إنَّ أَكْثَرَنا -وكنتُ كذلك- ينظر إلى الصلاة على أنها واحدة من هذه الأمور:

تكليف من الله لا بُدَّ من فعله
اتِّباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم
تيسير لحساب الآخرة؛ فإنها أول ما نُسأل عنه
ميدان واسع للطلب من ربِّ العالمين؛ فأقربُ ما نكون لله حين نسجد
رؤًى أخرى في المضمار نفسه!

إن هذا يعني أن الصلاة في وجهة نظرنا لا تخرج عن كونها «فرضًا» فرضه الله علينا، أو فرصة لتحقيق «مصالحنا» عند الله سبحانه.. وهذا في حدِّ ذاته ليس عيبًا؛ فهي كذلك بالفعل، لكن في الواقع إنَّ هذه نظرة قاصرة تُضعِف كثيرًا من مغزى الصلاة الحقيقي.

ما هذا المغزى؟

المغزى هو أن الصلاة وسيلة من وسائل «الشكر» لله ربِّ العالمين!

إننا لو تَدَبَّرْنَا في الأمر حقَّ التدبُّر لوجدنا أننا في الحقيقة مدينون لله سبحانه بالشكر في كل لحظة من لحظات حياتنا..

يُنعم علينا -ولا حدَّ لنِعَمِه- فله الحمد، وله الشكر..

يحفظنا -ولا حدَّ لحفظه- فله الحمد، وله الشكر..

يسترنا ويغفر لنا -ولا حدَّ لتقصيرنا- فله الحمد، وله الشكر..

وهذا يعني أننا يجب أن نشكره دومًا وأبدًا.. ولن نُوَفِّيَه حقَّه أبدًا أبدًا!

إذًا نحن لا نُقَدِّم «فضلًا» إذا قمنا بالصلاة، ولكن واقع الأمر نحن نقضي «دَيْنًا»!

عندما يُسدي إليك أحد عظماء الناس معروفًا ومعروفًا ومعروفًا.. وتزايد فضله حتى شمل كل جوانب حياتك، وقرَّرْتَ أن تقوم بزيارته، فماذا يكون مغزى الزيارة؟!

هل تزوره لأن أباك أو عمَّك قد أمرك بذلك! فتذهب مضطرًّا؟!

هل تزوره لأنك رأيت كرام الناس يفعلون ذلك؟!

هل تزوره لأن عندك حاجةً جديدةً تُريدها منه؟!

هل تزوره لتتجنَّب عقابه مستقبلًا؟!

واقع الأمر أن هذه الأمور جميعًا من الممكن أن تكون موجودة، بمعنى أن أباك أمرك، وكرام الناس يفعلون، ولك حاجة عنده، وتخشى عقابه.. لكن المغزى الرئيس للزيارة هو تقديم «الشكر» على أفضاله، التي لم تنقطع عنك قطُّ.. هذا ما يشغل فكرك.. ولو وُجِدَت الأمور الأخرى فلا ضير، ولكن هذا لا يُلغي مهمَّتك الأولى التي من أجلها ذهبتَ إليه.. مهمَّة «الشكر»..

الآن تعالَ نُفَكِّر في موقفنا ونحن في زيارة هذا الرجل العظيم الكريم «لنشكره»..

نذهب إليه في الموعد الذي حدَّده..

في المكان الذي حدَّده.. حبَّذا لو كان بيته..

هيئتنا.. لباسنا.. رائحتنا.. كلها طيب وحسن..

نقف أمامه في تواضع..

نُثني عليه، ونشكر صنيعه..

لا نلتفت عنه، ولا ننظر إلى غيره..

نطلب منه أن يُسامحنا على تقصيرنا في شكره..

ولو كان عندنا طلب جديد فإننا نتقدَّم به في هدوء وتواضع وأدب..

هكذا نفعل مع عظماء الدنيا إذا أَسْدَوْا إلينا معروفًا..

فماذا نفعل مع الله سبحانه؟!

واذْكُرْ أن نِعَمَه وحِفْظَه ومغفرته لا حدَّ لها..

