المنصور الموحدي وملك قشتالة
بعد القضاء على ثورات بني غانية أخذ المنصور الموحدي يُفَكِّر في كيفية إعادة الوضع إلى ما كان عليه، وإيقاف أطماع النصارى في بلاد الأندلس، علم أوَّلاً أن أشدَّ قوَّتين عليه هما قوَّة قشتالة وقوة البرتغال، لكنه استقبل رسالة من ملك قشتالة يسعى فيها إلى الصلح والمهادنة، بل ويعرض عليه أن يُحالفه ضدَّ مَنْ يشاء من أعداء أبي يوسف وأبناء ملَّة ملك قشتالة، وذكر أبو يوسف في رسالته أنه بعد أن روَّى في الأمر واستخار عزم على إجابة مطلب ملك قشتالة فقَبِلَ مسالمته، بما لا يتعارض مع عزَّة الإسلام والمسلمين[1].
المنصور الموحدي وملك البرتغال
وفي سنة (585هـ)، جاء عدوانُ ملك البرتغال ألفونسو هنريكيز؛ يروي عبد الواحد المراكشي فيقول: «قَصَدَ بطرو بن الريق[2] -لعنه الله- مدينة شلب من جزيرة الأندلس فنزل عليها بعساكره، وأعانه من البحر الإفرنج بالبطس[3] والشواني[4]، وكان قد وَجَّه إليهم يستدعيهم إلى أن يُعِينُوه على أن يجعل لهم سبي البلد، وله هو المدينة خاصة، ففعلوا ذلك ونزلوا عليها من البر والبحر فملكوها، وسبوا أهلها، وملك ابن الريق -لعنه الله- البلد، وتجهَّز أمير المؤمنين في جيوش عظيمة، وسار حتى عبر البحر، ولم يكن له هَمٌّ إلا مدينة شلب المذكورة، فنزل عليها، فلم تطق الروم دفاعه، وخرجوا عنها وعما كانوا قد ملكوه من أعمالها، ولم يكفِهِ ذلك حتى أخذ حصنًا من حصونهم عظيمًا يقال له: طرش»[5].
ثم عاد يعقوب المنصور إلى عاصمته مراكش في المغرب العربي بعد هذا النصر المؤزر على البرتغال، والهدنة مع قشتالة، وبقيت طائفة أخرى لم تصالح المنصور، وهي التي ستكون السبب في الحرب القادمة.
هجمات الممالك النصرانية
بعد أقل من خمس سنوات «جمعت تلك الطائفة (التي لم تصالح) جمعًا من الفرنج وخرجوا إلى بلاد الإسلام، فقتلوا وسبوا، وغنموا وأسروا، وعاثوا فيها عيثًا شديدًا»[6]، ثم ما لبث أن اجتمع معهم ألفونسو الثامن بعد انقضاء مدة الهدنة التي كانت بينه وبين المنصور الموحدي، فبعث إلى جميع الثغور الإسلامية يُنذر بانتهاء الهدنة -وكان المنصور منشغلاً بمعاركه في المغرب ضد الخارجين عليه من بني غانية وغيرها- ثم بعث بقادته إلى مختلف أنحاء الأندلس يُغيرون عليها ويُثخنون فيها، وقد مال المنصور إلى الانتهاء من أمر المتمردين أولاً، لولا أن توالت كتب أهل الأندلس عليه تُشير باشتداد وطأة العدو إلى ما لا يطاق، فعدل عن عزمه وبدأ في التفكير صوب العبور إلى الأندلس[7].
إعلان الجهاد في الأندلس
وقبل هذا الوقت بسنوات قلائل كان المسلمون في كل مكانٍ يعيشون نشوة النصر الكبير الذي حقَّقه صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في موقعة حطين الخالدة في سنة (583هـ= 1187م)؛ أي: قبل هذه الأحداث بسبع سنوات فقط، وما زال المسلمون في المغرب يعيشون هذا الحدث الإسلامي الكبير، ويتمنَّوْنَ ويُريدون أن يُكَرِّرُوا ما حدث في المشرق؛ خاصَّة بعد أن قام المنصور الموحدي بتحفيزهم في الخروج إلى الجهاد، فتنافسوا في ذلك {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المططفين: 26].
