..
و عن انتماء سليمان السياسي .. يقول الكاتب : ( ثمة دعواتٍ تلقيناها للمشاركة و الاشتراك .. و أنا في مرحلة التكوين .. إلي أي جناحٍ أنتمي ؟؟ الإجابة ليست في الإمكان !! الانتماء إلي الأرض .. بل إلي الإنسان المسحوق .. هذه هي الطبقة العاملة و التي أدركت قوتها .. و تعمل الآن علي رفع صوتها .. لكنها مخترقة من بعض الجهات !! هو الكسب الحزبي و الاستقطاب ؟! )
يظن أنه لم يصرح بانتمائه الحزبي .. و قد وضح الأمر جلياً ..و عن أؤلئك النفر الذين ينتمي إليهم يتحدث عمن يخون عهدهم و يخترق صفهم بنقلهِ عنهم و تفشيل خططهم ..و يدعون لنبذ الخلاف و وحدة الصف
الكاتب ( مبارك الصادق ) جعل من المكان في هذه الرواية – صدي العشيات – جسداً له خوار.. ماثلاً أمام القارئ ..تجسده محطة السكة حديد ببنايتها و عامليها و مرتاديها تشمخ في ذاك الزمان .. و سامري الرواية الأستاذ : ( مبارك الصادق ) يسحرنا بجغرافية المكان.. مستنطقاً إياه كأنه شخصٌ من شخوص الرواية ..صارخاً بأحداثها .. فهو العنصر الأكثر رواجاً بالرواية ..
الرواية أعطت الحيز الجغرافي مساحةً كبري .. حيث تحدثت عن المكان و تضاريسه و إنسانه و حيوانه و طقسه .. فكان للجغرافية البشرية نصيباً وافياً من السرد .. و بذا جعلنا الكاتب نعيش في زمان و مكانِ الرواية كأننا جزءاً لا ينفصل عنه .. ممكناً لعملهِ الإبداعي من التغلغل في نفوسنا ..هذا عاملٌ .. و عاملٌ ثاني : واقعية الحدث .. بسرده لأماكن في الواقع بأزمنتها و أحداثها و ربما بشخوصها.. ليس بالضرورة واقعية السرد نصاً.. فالكاتب مهما هوم و طوف في الخيال فإنه قائلٌ عن بعض نفسه ..
هي ذكريات عهدٍ مضي من طفولةٍ و شباب .. نعمنا فيها معك أستاذنا الرائع : ( مبارك الصادق ) .. و شئت لها أن تخلد فكانت ( صدي العشيات ) ..