لقد شرع الله سبحانه لنا عدَّة وسائل لشكره، وكان في مقدمة هذه الوسائل «الصلاة»!

نحن لا نستطيع أن نشكر الناس بالطريقة التي نُريدها نحن إذا كانت تُغضبهم! فهذا ليس شكرًا؛ إنما هو في الواقع خروج عن قواعد الأدب! هبْ أن جارك أسدى إليك معروفًا، وتأخَّر شكرك له فعلمتَ أنه غضب منك، فأردتَ أن تتدارك الأمر وتُقَدِّم له هدية لتشكره بها.. فهل تأتي إليه بطعام فاسد، أو قميص مهلهل، أو وردة ذابلة أو ميتة؟ ألا يعني هذا الفعل قلَّة الاكتراث، ونقص الأدب؟ وأليس من الممكن أن تُؤَدِّيَ هذه الهدية إلى زيادة غضبه عليك؟

قِسْ هذا المثال على علاقتك بالله سبحانه، وعلى الصلاة..

ربٌّ كريم سبحانه.. أغدق علينا، وحَفِظَنا، وسترنا، وغفر لنا.. وتأخَّرنا في شكره كثيرًا.. وقصَّرنا كثيرًا كثيرًا.. وخشينا أن يكون قد غَضِب علينا، فأردنا أن نُقَدِّم له شكرًا ممزوجًا باعتذار.. فماذا ينبغي أن نفعل؟!

لقد قَرَّرنا أن نُصَلِّيَ له!

هذا جميل..

ولكن..

هل نُصَلِّي في الوقت الذي يحبُّه هو؟ أم في الوقت الذي يُناسبنا ولو كان يُغضبه؟

هل نُصَلِّي في بيته هو -وهو المسجد- أم في بيوتنا مع علمنا أن هذا لا يُرضيه؟

هل نهتمُّ بطهورنا وهيئتنا ورائحتنا فنخرج له كخروجنا لأقلِّ الناس وأبسطهم؟

هل نُقْبِل عليه بوجوهنا وقلوبنا، أم نُحادثه وذهننا شارد، وعقلنا لاهٍ، وجوارحنا منصرفة إلى غيره؟

خَبِّروني بالله عليكم: كيف سينظر إلينا الله سبحانه إذا جئنا إليه في موطن الشكر والاعتذار -في صلاتنا- فإذا بنا نُضيف ذنبًا إلى ذنوبٍ، وجريمة إلى جرائم!

لقد جئناه ببضاعة مزجاة!

حملنا طعامنا الفاسد، وأقمصتنا المهلهلة، ووردنا الذابل الميت..

وقلنا له في شرود: هذا ما عندنا.. خذه.. ونُريد منك كذا وكذا.. وكذا وكذا.. وكذا وكذا..!!

{يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار: 6]؟!

أعيدوا النظر إلى مغزى الصلاة..

إنها ببساطة وسيلة «شكر»..

والشكر له أصول، وله قواعد.. أبسطها أن يُرضِيَ المشكورَ!

والآن بعد أن فَقِهنا هذا المغزى وَضَحَت لنا أمور كثيرة في القرآن والسُّنَّة وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم..

تَدَبَّر في هذا الموقف:

عن عائشة رضي الله عنها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تَتَفَطَّرَ[1] قدماه! فقالت
عائشة رضي الله عنها: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟
قال: «أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا؟!». فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صلَّى جالسًا، فإذا أراد أن يركع قام فقرأ ثمَّ ركع[2].

أتوقَّع أن الصورة واضحة الآن..

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُسوِّغ صلاته الطويلة بأنها تكليف أو اضطرار.. إنما فَسَّرها بوضوح على أنها نوع من الشكر لله سبحانه، ووَصَفَ نفسَه بالوصف الذي يُناسب المقام، فقال: «عَبْدًا». لأنه يشعر بجزيل عطاء «الربِّ» سبحانه، فكان لا بُدَّ من إعلان العبودية، وكذلك كان لا بُدَّ من «شكر» النعمة.. وكانت وسيلته في الشكر هي الصلاة الطويلة..