كان ثمة جيش جاهز لمواجهة المتمردين على المنصور، ولكن لما تغيرت الوجهة أقبل المجاهدون المتطوعة، وقد بدأ هذا الاستنفار في سنة (590هـ=1194م)، وبعدها بعام واحد وفي سنة (591هـ=1195م) انطلقت الجيوش الإسلامية من المغرب العربي والصحراء وعبرت مضيق جبل طارق إلى بلاد الأندلس؛ لتلتقي مع قوَّات الصليبيين الرابضة هناك في موقعة ما برح التاريخ يذكرها ويُجِلُّها[8].
معركة الأرك
الأرك: حصن على بُعْدِ عشرين كيلو مترًا إلى الشمال الغربي من قلعة رباح، على أحد فروع نهر وادي آنة، ومحلُّها اليوم: (Sta Maria de Alarcos) غرب المدينة الإسبانية الحديثة (giadad real) «المدينة الملكية»، والأرك نقطة الحدود بين قشتالة والأندلس في حينه[9].
وفي التاسع من شهر شعبان سنة (591هـ=1195م) وعند هذا الحصن الكبير الذي يقع في جنوب طليطلة على الحدود بين قشتالة ودولة الأندلس، في ذلك الوقت التقت الجيوش الإسلامية مع جيوش النصارى هناك[10]، وكان ألفونسو الثامن قد أعدَّ جيشه بعد أن استعان بمملكتي ليون ونافار، في قوَّة يبلغ قوامها خمسة وعشرين ألفًا ومائتي ألف نصراني، وقد أحضروا معهم بعض جماعات من اليهود لشراء أسرى المسلمين بعد انتهاء المعركة لصالحهم؛ ليتمَّ بيعهم بعد ذلك في أوربا [11].
وعلى الجانب الآخر فقد أعدَّ أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي جيشًا كبيرًا، بلغ قِوَامه مائتي ألف مسلم([12]) من جرَّاء تلك الحمية، التي كانت في قلوب أهل المغرب العربي وأهل الأندلس على السواء؛ خاصة بعد انتصارات المسلمين في حطين (583هـ= 1187م) في الشرق.
المجلس الاستشاري
في منطقة الأرك وفي أول عمل له عقد المنصور الموحدي مجلسًا استشاريًّا يستوضح فيه الآراء والخطط المقترحة في هذا الشأن، ولقد كان هذا على غير نسق كل القادة الموحدين السابقين له، والذين غلب عليهم التفرُّد في الرأي، فسار على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر، وفي هذا المجلس الاستشاري استرشد أبو يوسف يعقوب المنصور بكل الآراء؛ حتى إنه استعان برأي أبي عبد الله بن صناديد في وضع خطَّة الحرب، وهو من الزعماء الأندلسيين وليس من قبائل المغرب البربرية، وكان هذا -أيضًا- أمرًا جديدًا على دولة الموحدين، التي كانت تعتمد على جيوش المغرب العربي فقط، فضمَّ أبو يوسف يعقوب المنصور قوَّة الأندلسيين إلى قوَّة المغاربة والبربر القادمين من الصحراء[13].
الاستعداد ووضع الخطط
في خُطَّة شبيهة جدًّا بخطَّة معركة الزلاقة قَسَّم المنصور الموحدي الجيش إلى نصفين، فجعل جزءًا في المقدمة، وأخفى الآخر خلف التلال، وكان هو على رأسه، ثم اختار أميرًا عامًّا للجيش، هو كبير وزرائه أبو يحيى بن أبي حفص، وقد ولَّى قيادة الأندلسيين لأبي عبد الله بن صناديد؛ وذلك حتى لا يُوغر صدور الأندلسيين وتضعف حماستهم حين يتولَّى عليهم مغربي أو بربري[14].
وإتمامًا لهذه الخطة فقد جعل الجزء الأول من الجيش النظامي الموحدي ومن الأندلسيين، «فجعل (أميرُ الجيش أبو يحيى) عسكر الأندلس في الميمنة، وجعل زناتة والمصامدة والعرب وسائر قبائل المغرب في الميسرة، وجعل المتطوعة والأغزاز (المماليك المصريون) والرماة في المقدمة، وبقي هو في القلب في قبيلة هنتاتة»[15].
