تقليد الأكفأ ... وإفساح الطريق للمتميزين
من سنن الله عز وجل أنَّ تَقَدم المجتمعات أصبح رهنًا بأن يسودها مناخ صحي يتمثل في تجديد دماء أبنائها، وتوريث خبراتهم وانتقالها من جيل إلى جيل، ومن ثَمَّ توافق هذه الأجيال وعدم صراعها، فكل جيل فيها يتفهم أدوار الأجيال الأخرى، ويستفيد منها، ويحسن الإصغاء إليها.
وتتقدم المجتمعات وترتقي -أيضًا- حين يقودها الأكفاء في كل ميدان، ويتطلب هذا بلا شك الدقة واليقظة في الاختيار والإعداد، وإذا كانت هذه الدقة مطلوبة في كل الوظائف، فكيف بوظيفة القائد الذي يوجه الصفوف؟!
ولذلك خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منهجًا في البحث عمن هم أولى بالقيادة في المجتمع، وتوليتهم مقاليد الأمور.
فمن الأمانة انتقاء أفضل العناصر، وتقليد أكفأ الناس الذين يناسبون المواقف، ولم يتردد الرسول صلى الله عليه وسلم في تولية من هو أكفأ للمهمة؛ فيولي خالد بن الوليد إمارة الجيش وقيادته، بالرغم مِن أنَّ الجيش فيه من هو أقدم منه سنًا ومكانة وإسلامًا، ولكن خالدًا في كل هذه المواقف كان الأولى، ولم تكن معايير الانتقاء هنا هي معايير السبق أو الإيمان أو السن، ولكنها كانت معايير الأكفأ للمهمة.
ويُثني رسول الله صلي الله عليه وسلم علي أبي ذر الغفاري رضي الله عنه بقوله: "مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ، وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مِثْلِ عِيسَى فِي الزُّهْدِ فَلْيَنْظُرْ لأَبِي ذَرٍّ"[1].
ولكنه في الوقت ذاته يُجنبه الإمارة وتبعاتها عندما سألها؛ لأنه لم يكن رجل الموقف، ويبين له خطورتها، عن أبي ذر قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةُ وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا!"[2]
كما كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "إنَّ من أصحابي من أرجو دعوته، وأرد شهادته. ولما أراد النبي صلى الله عليه وسلم ملاقاة الروم أعدَّ جيشًا كبيرًا وأمَّر عليه أسامة بن زيد بن حارثة، ولما كان أسامة شابًا لا يتجاوز الثامنة عشر، فإنَّ بعضهم ساءته هذه الإمارة، واعترضوا أن يقودَ الرجال شاب حدث، فردَّ صلى الله عليه وسلم على انتقاد الناقدين بقوله: "لئن طعنتم في تأميري أسامة، لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله؟! وأيم الله إن كان لخليقا بالإمارة، وإن ابنه من بعده لخليق بها [3]، وإن كان لمن أحبّ الناس إليّ"[4].
يقول الشيخ محمد الغزالي معلقًا علي موقف الرسول صلي الله عليه وسلم مع أسامة بن زيد رضي الله عنه: لا شك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يلتفت في ولايته إلا إلى الجدارة، فمن استحق منصبًا بكفايته قدَّمه له غير مكترث بحداثة سنة. فإنَّ كبر السن لا يهب للأغبياء عقلًا، ولا الصغر يُنقص الأتقياء فضلًا.
ومن المواقف التي تُؤكِّد لنا أنَّ أختيار الأكفاء، وإسناد الأمر إليهم في منهج الرسول صلى الله عليه وسلم كان خطًا أصيلاً ومنهجًا لصناعة التميز في الحياة، وأنَّ هذا المنهج لم يكن حادثًا عارضًا، ما رواه الترمذي في سياق البحث عن وسيلة لجمع الناس على الصلاة, وقال: "لما أصبحنا أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالرؤيا فقال: "إنَّ هذه لرؤيا حق فقم مع بلال فإنه أندى وأمد صوتًا منك؛ فألق عليه ما قيل لك وَلِيُناد بذلك"
إنه صلى الله عليه وسلم يرنو إلى المجتمع النظيف الذي لا يلوثه المحسوبيات ويود أنَّ قاطرة هذا المجتمع متميزة ومتفردة؛ لأنها محل القدوة والنظر، فكان صلى الله عليه وسلم يبحث عن التميز ويقدمه، ويبحث عن الأكفأ ليقلده الأمور.
واذا كان النبي صلي الله عليه وسلم حريصًا على أن يقدم الأفضل في إمامة المسلمين في الصلاة التي وقتها محدود، ونسكها معروفة لكل مسلم، وكل من صحت صلاته لنفسه صحت لغيره، فكيف بقيادة المواقف والأحداث؟!
عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْمَلُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا وَلَا يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ"[5]
الأثار السلبية للابتعاد عن هدي النبي في هذا الشأن
في الوقت الذي نربط فيه الحكمة والمسئولية بكبار السن فقط، نكون قد أهدرنا طاقات متعددة في المجتمع كان يمكن لها أن تشارك وتبسط رؤيتها فمشاركة الشباب ينبغي أن تكون مأمولة ومستهدفة، فهؤلاء الشباب هم رجال الغد وإهمالهم أو تجاوزهم يضر بمصلحة المجتمع.
