اللغات الأجنبية هل نشهد أفضل وقت في التاريخ لتعلمها ؟
تتحدث الأجيال الشابة هذه الأيام أكثر من لغة، وعلى اتصال بالإنترنت أكثر من أي وقت مضى. فهل يمكن للتكنولوجيا التي يستخدمها الشباب اليوم إنتاج جيش عالمي من المتحدثين بعدة لغات؟
الطفلة هيلاري ياب، وهي طالبة عمرها 13 عاما من هونغ كونغ، تعمل مطورة في مجال البرمجيات، ومديرة تنفيذية لإحدى الشركات أيضا.
ويربط تطبيق الهواتف الذكية “ماينور مايناس”، الذي صممته تلك الفتاة، بين الأطفال في جميع أرجاء العالم، ولغرض محدد، وهو أن يتعلم كل منهم لغة الآخر.
وتجسد “ياب” جيل اليوم الأكثر تأثرا بالعولمة، والمتصل بالإنترنت طوال اليوم، وهو جيل ترعرع في ظروف القرن الواحد والعشرين الفريدة، المتمثلة في توافر التكنولوجيا التي تربط الناس في كل أنحاء العالم، وتنوع سكان العالم ثقافيا على نحو متزايد، وظهور التطبيقات التعليمية والألعاب ذات الطابع الشخصي.
فهل يمكن لهذه العوامل أن تجتمع لتخلق أكثر جيل متعدد اللغات نشهده حتى الآن؟
عالم أكثر تنوعا
يترعرع الجيل الناشئ في حقبة تاريخية تتيح الكثير من الفرص. فالتنوع الثقافي يتخذ بشكل متزايد طابعا عالميا، خصوصا بسبب تزايد مستويات الهجرة الدولية، كما يقول الأستاذ الجامعي ستيفن فيرتوفيتش، المدير الإداري لمعهد ماكس-بلانك لدراسات التنوع الديني والعرقي في غوتينغن بألمانيا.
وهو يشير إلى أحدث تقرير عن الهجرة في العالم، الصادر عن الأمم المتحدة، والذي يرد فيه أن 258 مليون شخص يعيشون في بلد غير البلد الذي ولدوا فيه، بزيادة قدرها 49 في المئة، منذ عام 2000.
ويقول فيرتوفيتش: “لهذا فإن أناسا أكثر من خلفيات متنوعة يتواصلون مع بعضهم البعض في مدن حول العالم. وهو أمر يتوقع له أن يستمر على مستوى عالمي أيضا”.
هذه الهجرة المتزايدة، خصوصا في المدن، تقرب بين أناس من خلفيات ثقافية ولغوية متعددة، وتزيد من التواصل بينهم. فهل سيقودنا عالم أكثر تنوعا من الناحية الثقافية إلى جيل يتحدث لغات متعددة؟
يصبح العالم متعدد الثقافات وهو ما يمكنه في المستقبل أن يجعل الأطفال أكثر انفتاحا على تعلم لغات جديدة
من الأرجح أن ذلك يسهم في وجود بيئة تتوفر فيها فرص أكثر لتعلم اللغة، كما تقول أنجيلا كريس، أستاذة علم اللغويات بجامعة بيرمنغهام في بريطانيا.
وتضيف كريس: “الأمر الذي من المرجح أن ينتج عن عالم متعدد الثقافات هو أن يصبح هناك تكيف إيجابي مع الاختلافات القائمة، على الصعيد اللغوي، والاجتماعي، بحيث يكون الناس أكثر إبداعا واهتماما باللغات الأخرى. فلديهم مدخل إلى المصادر اللغوية وارتباط بها، ما يجعلهم لا يحتاجون لبذل جهود كبيرة للحصول عليها، مقارنة بالوضع في بيئة وحيدة اللغة، حيث يكون الناس متوترين نوعا ما تجاه اللغات الأخرى المختلفة”.
ويغلب على الأجيال الشابة أنها تتحدث لغة أجنبية. وتقول أنتونيلا سوراس، أستاذة التنمية اللغوية في جامعة أدنبرة: “أعتقد أن ذلك صحيح، على الأقل في أوروبا، حيث يتكلم الشباب الآن لغات أجنبية أكثر من ذي قبل”.
وتشير سوراس إلى دراسة صدرت عام 2011، جاء فيها أن 77 في المئة من جيل الألفية في الاتحاد الأوروبي يتكلم أكثر من لغة، وتضيف: “هذه النسبة انخفضت بالنسبة لكل فئة عمرية أكبر سنا، إذ كانت أدنى نسبة سُجلت بين فئة 55-64 من العمر”.
ارتفعت هذه الأرقام في وسط المهنيين الشبان الحاصلين على مستوى تعليم عالٍ، ما يوجب على بعض الشركات على الأقل إعطاء أولوية لتدريب موظفيها على تعلم اللغات الأجنبية، كما تقول الدراسة.