وتكرَّر منه ذلك الموقف مع صحابة آخرين..

فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتتكلَّف هذا وقد غفر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!»[3].

والموقف نفسه حدث مع أبي هريرة رضي الله عنه[4].

وتكرَّر كذلك مع بلال رضي الله عنه..

فقد دخل بلال رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فوجده قائمًا يُصَلِّي صلاة الليل وهو يبكي، فقال بلال رضي الله عنه: يا رسول الله؛ لِمَ تبكي، وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!»[5].

وتدَبَّر كذلك فيما نعرفه بسجدة الشكر:

«عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَاءَهُ أَمْرُ سُرُورٍ أَوْ بُشِّرَ بِهِ خَرَّ سَاجِدًا شَاكِرًا للهِ»[6].

فهذا موطن شكر! لقد جاءه صلى الله عليه وسلم أمرٌ يَسُرُّه.. فما الوسيلة التي اختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم للتعبير عن شكره لله سبحانه؟ لقد اختار أكثر أعمال الصلاة خضوعًا لله تعالى وعَبَّرَ بها عن شكره.. إنه اختار السجود ليُؤَكِّد لنا المعنى: إن مغزى الصلاة هو الشكر لله سبحانه.. وقد صار هذا الأمر سُنَّة نبوية؛ خاصَّة أنه تكرَّر منه صلى الله عليه وسلم..

عن أبي بكرة رضي الله عنه: «أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ بَشِير يُبَشِّرهُ بِظَفَرِ جُنْد لَهُ عَلَى عَدُوِّهُمْ، وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ عَائِشَةَ، فَقَامَ فَخَرَّ سَاجِدًا»[7].

وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: «خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَتَوَجَّهَ نَحْوَ صَدَقَتِهِ[8]، فَدَخَلَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَة فَخَرَّ سَاجِدًا، فَأَطَالَ السُّجُود، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَبَشَّرَنِي، فَقَالَ: إِنَّ اللهَ سبحانه يَقُولُ لَكَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ، وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ. فَسَجَدْتُ للهِ شُكْرًا»[9].

وعن طارق بن زياد[10]، قال: خرجنا مع علي رضي الله عنه إلى الخوارج فقتلهم، ثم قال: «انظروا فإن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّهُ سَيَخْرُجُ قَوْمٌ يَتَكَلَّمُونَ بِالحَقِّ لَا يَجُوزُ حَلْقَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنَ الحَقِّ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، سِيمَاهُمْ أَنَّ مِنْهُمْ رَجُلًا أَسْوَدَ مُخْدَجَ الْيَدِ فِي يَدِهِ شَعَرَاتٌ سُودٌ». إن كان هو فقد قتلتم شرَّ الناس، وإن لم يكن هو فقد قتلتم خير الناس». فبكينا، ثم قال: «اطلبوا». فطلبنا فوجدنا المُخْدَج، فخررنا سجودًا وخرَّ عليٌّ معنا ساجدًا[11].

وعن أبي عون، قال: سَجَدَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه حِينَ جَاءَهُ فَتْحُ الْيَمَامَةِ[12].

لقد صار السجود وسيلة واضحة من وسائل الشكر..

واختار الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسجد سجدة واحدة عند الشكر، ولا يُصَلِّي صلاة كاملة، حتى يُيَسِّر الأمر على المسلمين؛ فالأخبار السارَّة قد تتكرَّر في اليوم والليلة مرَّات، وقد تكون هناك مشقَّة في الصلاة الكاملة؛ بل إن عددًا كبيرًا من الفقهاء[13] لا يشترط الوضوء لهذه السجدة؛ تيسيرًا لأدائها في أي وقت أو ظرف..

وليست سجدة الشكر فقط هي التي نُعَبِّر بها عن شكرنا لله سبحانه؛ فقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةً كاملة يُؤَدِّيها العبد كل يوم تعبيرًا عن شكره لله سبحانه على نعمه الكثيرة، وهي صلاة الضحى..

فعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ؛ فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى»[14].

فهذا يُؤَكِّد الرؤية التي ذكرناها؛ وهي أن الصلاة نوع من الشكر لله ربِّ العالمين..

