النتائج 1 إلى 5 من 5
الموضوع:

أُم خاتم الأنبياءوالمرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله.السيد ة الجليلة آمنة بنت وهب بن عبد مناف

الزوار من محركات البحث: 101 المشاهدات : 726 الردود: 4
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #1
    من اهل الدار
    Lord of Wisdom
    تاريخ التسجيل: September-2013
    الدولة: عنودي
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 7,396 المواضيع: 604
    صوتيات: 39 سوالف عراقية: 0
    التقييم: 9541
    مزاجي: A.O.K
    المهنة: مدرس
    أكلتي المفضلة: دولمة
    موبايلي: XIAOMI Redmi M9
    آخر نشاط: 23/January/2024
    الاتصال: إرسال رسالة عبر Yahoo إلى أكرم.
    مقالات المدونة: 2

    أُم خاتم الأنبياءوالمرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله.السيد ة الجليلة آمنة بنت وهب بن عبد مناف

    أُم خاتم الأنبياء والمرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله
    اسمها : السيدة الجليلة آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زُهرة بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة.
    ولادتها : ولدت عليها‌السلام في حدود منتصف القرن السادس الميلادي.
    أسرتها : سليلة الأُسرة المباركة من القبيلة ذات الشأن العظيم التي استأثرت وحدها بخدمة البيت العتيق وما نالها من خدمته من أمجاد وامتيازات ، أجل لقد كانت آمنة أفضل امرأة نسباً وموضعاً حيث امتازت بالذكاء وحسن البيان.
    وتنتمي أُسرتها إلىٰ (زهرة) بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي ، وهو الأخ الشقيق (لِقصي) الذي ملك مدينة (مكّة) ثمّ تركها لِقريش ميراثاً مجيداً لم تنافسها في شيء منه قبيلة أخرىٰ حتىٰ جاءها (محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله) حفيد قصي بن كلاب بمجد الدهر وعزّ الأبد. (١)
    _____________
    (١) راجع السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٣٨ ، طبعة دار الفكر للثقافة والنشر عام ١٤١٥ ه.
    أمّا أُمهما (زهرة وقصي) : فهي فاطمة بنت سعد بن شبل أحد بني الجدرة حيث لقّبوا بذلك نسبة إلىٰ جدّهم (عامر بن عمرو الأزدي) الذي بنىٰ للكعبة المعظّمة جداراً حين دخلها السيل ذات مرة ففزعت قبيلة قريش لذلك ، وخافت من أثر السيل أن يجرف الكعبة حيث يذهب شرفها ودينها ، ولمّا التفتوا إلىٰ جدار عامر ، فسمّوه بالجادر ، حيث لقّبوا أولاده من بعده ببني الجدرة.
    وكان (بنو زهرة) ممن سبقوا الىٰ تلبية النداء حين تداعت قبائل من قريش إلىٰ حلف (الفضول) ، وقد كان ذلك قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بنحو عشرين عاماً ، وكان أكرم حلف وأشرفه (١). فمن هذه الأُسرة القرشية الكريمة التي عرفت بصلة الودّ والحبّ لبني عبدمناف بن قصي ، كانت السيدة (آمنة بنت وهب بن عبدمناف بن زهرة بن كلاب بن مرّة) التي توّجت ذلك المجد العريق بالشرف الذي لا يُدرك.
    لقد نشأت السيدة (آمنة) في أعزّ بيئة وأطيب منبت ، فاجتمع لها من أصالة النسب ورفعة الحسب ما تزهو به في مجتمع مكّة المتميِّز بكرم الأصول ومجد الأعراق ، فقد كانت زهرة قريش اليانعة ، وبنت سيد بني زهرة نسباً وشرفاً ، وقد ظلت في خدرها محجوبة عن العيون مصونة عن الابتذال حتىٰ ما يكاد الرواة يتبيّنون ملامحها أو يتمثّلونها في صباها الغض.
    أبوها : هو (وهب بن عبد مناف) سيد بني زهرة شرفاً وحسباً ، وقد مدحه الشاعر حيث أنشد :
    يا وهب يا بن الماجدين زهرة سُدت كلابا بن مرّة
    يا وهب يا بن الماجدين
    _____________
    (١) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١١٩ من موضوع حلف الفضول ، بتصرّف.