وتقول الدراسة أيضا إنه بينما تدعم العولمة النمو الاقتصادي في الدول الأقل تطورا، فضلا عن تشجيعها السفر بغرض السياحة والأعمال، فإن أناسا أكثر يتكلمون لغات أكثر، خاصة اللغة الإنجليزية.
وفي الولايات المتحدة، يتحدث 65.5 مليون مواطن أمريكي لغة أخرى في موطنه، وهو رقم تضاعف منذ عام 1990. والكثير من متحدثي اللغات الأجنبية هؤلاء ليسوا مهاجرين، إذ توصلت الدراسة إلى أن نصف النمو في عدد متحدثي اللغات الأجنبية منذ عام 2010 كان بين الذين ولدوا في الولايات المتحدة.
والأكثر من ذلك، أشارت الدراسة أيضا إلى أن حوالي واحد من بين كل أربعة من أطفال المدارس الأمريكيين يتكلم لغة أجنبية، وهي نسبة أعلى من المتوسط بالنسبة لبقية الفئات العمرية.
وهناك أيضا اتجاه مماثل يحدث في كندا، حيث ارتفع عدد الذين يتحدثون لغة غير الإنجليزية أو الفرنسية بنسبة 14.5 في المئة منذ عام 2011.
ويقول توم رويبر، أستاذ اللغويات في جامعة ماساشوسيتس، أميرست، إن الفصول الدراسية حول العالم يمكن أن تمتليء في المستقبل القريب بأطفال يمكن أن يتكلموا ست لغات أو أكثر على مستوى الفصل الواحد.
ويشير إلى فكرة “الفصل الدراسي متعدد اللغات”، الذي يتمكن فيه الأطفال الذين يتكلمون لغات مختلفة من التقاط أجزاء من لغة زملائهم في غرف دراسة متنوعة على نحو متزايد.
التطبيقات التعليمية على أجهزة مثل الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية تجعل تعلم اللغة أسهل من ذي قبل
ويقول رويبر: “ينبغي أن يلتمس المعلمون وسيلة لتضمين ذلك الاتجاه في الفصل. ماذا يفعل المعلم عندما يكون لديه مجموعة من الأطفال الأفارقة أو الأتراك أو الآسيويين؟”.
التواصل مع الآخرين بسرعة
هو عامل آخر يمكن أخذه في الاعتبار فيما يتعلق بالنشء الذين يتحدثون لغات متعددة. أي مراهق يملك هاتفا ذكيا متصلا بالإنترنت، يمكنه أن يتحدث بالفيديو مع زملائه الذين يتحدثون لغات أخرى متعددة على بعد قارات ومحيطات. لكن قبل عشرين عاما، لم يكن هذا الأمر متخيلا.
ويقول مركز بيو للأبحاث إنه في الولايات المتحدة، تمكن 57 في المئة من المراهقين من تكوين صداقات عبر الإنترنت، إذ تمثل “وسائل الإعلام الاجتماعي وألعاب الفيديو عبر الإنترنت أكثر المنتديات الرقمية للتواصل بين الأصدقاء”.
وليس مدهشا أن التطبيق الذي صممته الفتاة ياب في هونغ كونغ يلامس هذه الاتجاهات السلوكية.
ويقول سوراس: “ليس قبل وقت طويل، كان تكوين أصدقاء يتكلمون لغة أخرى أمرا يحتاج إبداعا”. ويضيف: “كان عليك الذهاب إلى البلد الآخر، وأن تقضي بعض الوقت هناك، وأن تجعل والديك يرتبون الأمر لك، أما الآن فالأمور تتم بشكل لحظي مع توفر كل تلك الوسائل التكنولوجية”.
الألعاب تعزز التحدث بطلاقة
لم تعد الفكرة التي تربط بين “التعليم والترفيه” كأداة للتعلم أمرا جديدا، فألعاب الفيديو التي تشتمل على جانب تعليمي (مثل لعبة أورغيون ترايل) موجودة منذ عقود.
لكن مع توفر الإنترنت وأجهزة الهاتف الذكية المحمولة، وصل هذا النوع من التعليم التكنولوجي آفاقا أبعد، فقد أسهمت مئات التطبيقات اللغوية التي مزجت اللعب بالتعليم في جعل ذلك الأمر أكثر ملائمة لتعلم اللغة أثناء ممارسة الحياة العادية، وأقل ثمنا من ألعاب الكمبيوتر ذات الأسعار المرتفعة.
وأصبحت هذه التطبيقات أيضا واسعة الانتشار، فتطبيق مثل “دولينغو” (Duolingo) الأكثر شهرة يستخدمه الآن 200 مليون شخص حول العالم، وتطبيق مثل “بوسوو” (busuu) يستخدمه حاليا 80 مليون شخص على مستوى العالم.