ولنتدبَّرْ في القرآن الكريم:

قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: 152، 153].. فهنا يطلب الله سبحانه من المؤمنين في آية أن يذكروه ويشكروا له، ثم يُوَضِّح لهم في الآية التي بعدها كيف يشكرونه؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}، فالتعبير القرآني يُشير إلى أن الصلاة وسيلة من وسائل الشكر لله ربِّ العالمين..

ونجد أن أمر الاستعانة بالصلاة مربوط مرَّة أخرى بالشكر في موضع آخر في القرآن الكريم؛ فالله سبحانه يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ ` الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة: 45، 46]، فهو هنا يذكر الصلاة كأمر لا بُدَّ للمؤمنين أن يستعينوا به، ثم يأتي في الآية التالية مباشرة ويُذَكِّر بني إسرائيل بالنعم التي أنعمها عليهم.. في إشارة واضحة أن الاستعانة على شكر هذه النعم إنما يكون بالصلاة.. قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة: 47]..

ويربط الله سبحانه الشكر بالصلاة في آية مُفَصِّلَة للوضوء والتيمُّم، ويُؤَكِّد أن الوضوء والتيمُّم نوع من النعمة.. ووجه النعمة أنهما يقودان إلى الصلاة، التي بها تشكر الله تعالى.. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[المائدة: 6]، فلاحظ خاتمة الآية، التي قال فيها تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، فغرض إتمام النعمة بالوضوء والتيمُّم هو تيسير الدخول في الصلاة التي هي باب الشكر.

بل دعونا نتدبَّر في الصلاة نفسها، فننظر إلى بعض الأمور التي تُوَضِّح لنا الرؤية أكثر وأكثر..

إنه لا بُدَّ لنا من قراءة الفاتحة في كل ركعة، وأول ما نقرأ في الفاتحة نقرأ قوله تعالى: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة: 2]! فهذا إعلان واضح أننا الآن في موقف الحمد والشكر لله سبحانه؛ ولذلك عَلَّمنا ربُّنَا أن نقول ذلك -أول ما نقول- ما دمنا قد جئنا لنقف بين يديه نشكره.. بل هناك معنًى آخر بدا لي، وهو في الحقيقة في غاية اللطف! إننا في الصلوات الجهرية -الصبح والمغرب والعشاء، وكذلك في التراويح- نسمع صوت الإمام أول ما نسمع يقول: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}! فكما نعلم أنه بعد تكبيرة الإحرام نقول دعاء الاستفتاح، ويكون هذا سرًّا دون جهر، وبعده نقول الاستعاذة من الشيطان الرجيم، وتكون سرًّا كذلك، ثم نقول البسملة، وفي رأي غالب الفقهاء أنها تكون سرًّا[15]؛ لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِـ{الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لَا يَذْكُرُونَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلَا فِي آخِرِهَا»[16]. فتدبَّر أيها المسلم في هذا الموقف المهيب:

المصلُّون يقفون خاشعين صامتين خلف الإمام، بعد أن كَبَّر تكبيرة الإحرام، فقطعهم عن الدنيا بهذه التكبيرة، وأعلن لهم أننا الآن في حضرة الملك العزيز الوهاب.. ثمَّ لحظات من الصمت لا يسمع فيها المصلُّون إلَّا همسًا.. يقرأ الإمام في هذه اللحظات دعاء الاستفتاح والاستعاذة والبسملة، ثم فجأة يقطع صوتُ الإمام الصمتَ المهيب بقوله سبحانه: {الحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}!!

أيُّ هيبةٍ! وأيُّ عظمةٍ! وأيُّ خشوعٍ!

وأيُّ وضوحٍ في المقصد!

إننا ما وقفنا الآن يا رب إلَّا لنشكرك!

ما جئنا إلَّا لنحمدك!

هذا أول ما نجهر به في حضرتك!

هل يمكن إلاَّ أن نكون خاشعين في هذا الموقف الجليل؟!