    جدّها لأبيها : هو عبد مناف بن زهرة الذي يقرن اسمه بابن عمه عبد مناف بن قصي ، وكان يقال لهما (المنافان) تعظيماً وتكريماً (١).
    جدّتها لأبيها : هي أُم وهب عاتكة بنت الأوقص بن مرّة بن هلال السلمية ، إحدىٰ أكرم مخدرات آل سليم.
    أُمّها : برّة بنت عبد العزّىٰ بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب.
    جدّتها لأمّها : أُم حبيب بنت أسد بن العزىٰ بن قصي.
    والدة جدّتها لأمّها : برّة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن لؤي بن غالب بن فهر (٢).
    وهكذا قيّض الله تعالىٰ لهذه الأسرة العريقة أن تنجب السيدة (آمنة) لتحمل في أحشائها مصباح الكون الأوحد وبحر الهداية المفرد إلىٰ البشر ، محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.
    وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال : « اَنَا اَنفَسكم نسبا وصهراً وحسباً » (٣).
    كراماتها :
    لا يخفى أنّ أُم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تحصىٰ كراماتها ، كيف وقد حملت في أحشائها أشرف الخلق والكائنات في الوجود الذي دنا فتدلّىٰ فكان قاب قوسين أو أدنىٰ ، وقد وردت جملة من الأحاديث المشيرة إلىٰ طهارتها عليها‌السلام :
    كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لم أزل اُنقل من أصلاب الطاهرين ، إلىٰ أرحام الطاهرات ،
    _____________
    (١) جمهرة أنساب العرب / ابن حزم : ١٢ ، نسب قريش.
    (٢) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٣٨.
    (٣) عيون الأثر / ابن سيد الناس ١ : ٢٣ / ٢٤.
    حتىٰ اسكنتُ في صلب عبد الله ورحم آمنة بنت وهب » (١).
    وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نُقلنا من الأصلاب الطاهرة إلىٰ الأرحام الزكيّة » (٢).
    وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما ولدني من سفاح الجاهلية شيء ، وما ولدني إلّا نكاح كنكاح الإسلام » (٣).
    وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لم يلتق لي أبوان علىٰ سفاح قط ، لم يزل الله عزّوجلّ ينقلني من الأصلاب الطيبة إلىٰ الأرحام الطاهرة (المطهرة) هادياً مهدياً » (٤).
    وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام في (نهج البلاغة) واصفاً حسب ونسب النّبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله : « فاستودعهم في أفضل مستودع ، وأقرّهم في خير مستقر ، تناقلتهم كرائم الأصلاب إلىٰ مطهرات الأرحام ، كلّما مضىٰ منهم سلف قام منهم بدين الله خلف ، حتّىٰ اقتضت كرامته سبحانه وتعالىٰ إلىٰ (محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله) فأخرجه من أفضل المعادن منبتاً ، وأعزّ الأرومات مغرساً ، من الشجرة التي صدع منها أنبياءه ، وانتجب منها أُمنائه ، عترته خير العتر ، وأسرته خير الاُسر ، وشجرته خير الشجر ، نبتت في حرم ، وسبقت في كرم ، لها فروع طوال ، وثمر لا ينال ، فهو إمام من اتقىٰ ، وبصيرة من اهتدى ، سراج لمع ضوؤه ، وشهاب سطع نوره ، وزند برق لمعه ، سيرته القصد ، وسنّته الرشد ، وكلامه الفصل ، وحكمه العدل ، أرسله علىٰ حين فترة من الرسل ، وهفوة من العمل ، وغباوة
    _____________
    (١) إيمان أبي طالب / فخّار بن معد الموسوي : ٥٦.
    (٢) المصدر السابق.
    (٣) إحقاق الحق / القاضي التستري ٢ : ٢٧٥.
    (٤) معاني الأخبار / الصدوق : ٥٥ / ٢.
    من الاُمم » (١).
    وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلىٰ الأرحام الطاهرة مصفّىً مهذّباً لا تتشعّب شعبتان إلّا كنت في خيرهما » (٢).
    وأخرج ابن الجوزي باسناده عن عليّ عليه‌السلام مرفوعاً : « هبط جبرئيل عليه‌السلامعليّ فقال : إن الله يقرئك السلام ويقول : حرِّمت النار علىٰ صلب أنزلك ، وبطن حملك ، وحجر كفلك » ، أمّا الصلب فعبدالله ، وأمّا البطن فآمنة ، وأمّا الحجر فعمّه ـ يعني أبا طالب ـ وفاطمة بنت أسد (٣).
    خطوبتها عليها‌السلام :
    لقد عَرفت السيدة (آمنة) في طفولتها وحداثتها ابنَ عمّها (عبد الله بن عبد المطلب) حيث إنّ بني (هاشم) كانوا أقرب الأُسر جميعاً إلىٰ بني (زهرة) فجمعتهم أواصر الودّ القديم التي لم تنفصم عراه منذ عهد الشقيقين قصي وزهرة ولَدَي كلاب بن مرّة.
    هكذا عرفته قبل أن ينضج صباها ويحجبها خدرها ، والتقت وإيّاه في الطفولة البريئة علىٰ روابي مكّة وبين ربوعها وفي ساحة الحرم الآمن ، كما
    _____________
    (١) نهج البلاغة / بشرح محمّد عبدة ١ : ١٧٠.
    (٢) إحقاق الحق / القاضي التستري ٢ : ٢٧٦ الحاشية ٣ في وجوب تنزّه الأنبياء عن دناءة الآباء.
    (٣) أخرجه ابن الجوزي بإسناده عن الإمام علي عليه‌السلام مرفوعاً ، راجع : كتاب الغدير ٧ : ٣٧٨ عن كتاب التعظيم والمنّة للحافظ السيوطي : ٢٥.
    جمعتهما مجامع القبيلة ، إذ كان عبد المطلب سيد بني هاشم ، ووهب سيد بني زهرة يتزاوران ويجتمعان علىٰ ودّ ، وكذا يجتمعان كُلّما أهمّهُما وأهمّ قريش معضل ، ثمّ حجبت السيدة (آمنة) حين لاحت بواكير نضجها في الوقت الذي كانت فيه خطوات (عبد الله) تسرع من مرحلة الصبا إلىٰ غض الشباب.
    أجل : إنّ شذىٰ عطرها ينبعث من دور بني زهرة ، فينتشر في أرجاء مكّة ويثير أكرم الآمال في نفوس شبانها الذين زهدوا في كثيرات سواها ، نعم لقد ابتذلتهن العيون والألسن.
    ورَنَت أنظار الفتيان من بيوتات مكّة إلىٰ زهرة قريش ، وتسابقوا إلىٰ باب بيتها يلتمسون يدها ، ويزفّون إليها ما لهم من مآثر وأمجاد ، لقد تسابق إليها سلام الله عليها الكثيرون ، لكن (عبد الله) لم يكن من بين هؤلاء.
    أمّا الذي منعه من زواجها وهي الجديرة بذلك ، هو نذر أبيه عبد المطلب ، لأنّه ما لم تنتهِ قضية النذر فإنّ زواجه منها لا يصحّ ، وصارت مسألة النذر تدور في فكر عبد المطلب.
    وحدث ما حدث من مسألة ذبح عبد الله حينما أقرع صاحب الأقداح فخرج الذبح علىٰ عبدالله ، وهمّ عبد المطلب بذبح ابنه الحبيب ، وأخيراً انتهت المسألة بأن يُقرع بين عبد الله ونحر الابل ، حيث قام عبد المطلب يدعو الله ثمّ قرّبوا عبد الله وعشراً من الإبل وأقرعوا بينهما فخرج القدح علىٰ عبد الله ، ثمّ زادوهما عشرا عشرا وعبد المطلب يدعو الله بخالص الدعوات حتىٰ بلغت الإبل المائة فقرعوا بينهما ، فهتفت قريش ومن حضر من الناس انّه قد انتهى رضا ربّك يا عبد المطلب ! وخرج القدح علىٰ المائة من الإبل ، فهزّ عبد المطلب رأسه في ارتياب وقال : لا والله حتىٰ أضرب عليها ثلاث مرات ! فضربوا علىٰ

    عبدالله وعلىٰ الإبل المائة ، وعبد المطلب يدعو الله فخرج القدح علىٰ الإبل ، ثمّ عادوا الثانية والثالثة والقدح يخرج علىٰ الإبل ! وعند ذلك اطمأن قلب شيخ قريش ونُحرت الإبل.