إن ظهور التطبيقات زهيدة الثمن أو المجانية التي تجعل من التعلم تجربة مسلية تحمل في طياتها آثارا عميقة على الأطفال الذين – على عكس البالغين – ليسوا حتى على إدراك بأنهم يتعلمون شيئا ما، عندما يكونون في الواقع يتعلمون هذا الشيء.
ويشير الخبراء إلى أن الأطفال جيدون فيما يعرف بـ “التعلم الخفي” (مثل اللعب بألعاب الفيديو دون أن يدركوا أنهم يستوعبون المعلومات أو يصقلون المهارات)، مقابل التعليم الصريح (أي التوجه جسديا إلى غرف الدراسة، وتنفيذ التدريبات التي يعطيها لهم المعلمون في بيئة بناءة).
أدت التعددية الثقافية المتزايدة التي تعززها زيادة المهاجرين إلى وجود غرف دراسة متنوعة بشكل أكثر من أي وقت مضى
ويضيف سوراس: “لهذا السبب، تعتبر هذه التكنولوجيا أمرا مساعدا”، مشيرا إلى تلك التطبيقات والألعاب. ويتابع حديثه حول هؤلاء الأطفال قائلا: “إنهم يندمجون في فعل شيء يحبونه، وفي الحقيقة هم يتعلمون لغة أخرى”.
وعندما يصبح الأطفال مراهقين، من الأرجح أن يكونوا واعين ذاتيا، ويخشون ارتكاب أخطاء أمام الآخرين. هنا يمكن أيضا للتكنولوجيا المساعدة، كما يقول ماثيو ماكلاخلان، رئيس منتدى ليرنلايت البريطاني للتبادل الثقافي، وهو مؤسسة موجهة نحو البالغين الذين يتعلمون لغة ثانية.
قصور التكنولوجيا
رغم الوسائل الكثيرة الجديدة التي تعزز بها التكنولوجيا تواصل هؤلاء الأطفال مع بعضهم البعض، يقول الخبراء إن التكنولوجيا تعمل بشكل أفضل كشيء مكمل، وليس كشيء بديل للحياة الحقيقية والتواصل الشخصي.
وعندما تنظر إلى اللغة تحديدا، مازالت تطبيقات التعلم بحاجة إلى أن نفكر فيها كأدوات مكملة للتعلم. فمستخدمو تطبيق دولينغو ربما يكونوا قد حققوا أهدافا جديرة بالتباهي فيما يتعلق بتعلم اللغات الفرنسية والدنماركية والهنغارية. لكن إذا كنت حقا ترغب في التحسن، هنا تحتاج إلى البدء في ممارسة اللغة مع متحدثين أصليين.
ويقول ماكلاخلان: “يمكنني أن أجلس على سكايب مع معلمي الموجود في مكسيكو سيتي، وإجراء محادثة حقيقية مع متحدث أصلي باللغة. ويضيف: “أحصل على أفضل معلم، وليس فقط أفضل متحدث بالأسبانية، وأنا موجود هنا (في قريتي الإنجليزية)”.
تطلع إلى المستقبل؟
انتقل أطفال اليوم من اللهو بالهواتف الذكية والأجهزة اللوحية إلى طلب المساعدة الصوتية الإلكترونية، بالاستعانة ببرامج آلية مثل “كورتانا” أو “أليكسا”. ذلك النوع من التكنولوجيا التطبيقية إلى جانب برامج الدردشة الآخذة في التعقيد بشكل متزايد، يمكن أن تظهر كأدوات تكنولوجية لتعليم اللغة.
ويعتقد ماكلاخلان أننا على بعد 12 إلى 18 شهر من ذلك، ويقول: “لن يمر وقت طويل حتى أتمكن عمليا من إجراء المحادثات مع الوسيلة التكنولوجية الخاصة بي، وهي تصطاد كل الأخطاء التي أقع فيها عندما أتحدث إليها”.
لماذا يعتبر تعلم اللغة أمرا مهما؟
هناك فوائد عديدة وموثقة للتحدث بأكثر من لغة. فتعلم اللغات يحصن من الخرف، ويزيد من حدة التركيز، ومهارات حل المشكلات، ويمكن أن يجعلك تكسب مزيدا من المال.
وبالنسبة لهيلاري ياب، يمكن لمزيد من التواصل والفهم الأكبر بين شباب اليوم أن يزيل الحواجز التي يقيمها المجتمع حولهم عندما يكبرون، حتى وهم يستخدمون التطبيق عبر قارات العالم المختلفة.
وتقول: “في عالم البالغين، هناك الكثير من الأمور المتعلقة بالعرق والجنس، وغيرها من القوالب الفكرية الجاهزة، لكن بالنسبة للأطفال، الجميع مجرد أطفال وحسب”.