وإذا كنا قد جهرنا بهذا الإعلان الصريح في بداية صلاتنا، فإننا لا نكتفِي بهذا؛ بل علَّمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نُذَكِّر أنفسنا أننا في مقام حمدٍ وشكر لله سبحانه، فيقول الإمام عندما يرفع من الركوع: «سمع الله لمن حمده». فيقول المصلُّون جميعًا: «اللهم ربَّنا لك الحمد». بل يُرَغِّبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدم الشرود في هذا الموقف، فيُنَبِّهنا إلى ضرورة الجهر بالحمد في توقيت مُعَيَّن لا يتقدَّم ولا يتأخر حِرْصًا على تحقيق مغفرة الله سبحانه له، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا قَالَ الإِمَامُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ. فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»[17].

حتى بعد الصلاة أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحمد الله ثلاثًا وثلاثين مرَّة[18]، أو خمسًا وعشرين مرَّة[19]، أو على الأقل عشر مرَّات[20]، وبذلك يظلُّ وجداننا معلَّقًا بمسألة الحمد، فلا ننسى أننا قمنا للصلاة لنشكر الله سبحانه..

أيها الخاشعون والخاشعات..

يقول تعالى وهو يُهَذِّب أخلاقنا ويُعَلِّمنا: {وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}[البقرة: 267]..

إننا لا نقبل أن يشكرنا الناس على معروف أسديناه إليهم إلَّا أن يكون هذا الشكر مناسبًا ولائقًا، تمامًا كما لا نقبل أن نأخذ شيئًا خبيثًا من الناس على سبيل الهدية أو الصدقة، إلَّا أن نأخذه على مضض {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}.. فكيف نذهب إلى الله نشكره بشكرٍ لا نقبله لأنفسنا من الناس؟! كيف نشكره بصلاة لا روح فيها ولا خشوع؟!

كل هذا يجعلنا نُعيد النظر من جديد في مغزى صلاتنا، وكيفية خشوعنا..

إننا لا نُصَلِّي مضطرِّين أو مقهورين..

حاش لله..

إنما كنَّا وكأننا نبحث بكل جهد عن وسيلة نشكر بها الإله العظيم الكريم، الذي أنعم علينا نعمًا لا تُحصى، وحَفِظنا وسترنا، وغفر لنا، فهدانا سبحانه إلى الطريقة المثلى لهذا الشكر؛ وهي الصلاة الخاشعة، وطبَّق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم هذه الطريقة في كل قصته، حتى صارت منهجًا لحياته: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!». فلمَّا عرفنا هذه الطريقة فرحنا أيما فرح، واطمأنَّت قلوبنا إلى ما هدانا الله إليه، وأسرعنا إلى الصلاة بهذه الروح، منشرحين.. مسرورين.. راغبين..

لو فهمنا هذا المعنى رَشَدْنا!

لو فَقِهنا هذا المغزى وَصَلْنا!

ليس فقط إلى الخشوع..

ولكن إلى رضا الْمُنعِم، الحافظ، الغفَّار..

سبحانه!

ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــ

[1] تتفطر: أي تتشقُّ، وفي رواية للبخاري: «حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ». انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري، 3/2820، والمباركفوري: تحفة الأحوذي، 2/461، وابن منظور: لسان العرب، مادة (فطر) 5/55.
[2] البخاري: كتاب التفسير، سورة الفتح، (4557)، واللفظ له، ومسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، (2820).
[3] البخاري: كتاب التفسير، سورة الفتح، (4556)، ومسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، (2819) واللفظ له.
[4] ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسُّنَّة فيها، باب ما جاء في طول القيام في الصلوات (1420)، وابن خزيمة (1184)، والبيهقي: شعب الإيمان، (1495)، وقال البوصيري: هذا إسناد صحيح احتج مسلم بجميع رواته. انظر: مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه، 2/17.
[5] ابن حبان: كتاب الرقائق، باب التوبة (620)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة، (68).
[6] الترمذي: كتاب السير، باب ما جاء في سجدة الشكر (1578)، وقال: هذا حديث حسن غريب. وأبو داود (2774) واللفظ له، وابن ماجه (1394)، والحاكم (1025) وقال: هذا حديث صحيح وإن لم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني، انظر: مشكاة المصابيح 1/472.
[7] أحمد (20473)، والحاكم (7789) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
[8] قوله: «نحو صدقته» تفسره رواية: «فوجدته قد دخل حائطًا من الأسواف». والأسواف موضع بالمدينة، ولا يمتنع أن يكون بعض حوائط الأسواف كان من صدقة النبي صلى الله عليه وسلم مع أن بالقرب منها موضعًا يُعرف قديمًا وحديثًا بالصدقة، أو أن القصة متعدِّدَة. انظر: السمهودي: وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى، 3/852، وأحمد بن عبد الحميد العباسي: عمدة الأخبار في مدينة المختار، ص150. وقال الشوكاني: صدفته: بفتح الصاد والدال المهملتين والفاء، والصدفة من أسماء البناء المرتفع، وفي النهاية ما لفظه: كان إذا مر بصدف مائل أسرع المشي، قال: الصدف بفتحتين وضمتين كل بناء عظيم مرتفع تشبيهًا بصدف الجبل؛ وهو ما قابلك من جانبه. انظر: نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار، 3/127.
[9] أحمد (1664)، وقال شعيب الأرناءوط: حسن لغيره. وأبو يعلى (847)، وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله ثقات. انظر: مجمع الزوائد، 2/578، وقال ضياء الدين المقدسي: إسناده حسن. انظر: الأحاديث المختارة، 3/126.
[10] هو: طارق بن زياد الكوفي، من الطبقة الثالثة من الوسطى من التابعين، شهد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه الحرب بالنهروان، وروى عنه قصة المخدج. انظر: الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد 10/501.
[11] النسائي (8566)، وأحمد (848) وقال شعيب الأرناءوط: حسن لغيره. والحاكم (2658)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بذكر سجدة الشكر وهو غريب صحيح في سجود الشكر. ووافقه الذهبي.
[12] عبد الرزاق: المصنف، 3/358 (5963)، وابن أبي شيبة: المصنف، 2/482.
[13] هذا قول كثير من السلف، واختاره بعض المالكية، وكثير من المحققين؛ كابن جرير الطبري، وابن حزم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، والصنعاني، ومن المعاصرين ابن باز وابن عثيمين وابن جبرين وغيرهم. انظر: مجلة البحوث الإسلامية، 36/287.
[14] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى... (720)، وأبو داود (1285)، وأحمد (21513)، والبيهقي: السنن الكبرى، (4677).
[15] عبد الرحمن الجزيري: الفقه على المذاهب الأربعة 1/232، 233، وأبو مالك كمال بن السيد سالم: صحيح فقه السنة وأدلته وتوضيح مذاهب الأئمة 1/541-544، والموسوعة الفقهية الكويتية 8/86-88، ومحمد نعيم محمد هاني ساعي: موسوعة مسائل الجمهور في الفقه الإسلامي 1/158.
[16] البخاري: كتاب صفة الصلاة، باب ما يقول بعد التكبير، (710)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب حجة من قال: لا يجهر بالبسملة. (399) واللفظ له.
[17] البخاري: كتاب صفة الصلاة، باب فضل اللهم ربنا ولك الحمد، (763)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين، (409).
[18] البخاري: كتاب صفة الصلاة، باب مَنْ لم يَرَ ردَّ السلام على الإمام واكتفى بتسليم الصلاة، (807)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذِّكْر بعد الصلاة وبيان صفة، (595).
[19] الترمذي، كتاب الدعوات، باب منه (التسبيح والتكبير والتحميد عند المنام)، (3413)، وقال: هذا حديث صحيح. والنسائي (1273)، وأحمد (21640)، والدارمي (1354)، وابن حبان (2017)، والطبراني: المعجم الكبير، (4904)، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة، (101).
[20] البخاري: كتاب الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة، (5970) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأبو داود (766)، والترمذي (3410)، والنسائي (1271)، وابن ماجه (926)، وأحمد (838).
من كتاب كيف تخشع في صلاتك للدكتور راغب السرجاني