    وبعد أن حصل الاقتراع بين (الأقداح وعبد الله) وانتهت المسألة بفداء عبد الله بمائة من الإبل ، انصرف عبد المطلب آخذاً بِيَدِ ابنه عبد الله ، وكان ذلك بعد حفر بئر زمزم بعشر سنوات (١) حتىٰ أتىٰ دار وهب بن عبد مناف ابن زهرة ، وهو يومئذ سيد بني زهرة نسباً وشرفاً ، ليطلب يد ابنته (آمنة) لابنه المفدّىٰ (عبدالله).
    وهنا أقبلت أُمّها (برَّة) متهلّلةَ الوجه مشرقة الأسارير بعد أن رأت وهب زوجها يدنو منها ليقول لها في رقّة وحنو : إنّ شيخ بني هاشم قد جاء يطلب يد ابنتها (آمنة) زوجةً لابنه المفدّىٰ عبد الله ! ثمّ عاد أبوها من فوره إلىٰ ضيفه عبد المطلب ، ولكن السيدة آمنة اُصيبت بذهول ، وما لبثت أَن أفاقت علىٰ صوت قلبها يخفق عالياً حتىٰ ليكاد يبلغ مسمع اُمّها الجالسة إلىٰ جوارها ، أحقّاً آثرتْها السماء بفتىٰ هاشم زوجا لها ؟
    وحينئذٍ توافدت سيّدات آل زهرة مهنّئات مباركات ، ثمّ توافدت نساء قريش علىٰ (زهرة قريش) مهنّئات اقترانها بفتى هاشم الصبيح ، ولهذا الحسب والنسب أشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً : « ما ولدتني بغيٌّ قط مذ خرجت من صلب أبي آدم ، ولم تزل تنازعني الاُمم كابراً عن كابر حتىٰ خرجت في أفضل حيّين في العرب : هاشم وزهرة » (٢).
    _____________
    (١) إيمان أبي طالب / فخار بن معد الموسوي : ٤٣.
    (٢) تاريخ ابن عساكر ٣ : ٤٠١ باب ذكر طهارة مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وطيب أصله وكرم محتده.
    عشية زواجها من عبد الله عليهما‌السلام :
    توقّف الزمن مبتهجاً ، وأُضيئت المشاعل في شتىٰ أرجاء البلد الحرام مكّة ، وحفلت دار الندوة بوجوه قريش وساداتها ، وسمرت مسامر البلدة المقدسة تسترجع قصة الذبيح الأوّل حين مضىٰ به أبوه (إبراهيم الخليل عليه‌السلام) إلى الجبل كَي يذبحه طاعةً وتعبّداً ، فافتداه الله بكبش عظيم بعد أن كاد الموت قاب قوسين أو أدنىٰ ! إنّها القصّة التي تناقلها الآباء والأجداد جيلاً بعد جيل ، تعود فتمثّل علىٰ المسرح نفسه ، وفي البيت العتيق الذي رفع إبراهيم قواعده وإسماعيل الذبيح المفتدىٰ الأوّل ، ولكن المفتدىٰ هذه المرّة هو حفيد أصيل من ذرّية إسماعيل عليه‌السلام. لقد هزّت قصة الفداء قلوب كل المكيّين تعلّقاً بالشاب الوسيم فتىٰ هاشم الذي مسّت الشفرة منحره الشريف ، لكن الله أنقذه بأغلىٰ فدية في ذلك الحين.