وعند اكتمال الحشد وانتهاء الاستعداد للقتال أرسل الأميرُ الموحدي رسالة إلى كل المسلمين، يقول فيها: إن الأمير يقول لكم: اغفروا له؛ فإنَّ هذا موضع غفران، وتغافروا فيما بينكم، وطَيِّبُوا نفوسكم، وأخلصوا لله نيَّاتكم. فبكى الناس جميعهم، وأعظموا ما سمعوه من أميرهم المؤمن المخلص، وعلموا أنه موقفُ وداعٍ، ثم قام الخطباء يخطبون عن الجهاد ويُذَكِّرون بفضله وشرفه ومكانته ويُحَمِّسون الجند له[16]، «فنشط الناس، وطابت النفوس، ومن الغد صدع بالنداء، وبأخذ السلاح والبروز إلى اللقاء»[17].
اللقاء المرتقب
في تلك الموقعة كان موقع النصارى في أعلى تلٍّ كبير، وكان على المسلمين أن يُقَاتِلوا من أسفل ذلك التلِّ، لكن ذلك لم يَرُدّ المسلمين عن القتال، وقد بدأ اللقاء ونزل القشتاليون كالسيل الجارف..
ولنترك ابن أبي زرع يروي قصة المعركة، يقول:
«تحرَّك من جيش العدوِّ - دمَّره الله تعالى- عقدة كبيرة من سبعة آلاف فارس إلى ثمانية آلاف فارس، كلهم قد احتجب بالحديد والبيضات والزَّرَد[18] النظيف النضيد، فدُفعت نحو عسكر المسلمين... فوصلت تلك العقدة التي دفعت بأجمعها حتى لطمت أطرافُ رماح المسلمين في صدور خيلهم أو كادت، ثم تقهقروا قليلاً، ثم عادوا بالحملة. فعلوا ذلك مرتين، ثم تهيئوا للدفعة الثالثة، والقائد ابن صناديد والزعيم العربي يناديان برفع أصواتهما: اثبتوا معشر المسلمين؛ ثَبَّت الله أقدامكم بالعزمة الصادقة.
فدفع النصارى على القلب الذي فيه أبو يحيى؛ قاصدين إليه يظنون أنه أمير المؤمنين، فقاتل –رحمه الله- قتالاً شديدًا وصبر صبرًا جميلاً، حتى استشهد واستشهد معه جماعة من المسلمين من هنتاتة والمطوعة، وغيرهم ممن ختم الله تعالى له بالشهادة، وسبقت له من الله تعالى السعادة.
وصبر المسلمون صبرًا جميلاً، ورجع النهار بالغبار ليلاً، وأقبلت قبائل المطوعة والعرب والأغزاز والرماة، وأحاطوا بالنصارى الذين دفعوا من كل جانب، ودفع القائد ابن صناديد بجيوش الأندلس وحشودها، وزحفت معه قبائل زناتة والمصامدة وغمارة وسائر البربر إلى الربوة التي فيها ألفونسو الثامن -لعنه الله- يُقاتلون مَنْ فيها من جيش الروم.
وكان ألفونسو -لعنه الله- فيها مع جيوش الروم وجميع عساكره وأجناده فيما يزيد على ثلاثمائة ألف، ما بين فارس وراجل، فتعلَّق المسلمون بالربوة وأخذوا في قتال مَنْ بها فاشتدَّ القتال، وعظمت الأهوال، وكثر القتل في النصارى الذين دفعوا في الحملة الأولى، وكانوا نحو العشرة آلاف زعيم، انتخبهم اللعين ألفونسو الذميم، وصَلَّتْ عليه الأقسة([19]) صلاة النصر، ورَشُّوا عليهم ماء المعمودية في الطهر، وتحالفوا بالصلبان ألاَّ يفروا حتى لا يتركوا من المسلمين إنسانًا، فصدق الله U وعده، ونصر جنده.
فلمَّا اشتد القتال على الكفار، وأيقنوا بالفناء والبوار، وَلَّوُا الأدبار، وأخذوا في الفرار، إلى الربوة التي فيها ألفونسو ليعتصموا بها، فوجدوا عساكر المسلمين قد حالوا بينهم وبينها، فرجعوا على أعقابهم ناكصين في الوطا، فرجعت عليهم العرب والمطوعة وهنتاتة والأغزاز والرماة فطحنوهم طحنًا، وأَفْنَوْهم عن آخرهم، وانكسرت شوكة ألفونسو بفنائهم؛ إذ كان اعتماده عليهم، وأسرعت خيل من العرب إلى أمير المؤمنين، وأطلقوا أَعِنَّتهم نحوه، وقالوا له: قد هزم الله تعالى العدو.