وعندما تشعر هذه الشريحة من المجتمع أنَّ مؤهلاتها وقدراتها ليست محل تقدير حتمًا ستختفي مبادئها، و تقل مسؤوليتها، وِمن ثمَّ تعقم الشعوب وتتوقف عن دفع العناصر الواعدة، وضخ الدماء الجديدة مما يصيب المجتمعات بخلل حقيقي.
وينبغي أن تكون الأجيال الجديدة شريكًا أساسيًا في عملية اتخاذ القرار على كل مستوياته إذ إن الوصاية عليهم أو استبعادهم من جوهر العمل العام هي أمور سوف تؤدي بالضرورة إلى عملية انقطاع حقيقي وفجوة كبيرة قد لا تشعر بها الشعوب ولا تدركها المجتمعات إلا بعد فوات الأوان، لذلك فإنَّ الأمر يحتاج إلى عناية زائدة وشفافية كاملة على نحو يوجد مصداقية بين الأجيال، ولا يعبث بدرجة الاحترام المتبادل بينها.
ويجب أن ندرك أنَّ الشعوب المتقدمة قد استطاعت أن تقيم تزاوجًا منسجمًا بين حماس الشباب وحكمة الشيوخ؛ لأننا إذ لم نعطِ الأجيال الجديدة حقها ونضعها في مواقع المسؤولية المباشرة ضمن شرائح العمر الوسطي على أكثر تقدير فإننا لن نكون قادرين على الاعتماد عليها أو تحميلها مسؤولية المستقبل بتبعاته الثقال وتوابعه الضخمة، كما أنَّ في عدم تقليد الأكفأ اضطراب ميزان القيم، وتضييع للأمانة التي ينبغي أن يحافظ عليها المجتمع.
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يوسد الأمر لأهله، قال صلى الله عليه وسلم: "إِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ" قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قال: "إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ" [6]
الآثار الإيجابية للهدي والتوجيه النبوي "عندما نقلد الأكفأ"
- سيعتدل ميزان العدل في المجتمع.
- سَتُقَر قاعدة أنَّ البقاء للأصلح.
- سيتنافس المجتمع تنافسًا شريفًا.
- سيشعر الجميع أنَّ مجال التمايز هو القدرات والإمكانات، ومن ثم سيسعون لتطوير قدراتهم وإمكاناتهم.
- سيتم تجويد الأداء وتحسينه.
وعندما يتسع المجال للشباب:
1- سندفع بشريحة عمرية كبيرة للمشاركة.
2- سيتم توريث الخبرات وانتقائها من جيل إلي جيل.
3- سيحدث التغيير والتطوير؛ لأن الشباب أجرأ من كبار السن على التغيير و التطوير.
4- ستستفيد الأمة من كل طاقات أبنائها.
5-سنحافظ على العلاقة النفسية والاجتماعية الصحيحة بين الأجيال المختلفة.
كيف يمكن إقرار هذه القيمة في واقعنا المعاصر؟!
ينبغي أن نفطن على كل المستويات، في أعمالنا العامة، وفي أعمالنا التطوعية، إلى أهمية تولية الأكفاء للمسؤولية، والبعد عن الوساطات والمحسوبيات والتريث في عملية الاختيار، وأن تكون المفاضلة بين المتقدمين بناء على مدى ملاءمتهم للمكان، ومدى ملاءمة المكان ومناسبته لهم.
كما ينبغي أن يستقر في إدراكنا وتصوراتنا وواقعنا العلمي أن منافاة هذه القيم المجتمعية الصحيحة يمثل إهدارًا لطاقات الأمة.
و يمكن عرض بعض المقترحات في هذا الشأن:
1-تخصيص نسبة من القيادات الشابة في أي مؤسسة خاصة أو حكومية أمر ينبغي مراعاته.
2-أن يعطى الشباب الفرصة لمعاونة القيادات القديمة ذات الخبرة للاستفادة منهم واستيعاب خبراتهم.
3- التخلي عن مبدأ الأقدمية واختيار القيادات من خلال عملية انتقاء واختيار بناء على المهارات التي يتطلبها الدور أو الموقع الذي تجري عملية الاختيار له.
4-تقويم أداء أي موقع بمستهدفات واقعية وطموحة بشكل محسوب، بحيث يتم إحلال القيادات وتبوته لهذا الموقع طبقًا لتحقيقها لهذه المستهدفات سواء "أكبرت أم صغرت".
5-تحويل الاهتمام بالقدرات والكفاءات وتبوئها مواقعها إلى ثقافة يعيشها الجميع علي مختلف المستويات.
6- تكوين لجان استشارية من القيادات القديمة في أي موقع أو مؤسسة تعد القيادات الشابة بتصوراتها لحلول المشكلات التي تعرض عليها، دون أن يكون لهذا القيادات حتمية الالتزام بها بحيث يكون رأيهم استشاريا.
7- إشراك الطلاب في مراحلهم التعليمية والسنية المختلفة في اتخاذ القرار في مدارسهم وفي مجالس الآباء .
8- تعليم الأبناء و تدريبهم علي مبادئ العمل الجماعي، قادة ومقودين.
9- غرس أخلاقيات القيادة وتبعاتها، وأنها تكليف وليست تشريفًا وأن الفرد يستعد قيمته من انتسابه للمجموع ومدى قدرنه علي الإسهام في دفع العمل وليس من كونه قائدًا للعمل.
[1] أحمد عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ.
[2] مسلم كتاب الإمارة.
[3] لجدير.
[4] رواه الإمام مالك ورواه الشيخان عن ابن عمر.
[5] البخاري.
[6] البخاري.
- قصة الإسلام