    أجل استغرقت أفراح زواجه الميمون ثلاثة أيام بلياليها ، وكان عبد الله أثناءها يقيم مع عروسه الجميلة والميمونة السيدة (آمنة) فتاة قريش في دار أبيها ، وعلىٰ عادة القوم (١) ، حتىٰ إذا أشرق صباح اليوم الرابع سبقها إلىٰ داره كي يتهيّأ لاستقبال عروسه الملاك. أجل تلقّاها (عبد الله) علىٰ باب داره متلهّفاً مشتاقاً إليها ! وكان بيته رحباً مريحاً لهما ، وهنا ترك العريس (عبد الله) عروسه في مخدعها مع رفيقاتها من سيدات (آل زهرة) وخرج إلىٰ رحبة داره الواسعة حيث يستقبل ضيوفه الكرام الذين صحبوا عروسه المباركة في قدومها إلىٰ بيته ، ومضىٰ وَهْنٌ من الليل والقوم ساهرون يباركون العروسين ويدعون لهما ،
    _____________
    (١) عيون الأثر / ابن سيد الناس ١ : ٢٥.
    إذ هما أعزّ من عرفت مكّة حسباً وأعرقهم نسباً ، وقد كانت سوداء بنت زهرة الكلابية كاهنة قريش قد رأت السيدة آمنة فقالت : هذه (النذيرة) أو ستلد نذيراً (١). ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ) (٢). وأما زواجهما عليهما‌السلام فكان ليلة الجمعة المصادف عشية عرفة ، فما أعظم تلك المناسبتين وما أعظم العروسين !
    فهنيئاً لك يا آمنة ، لقد ظفرت بمن تقطّعت قلوب سيدات مكّة من أجله !! ويذكر بودلي (٣) صاحب (كتاب الرسول) عن فتى هاشم :
    إنّ عبد الله اشتهر بالوسامة ، فكان أجمل الشباب وأكثرهم سحرا وذيوعَ صيتٍ في مكّة ، ويقال انّه لمّا خطب السيدة (آمنة) تحطّمت آمال قلوب الكثيرات من سيدات مكّة اللاتي كُنّ يؤمّلنه ، فهو حلم عذارىٰ قريش ومرمىٰ آمال الفتيات ! الأمر الذي يشير إلىٰ كون عبد الله عليه‌السلام يوسف قريش في اتزانه وجماله.
    شمائلها وصفاتها عليها‌السلام :
    كانت من أحسن النساء جمالاً ، وأعظمهن كمالاً ، وأفضلهن حسباً ونسباً ، وكان وجهها كفلقة القمر المضيء ، وقد وصفها أمير المؤمنين عليعليه‌السلام : قائلاً :
    « والله ما في بنات مكّة مثلها ، لأنّها محتشمة ونفسها طاهرة مطهرة ، عفيفة أديبة عاقلة ، فصيحة بليغة ، وقد كساها الله جمالاً لا يوصف ».
    والحق : إنّ السيدة آمنة كانت من أكابر النساء ، ومن أشراف النسوة
    _____________
    (١) الروض الأنف / السهيلي ١ : ٤١.
    (٢) سورة آل عمران : ٣ / ٣٤.
    (٣) تراجم سيدات بيت النبوة / د. بنت الشاطئ : ١٠٤.
    المكرّمات ، وإنّها من أعلىٰ العرب نسباً وحسباً ، سطع نور فخرها السماوات العلىٰ ، وهبت رياح عطرها في كل ذرات الهواء ، فلها الفضل الجميل الذي لم يسمح الدهر لغيرها بمثيل ، وكل ما يذكره المؤرّخون عنها سلام الله عليها أنّها كانت : (أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً) (١) ، ولهذا أشار في حقّها العباس بن عبد المطلب عليه‌السلام قائلاً : كانت ـ آمنة ـ من أجمل نساء قريش وأتمّها خُلقاً (٢).