فضربت الطبول، ونشرت الرايات، وارتفعت الأصوات بالشهادة، وخفقت البنود، وتسابقت لقتال أعداء الله الأبطالُ والجنودُ، وزحف أمير المؤمنين بجيوش الموحدين، قاصدًا لقتال أعداء الله الكافرين، فتسابقت الخيل وأسرعت الرجال، وقصدوا نحو الكفرة، للطعان والنزال، فبينما ألفونسو الثامن -لعنه الله- قد همَّ وعزم أن يحمل على المسلمين بجميع جيوشه، ويصدهم بجنوده وحشوده؛ إذ سمع الطبول عن يمينه قد ملأت الأرض، والأبواق قد طبقت الرُّبَا والبطاح، فرفع رأسه لينظر فيها، فرأى رايات الموحدين قد أقبلت، واللواء الأبيض المنصور في أولها عليه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لا غالبَ إلى الله. وأبطال المسلمين قد تسابقت وجيوشهم قد تناسقت وتتابعت، وأصواتهم بالشهادة ارتفعت، فقال: ما هذا؟ فقيل له: هذا أمير المؤمنين قد أقبل، وما قاتلك اليوم كله إلاَّ طلائع جيوشه، ومُقَدِّمات عساكره، فقذف الله عز وجل الرعب في قلوب الكافرين، ووَلَّوُا الأدبار منهزمين، وعلى أعقابهم ناكصين.
وتلاحقت به فرسان المجاهدين، يضربون وجوههم وأدبارهم، ويقتفون آثارهم، ويُحكمون فيهم رماحهم وشفارهم، ويروون من دمائهم السيوف، ويُذيقونهم مرارة الحتوف، وأحاط المسلمون بحصن الأراك، وهم يظنون أن ألفونسو -لعنه الله- قد تحصَّن فيه، وكان عدو الله قد دخل فيه من باب، وخرج من الناحية الأخرى، فدخل المسلمون الحصن بالسيف عَنوة، وأضرموا النيران في أبوابه، واحتووا على جميع ما كان فيه وفي محلة النصارى من الأموال والذخائر والأرزاق، والأسلحة والعدد، والأمتعة والدواب، والنساء والذرية، وقُتل في هذه الغزاة من الكفرة ألوف لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، ولا يَعلم لها أحدٌ عددًا إلاَّ الله تعالى.
وأخذ في حصن الأراك من زعماء الروم أربعة وعشرون ألف فارس أسارى، فامتنَّ عليهم أمير المؤمنين، وأطلقهم بعدما ملكهم؛ ليكون له بذلك يد الامتنان ويدٌ عُلْيَا عليهم، فعزَّ فعله ذلك على الموحدين وعلى كافَّة المسلمين، وحُسِبَتْ له تلك الفعلة سقطة من سقطات الملوك»[20].
حصن الأرك وبجانبه وقعت المعركةطارت أخبار النصر في كل مكان، ودوت أخبار ذلك الانتصار العظيم على منابر المسلمين في أطراف دولة الموحدين الشاسعة؛ بل وصلت هذه الأخبار إلى المشرق الإسلامي، وكانت سعادةً لا تُوصف؛ خاصَّة وأنها بعد ثمانية أعوام فقط من انتصار حطين العظيم.
