بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
ليست حادثة الإسراء والمعراج مجرد واقعة تتناولها الأقلام كحدث تاريخي مضى وانقضى عهده، أو معجزة لرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم انفصلت بزمانها عن واقعنا المعاش. وإنما هي معجزة حية باقية يتردد صداها عبر المكان والزمان وتستضيء القلوب بنورها الوهاج وسراجها المنير، فتسمو بذات المسلم وترقى به وتفتح أمامه أبواب القرب من الله. لقد كان الإسراء والمعراج جائزة كبرى لنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صدق ما عاهد الله عليه، وأبى إلا أن يقف صامداً شامخاً أمام قلاع الكفر وعتاة المشركين، ولاقى من الأذى ما لا قدرة لبشر غيره على تحمله حتى دميت قدماه، خاصة بعد فقده – صلّى الله عليه وآله وسلّم – . وتعود ذكرى الإسراء والمعراج لتملأ الأرجاء بأريج النبوة وتشد قلوب المسلمين إلى التأمل في هذا الحدث العظيم، الذي كرم الله به نبينا محمداً – صلّى الله عليه وآله وسلّم- ، فأذهب عنه الهم والغم وأكد مكانته عند ربه فعاد من الرحلة المباركة منشرح الصدر واثقاً بأن الله ناصره ومتم نوره. إن حكمة الله اقتضت أن يمر الرسول – صلّى الله عليه وآله وسلّم– خلال معراجه بمحطة أرضية هي بيت المقدس، كي يبشر الرسول – عليه الصلاة والسلام – ويبشر المؤمنين بانتصار يؤدي إلى عالمية الإسلام وتغلغله في أكثر المناطق صراعاً بين الحق والباطل. إن فلسطين بقعة مباركة، بل هي من أقدس البلاد وأشرفها، ولها في قلوب المسلمين جميعاً مكانة سامية. وتحتل مدينة القدس مكاناً مميزاً في نفوس العرب والمسلمين، حيث تهفو إليها نفوس المسلمين، وتشد إليها الرحال من كل أنحاء المعمورة، ففيها المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين، وثاني المسجدين، وفيها التاريخ الإسلامي العريق الذي يزرع نفسه بقوة في كل شارع من شوارعها، وكل حجر من حجارتها المقدسة، وكل أثر من آثارها. لقد ربط الله سبحانه وتعالى بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في الآية الأولى التي افتتحت بها سورة الإسراء سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1 ) ، وذلك حتى لا يفصل المسلم بين هذين المسجدين، ولا يفرط في واحد منهما، فإنه إذا فرط في أحدهما أوشك أن يفرط في الآخر، فالمسجد الأقصى ثاني مسجد وضع لعبادة الله في الأرض
ومن المعلوم أن رحلة الإسراء بدأت من المسجد الحرام وانتهت بالمسجد الأقصى، وفي ذلك ربط للمسجدين لن يزول مهما فعل المحتلون، حيث جعل الله سبحانه وتعالى المسجد الأقصى توأماً لشقيقه المسجد الحرام كما جاء في قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى...
فارتباط المسلمين بالمسجد الأقصى ارتباط عقدي، لأن حادثة الإسراء من المعجزات، ولأن المعجزات جزء من العقيدة الإسلامية. ففي المسجد الأقصى المبارك صلى رسولنا محمد –صلّى الله عليه وآله وسلّم–،
. إن مدينة القدس تتعرض لهجمة شرسة على أيدي المحتلين، فهم يعملون ليل نهار على تهويدها، بعد أن عزلوها عن محيطها الفلسطيني من خلال جدار الفصل العنصري، وكذلك بناء آلاف الوحدات السكنية على الأراضي الفلسطينية في مدينة القدس، ومحاولة الاستيلاء على البيوت المحيطة بالمسجد الأقصى المبارك، وطرد سكانها الفلسطينيون منها، وما تقوم به سلطات الاحتلال الإسرائيلي يومياً من قتل للمواطنين، وهدم للبيوت وتدمير للمصانع والمؤسسات، وتجريف الأراضي الزراعية، ومحاربة العمال في لقمة عيشهم، وفرض الحصار الاقتصادي والسياسي على الشعب الفلسطيني ليس عنا ببعيد. كما يتعرض المسجد الأقصى المبارك في هذه الأيام لمؤامرات عديدة منها تقويض بنيانه وزعزعة أركانه جراء الحفريات الإسرائيلية المستمرة للأنفاق أسفل منه، وكذلك محاولات السلطات الإسرائيلية إقامة ما يُسمىّ بالهيكل المزعوم بدلاً منه، ومنع المصلين من الوصول إليه، ومنع ترميمه.
دروس من الإسراء والمعراج
تعلمنا أحداث الإسراء والمعراج بأن المسلمين أحوج ما يكونون اليوم أن يستلهموا من هذه المواقف الكريمة المعالم التي تنير طريقهم وتهديهم سواء السبيل بعد أن ضلت بهم الأهواء والنزاعات، فمن منطلق ذكرى الإسراء والمعراج تأتي حاجة الأمتين العربية والإسلامية إلى أن يوحدوا كلمتهم ويجمعوا صفوفهم ويعودوا متحابين متآلفين، فالله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (). كما ينبغي أن نأخذ من ذكرى الإسراء والمعراج الدرس الذي ينقصنا في مواجهة ما نحن فيه من مصاعب فعندما تشتد الأزمات يكون السبيل إلى الخلاص منها بالثقة في الله وصفاء النفوس، وإتباع ما أمر الله والانتهاء عما نهى عنه. كما تعلمنا أحداث الإسراء والمعراج أن مع العسر يسرا وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب، فما أحوج المسلمين في هذه الأيام الصعبة، التي كثرت فيها الفتن، وادلهمت فيها الخطوب، إلى أن يتذكروا صعاباً قاساها النبي الكريم
أن الأمل يأتي بعد الألم، وأن المحن تسبق المنح، وأن الضيق يأتي بعده الفرج، وأن مع العسر يسراً، فقد علمنا القرآن الكريم هذه المفاهيم ليؤصل فينا عدم اليأس والقنوط، والاستبشار دائماً، والثقة في نصر الله لعباده المؤمنين، مهما ضاقت بهم السبل، وتقطعت بهم الأسباب، فهذه سنة الله في خلقه، ليمحص المؤمنين ويمحق الكافرين، قال الله تعالى أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ (7). كما نتعرف من خلال دراستنا لحادثة الإسراء والمعراج على مكانة المسجد الأقصى المبارك والقدس وفلسطين، وأن المسجد الأقصى المبارك شقيق للمسجد الحرام بمكة المكرمة، وهذه العلاقة الوثيقة بين المسجدين توجب على الأمتين العربية والإسلامية مساندة هذا الشعب، ودعم المرابطين في بيت المقدس، وأكناف بيت المقدس
. القدس تقول لكم: سوف يتراجع الظلم، وينهزم الأعداء، فالليل مهما طال فلا بد من بزوغ الفجر، وإن الفجر آتٍ بإذن الله رغم أعداء أمتنا كلهم. اللهم اجمع شملنا، ووحد كلمتنا، وألف بين قلوبنا... يا رب العالمين