    حملها بسيد الكائنات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله :
    أجل تمَّ زواجهما عليهما‌السلام وسرعان ما بانت البشرىٰ لهما ، حيث نامت السيدة آمنة ليلتها وعبد الله إلىٰ جانبها ساهر يقظان يرقب نور الفجر الوليد ، حتىٰ إذا دنا الصبح استيقظت العروس (آمنة) من نومها الهنيء وأقبلت علىٰ زوجها تحدّثه عن رؤياها : رأت كأنّ شعاعاً من النور انبلج من كيانها اللطيف يضيء الدنيا من حولها حتىٰ انّها لترىٰ قصور بصرىٰ في الشام ، وسمعت هاتفاً يهتف بها : لك البشرىٰ فانّك حملت بسيد هذه الاُمّة (٣). وبقي عبد الله مع عروسه الميمونة عدّة أيّام ، وقيل عشرة أيام (٤) ، وكان يشعر أنّ عروسه آمنة تحمل له جنينه الغالي ، وقد بدت لعينيه في تلك اللحظات داخل إطار من نور مقدّس ووسط هالة من الاشعاع السماوي ، ولكنه كان مضطرّاً إلىٰ السفر وهو علىٰ أمل
    _____________
    (١) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٣٨.
    (٢) إكمال الدين وإتمام النعمة / الصدوق ١ : ١٧٥ / ٣٢.
    (٣) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٤٠.
    (٤) ذكر ذلك جمهور المؤرخين / وقيل : إن عمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمانية وعشرون شهراً ، سيرة ابن هشام ١ ـ ٢ : ١٥٨ حاشية (٣).
    اللقاء القريب ! إذ كان عليه أن يلحق بقافلة قريش التجارية المسافرة من مكّة المشرفة إلىٰ مدينة غزّة بفلسطين ثمّ الشام ، فسافر عليه‌السلام مودّعاً زوجته الحبيبة حيث أخبرها أنّ سفرته ليست طويلة ، وإنّما هي بضعة أسابيع ! وقد مضىٰ شهر واحد ولا جديد فيه سوىٰ أنّ السيدة (آمنة) شعرت بالبادرة الاُولىٰ للحمل ، وكان شعورها به رقيقاً لطيفاً.
    روىٰ الحافظ ابن سيد الناس من طريق الواقدي بسنده إلىٰ وهب ابن زمعة عن عمّته قالت : كُنّا نسمع أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا حملت به اُمّه آمنة سلام الله عليها كانت تقول : ما شعرت بأنّي حامل فيه ، ولا وجدت له ثقلة كما تجد النساء ، إلّا أنّي أنكرت رفع حيضتي فقال : هل شعرت انك حملت ؟ فكأني أقول ، ما أدري ، فقال : انّك حملت بسيد هذه الاُمّة ونبيّها ، وذلك يوم الاثنين ، فكان ذلك مما أيقن عندي الحمل (١).
    وعن الزهري قال : قالت السيدة آمنة : لقد عَلِقتُ به فما وجدت مشقّة حتىٰ وضعته (٢).
    أمّا خبر حمل السيدة آمنة بوليدها ، ففي ديار الحجاز كانت قد علمت الكهنة بذلك نظراً لكثرة هطول بركات السماء وبزوغ بركات الأرض ، حيث إنّ العرب كان قد أصابها قحط ومخمصة ، وعند حمل السيدة بوليدها صلى‌الله‌عليه‌وآله نزل المطر وكثرت النعم عليهم حتىٰ سميت تلك السنة بسنة الأنقع (٣).
    _____________
    (١) شرح المواهب اللدنية / الزرقاني ١ : ١٢٠.
    (٢) الطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ١ : ٩٨ خبر (ذكر حمل آمنة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله).
    (٣) سنة الأنقع : يعني سنة نزول المطر وارتواء الأرض والناس والدواب من الماء. منتهى الآمال / عباس القمّي ١ : ٥٦.