قال المقري: وكان عدة مَنْ قُتِل من الفرنج - فيما قيل - مائة ألف وستَّة وأربعين ألفًا، وعدة الأسارى ثلاثين ألفًا، وعدة الخيام مائة ألف وستَّة وخمسين ألف خيمة، والخيل ثمانين ألفًا، والبغال مائة ألف، والحمير أربعمائة ألف، جاء بها الكفَّار لحمل أثقالهم؛ لأنَّهم لا إبل لهم، وأمَّا الجواهر والأموال فلا تُحصى، وبِيع الأسير بدرهم[21]، والسيف بنصف درهم، والفرس بخمسة دراهم، والحمار بدرهم، وقَسَّم يعقوب الغنائم بين المسلمين بمقتضى الشرع، ونجا ألفونسو ملكُ النصارى إلى طليطلة في أسوأ حال، فحلق رأسه ولحيته، ونكس صليبه، وآلى أن لا ينام على فراش، ولا يقرب النساء، ولا يركب فرسًا ولا دابَّة؛ حتى يأخذ بالثأر، وصار يجمع من الجزائر والبلاد البعيدة ويستعدُّ، ثم لقيه يعقوب وهزمه، وسار خلفه إلى طُلَيْطِلَة وحاصره، ورمى عليها بالمجانيق، وضيَّق عليها، ولم يبقَ إلا فتحُها، فخرجت إليه والدة ألفونسو وبناته ونساؤه وبَكَيْنَ بين يديه، وسألنه إبقاء البلد عليهن، فرقَّ لهن ومَنَّ عليهن بها، ووهب لهنَّ من الأموال والجواهر ما جَلَّ، وردَّهُنَّ مكرماتٍ، وعفا بعد القدرة، وعاد إلى قُرْطُبَة، فأقام شهرًا يُقَسِّم الغنائم[22].
نتائج انتصار الأرك
تمخَّض عن انتصار الأرك الكبير آثار ونتائج عظيمة؛ أهمُّها ما يلي:
الهزيمة الساحقة لقوات النصارى
كان من أهمِّ آثار انتصار الأرك تَبَدُّدُ جيش النصارى بين القتل والأسر؛ فقد قُتِلَ منهم في اليوم الأول فقط -على أقل تقدير- ثلاثون ألفًا، وقد جاء في نفح الطيب للمقري أن عدد قتلى النصارى وصل إلى ستة وأربعين ألفًا ومائة ألف قتيل، من أصل خمسة وعشرين ألفًا ومائتي ألف مقاتل، وكان عدد الأسرى بين عشرين وثلاثين ألف أسير[23]، وقد مَنَّ عليهم المنصور الموحدي بغير فداء؛ إظهارًا لعظمة الإسلام ورأفته بهم، وعدم اكتراثه بقوَّة النصارى[24].
النصر المادي
رغم الكسب المادي الكبير جدًّا، إلاَّ أنه كان أقلَّ النتائج المترتبة على انتصار المسلمين في موقعة الأرك؛ فقد حصد المسلمون من الغنائم ما لا يُحصى، وقد بلغت -كما جاء في نفح الطيب- ثمانين ألفًا من الخيول، ومائة ألفٍ من البغال، وما لا يُحصى من الخيام[25].
وقد وزَّع المنصور الموحدي –رحمه الله- هذه الأموال الضخمة وهذه الغنائم كما كان يفعل رسول الله r؛ فوزَّع على الجيش أربعة أخماسها، واستغلَّ الخمس الباقي في بناء مسجد جامع كبير في إشبيلية؛ تخليدًا لذكرى الأرك، وقد أنشأ له مئذنة سامقة يبلغ طولها مائتي متر، وكانت من أعظم المآذن في الأندلس في ذلك الوقت، إلاَّ أنها - وسبحان الله! - حين سقطت إشبيلية بعد ذلك في أيدي النصارى تحوَّلت هذه المئذنة -والتي كانت رمزًا للسيادة الإسلامية- إلى برج نواقيس للكنيسة، التي حَلَّت مكان المسجد الجامع[26]، وهي موجودة إلى الآن، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
النصر المعنوي
كان من نتائج موقعة الأرك -أيضًا- ذلك النصر المعنوي الكبير الذي ملأ قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ فقد ارتفع نجم دولة الموحدين كثيرًا، وارتفعت معنويات الأندلسيين، وهانت عليهم قوَّة النصارى، وارتفعت -أيضًا- معنويات المسلمين في كل بلاد العالم الإسلامي؛ حتى راحوا يعتقون الرقاب، ويُخْرِجُون الصدقات فرحًا بهذا الانتصار.
وكان من جرَّاء ذلك -أيضًا- أن استمرَّت حركة الفتوح الإسلامية، واستطاع المسلمون فتح بعض الحصون الأخرى، وحاصروا طليطلة إلاَّ أنها -كما ذكرنا من قبل- كانت من أحصن المدن الأندلسية؛ فلم يستطيعوا فتحها[27].
صراعات شتى بين ممالك النصارى
نتيجةً لموقعة الأرك أيضًا حدثت صراعات شتَّى بين ليون ونافار من ناحية، وبين قشتالة من ناحية أخرى.. فقد ألقى عليهم ألفونسو الثامن (ملك قشتالة) مسئولية الهزيمة[28]، وكان من نتائج ذلك -أيضًا- أن وقعت لهم الهزيمة النفسية، وترتَّب على هذا -أيضًا- أن أتت السفارات تطلب العهد والمصالحة مع المنصور الموحدي.
معاهدة جديدة بين قشتالة والمسلمين
أيضًا كان من نتائج موقعة الأرك أن تمت معاهدة جديدة بين قشتالة والمسلمين على الهدنة ووقف القتال مدَّة عشر سنوات، أراد المنصور أن يُرَتِّبَ فيها الأمور من جديد في بلاد الموحدين[29].
د. راغب السرجاني
[1] ليفي بروفنسال: مجموع رسائل موحدية: الرسالة الرابعة والثلاثون، ص222.
[2] أمير البرتغال ألفونسو هنريكيز كما كان يسميه العرب وقتها.
[3] البطس: مفردها بطسة، وهي من أنواع المراكب البحرية الكبيرة، عرفها العرب المسلمون منذ بداية العصر الإسلامي، واستعملوها في الحروب البحرية والأعمال التجارية، عدد أشرعتها أربعون شراعًا، تحمل على متنها ما يزيد عن ألفين وخمسمائة شخص. مصطفى عبد الكريم الخطيب: معجم المصطلحات والألقاب التاريخية ص81.
[4] الشواني: جمع شونة، وهي طراز من السفن المستخدمة للأغراض الحربية عرفها اليونان والرومان واستعملها العرب في العصر الإسلامي، تسير بالشراع، يصل عدد مجاديفها إلى 100، وهي مزودة بأبراج خاصة، وتحمل على متنها حوالي 150 من المقاتلين المزودين بأسلحتهم. مصطفى عبد الكريم الخطيب: معجم المصطلحات والألقاب التاريخية ص287.
[5] عبد الواحد المراكشي: المعجب ص356، وابن عذاري: البيان المغرب، ص204-212، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/244.
[6] ابن الأثير: الكامل 10/237، وابن خلكان: وفيات الأعيان 7/8.
[7] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 5/197.
[8] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص358، وابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص217، وابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/245.
[9] شوقي أبو خليل: الأرك، ص54.
[10] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 10/237، وابن أبي زرع: روض القرطاس، ص226.
[11] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/237، و ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون 6/245، 4/182، 183، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 5/213، ويوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين
والموحدين 2/84.
[12] الذهبي: سير أعلام النبلاء، 21/319.
[13] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص223، والسلاوي: الاستقصا، 2/187.
[14] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص224.
[15] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص226، والسلاوي: الاستقصا، 2/189.
[16] ابن عذاري: البيان المغرب، قسم الموحدين، ص219
[17] ابن الخطيب: رقم الحلل، ص59.
[18] الزرد: حلق المغفر والدرع. ابن منظور: لسان العرب، مادة زرد 3/194، والمعجم الوسيط 1/391.
[19] الأقسة: جمع قسيس.
[20] ابن أبي زرع: روض القرطاس ص225 وما بعدها. وانظر حوادث المعركة مختصرة في: ابن عذاري في البيان المغرب – قسم الموحدين- ص214-220، وابن الخطيب: رقم الحلل ص59.
[21] أَمْرُ بيع الأسير بدرهم –كما عند المقري- مما يتنافى مع روايات المعاصرين للمعركة من امتنان المنصور عليهم بإطلاقهم بغير فداء.
[22] المقري: نفح الطيب، 1/443.
[23] المصدر السابق، 1/443.
[24] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص228.
[25] المقري: نفح الطيب، 1/443.
[26] ابن أبي زرع: روض القرطاس، ص229.
[27] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص360، و ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 6/245، والمقري: نفح الطيب، 2/192، وانظر تفاصيل غزو المنصور لأراضي قشتالة في مجموع رسائل موحدية، الرسالة
الخامسة والثلاثون، ص231.
[28] انظر: يوسف أشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين، 2/95، وليفي بروفنسال: مجموعة رسائل موحدية ص238.
[29] انظر: عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص360، وقالت بعض المصادر: إن مدة الهدنة كانت خمس سنين. انظر: ابن الأثير: الكامل، 10/238، والسلاوي: الاستقصا، 2/193.