    وفاة زوجها عليه‌السلام :
    سافر عبد الله عليه‌السلام إلىٰ الشام علىٰ أمل العود إلىٰ عروسه الميمونة ، فلمّا وصل إلىٰ يثرب مرض هناك ومات ، وقيل : مات بالأبواء بين مكّة والمدينة ، ومضىٰ شهر واحد ولم تسمع شيئاً عن خبره ، وأخيراً عادت قافلة قريش وتعلّقت عينا السيدة آمنة بطرف الباب حتىٰ إذا فتح الباب بعد لحظة طالت كأنّها دهرٌ خذلتها قدماها فوقفت واجمة خائفة ! لأنه لم يكن زوجها الحبيب (عبد الله) هو الطارق والقادم ، بل جاء عمّها الشيخ عبد المطلب في صحبة أبيها ونفر من أهلها الأقربين ، وكانت وجوههم واجمة ، وكانت بركة أُم أيمن تمشي في أثرهم متخاذلة مطرقة برأسها ، تحاول أن تخفي دموعها التي ما برحت أن انهمرت من مقلتيها كالمطر ، ثمّ جاء الحارث وحده لينعىٰ أخاه العريس الشاب إلىٰ أبيه الشيخ عبد المطلب وزوجته العروس وبني هاشم وجميع القرشيين.
    فأوكلت السيدة آمنة أمرها إلىٰ الله صابرة محتسبة ، وهنا أتمّت شهرها الثاني ، ولكن غائبها لم يعُد ولن يعود ، وكانت عاودتها في لحظات نومها القصيرة رؤيا منبّئة عن جنين عظيم تحمله وتسمع الهاتف يبشّرها بخير البشر !
    لم تفتأ السيدة آمنة تذكر زوجها الحبيب وترثيه متوجعة حزينة باكية ، ومن قولها في هذه المأساة :
    عفا جانب البطحاء من زين هاشم وجاور لحداً خارجاً في الغماغم
    دعته المنايا دعوة فأجابها وما تركت في الناس مثل ابن هاشم
    عشية راحوا يحملون سريره تعاوده أصحابه في التزاحم
    فإن تكُ غالته المنون وريبها فقد كان معطاءً كثير التراحم (١)
    _____________
    (١) شرح المواهب / الزرقاني ١ : ١٢٠.
    كما حزن عليه الشيخ عبد المطلب وأهل بيته وذويه حزنا شديدا ، ولبست مكّة حينها ثوب الحداد والعزاء علىٰ فتىٰ هاشم الذي غالته المنون ولمّا ينتزع عنه ثوب العرس ، ولم يمضِ حينها علىٰ فدائه إلّا شهرين وأيام ، وكان عمره سلام الله عليه يوم وفاته ثمانية عشر عاماً ، وترمّلت زوجته العروس الشابة وما يزال في يديها خضاب العرس ! ولبثت مكّة في الحزن علىٰ عبد الله شهراً وعدة أيام.
    ولادتها سيد الكائنات محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله :
    كانت بلاد الحجاز آنذاك تموج بأقوال مرهصة بنبي منتظر قد تقارب زمانه يتحدّث بها الأحبار من اليهود والرهبان من النصارىٰ والكهان من العرب (١).
    لقد تقدّمت بالسيدة آمنة أشهر الحمل ، ولم تبق إلّا أيام قليلة على الولادة المباركة الميمونة ، وبينما كانت تنتظر الوليد بجانب البيت الحرام الآمن وإذا بإبرهة الحبشي يهدّد مكّة ، فجاء إليها عمّها عبد المطلب طالباً منها أن تتهيأ ليخرج بها وأهلها إلىٰ خارج مكة المعظمة ، ولكنّها في نفسها تأبىٰ ذلك إلّا أن تلد وليدها الحبيب وهي بجنب البيت الحرام ، وهكذا عاشت حالتين : حالة التهيأ للرحيل ، وحالة التمسّك بالدعاء لتلد حملها بجانب البيت العتيق ، وبينما هي كذلك حيث تعيش دوامة اختيار القرار ، وإذا بالبشرىٰ تزفّ إليها بأنّ إبرهة وجيشه قد هلكوا وخرجوا يتساقطون بكلّ طريق ويهلكون بأسوء مهلك وإبرهة معهم يتناثر جسمه وتسقط أنامله. فأقبلت قريش علىٰ كعبتها المقدسة تطوف بها حامدة شاكرة ، وتجاوبت أرجاء البلد الحرام بدعوات المصلّين وأناشيد الشعراء.
    _____________
    (١) السيرة النبوية / ابن هشام ١ ـ ٢ : ٢٠٤.
    وبلغت البشرىٰ مسامع السيدة آمنة ، فأشرق وجهها بنور اليقين والإيمان ، وأحسّت غبطة عامرة ان استجاب الله عز وجل دعاءها بأن تلد وليدها المقدّس الطاهر بجنب بيته الحرام ، وجاءها المخاض في أول السحر من ليلة الاثنين وهي وحيدة في منزلها وليس معها إلّا جاريتها ، فأحسّت ما يشبه الخوف ، لكنها ما لبثت أن شعرت بنور يغمر دنياها ، ثمّ بدا لها كأن جمعاً من النساء يحضرنها ويحنون عليها فحسبتهن من القرشيات الهاشميات ، ولكنها أدركت أنهن لسن كذلك ، بل كُنَّ مريم بنت عمران ، وآسيا بنت مزاحم ، وهاجر أُم إسماعيل عليهن السلام ، وتوارت الأطياف النورانية السارية حين لم تعد السيدة (آمنة) وحدها ، أجل فقد كان وليدها المبارك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلىٰ جانبها يملأ الدنيا حولها نوراً واُنساً وجمالاً ، ومضت ترنو إلىٰ طلعته البهيّة وكيانه المشرق ، وتذكر به ذلك السيد الحبيب الذي أودعه إيّاها ثمّ رحل إلىٰ غير عودة سلام الله عليه.
    تاريخ الولادة الميمونة :
    أمّا تاريخ ولادته صلى‌الله‌عليه‌وآله المباركة فهي بعد يوم الفيل بنحو خمسين يوماً ، وهو الأشهر ، وقد نُقل عن ابن عباس قوله : فإنّ المولد كان يوم الفيل ، بينما اكتفى آخرون بالقول : إنه كان عام الفيل ، وهو المقارن لعام ـ ٥٧٠ ميلادي (١).
    كيفية الولادة المباركة وما رافقها من أحداث :
    وفي المقام جملة من الروايات نذكر منها : عن الإمام الصادق عليه‌السلام عن جدّته
    _____________
    (١) سيرة ابن إسحاق : ٤٨ باب مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.
    السيدة آمنة ، أنّها ذكرت كيفية ولادته صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت :
    « إنّ ابني والله لقد سقط ، وما سقط كما يسقط الصبيان سقط ولقد اتّقىٰ الأرض بيديه ورفع رأسه إلىٰ السماء فنظر إليها ثمّ خرج منه نور حتىٰ نظرت إلىٰ قصور بُصرىٰ وسمعت هاتفاً في الجو يقول : لقد ولدتيه سيّد الأمة ، فإذا وضعتيه فقولي : اُعيذه بالواحد من شرّ كل حاسد وسمّيه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله »(١).
    وعن الإمام الكاظم عليه‌السلام ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله سقط من بطن اُمّه واضعاً يده اليسرىٰ علىٰ الأرض ، ورافعاً يده اليمنىٰ إلىٰ السماء ، ويحرّك شفتيه بالتوحيد ، وبدأ من فيه الطاهر نور رأىٰ أهل مكّة منه قصور بُصرىٰ من الشام وما يليها والقصور الحمر من أرض اليمن وما يليها ، والقصور البيض من اصطخر وما يليها ، ولقد أضاءت الدنيا ليلة وُلد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتىٰ فزعت الجنّ والإنس والشياطين » (٢).
    وعن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « لمّا ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أُلقيت الأصنام في الكعبة علىٰ وجوهها ، فلما أمسىٰ سُمِع صيحة من السماء : جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً » (٣).
    آمنة تبشّر عبد المطلب بحفيده الجديد :
    لمّا انبلج الصبح كان أول ما فعلته أن أرسلت إلىٰ عمّها عبد المطلب تبشّره بمولد حفيده الأكرم ، فأقبل مسرعاً وانحنىٰ علىٰ وليده المبارك يملأ منه عينيه ،
    _____________
    (١) روضة الكافي ٨ : ٣٠١.
    (٢) بحار الأنوار / المجلسي ١٥ : ٢٦٠ / ١١.
    (٣) بحار الأنوار / المجلسي ١٥ : ٢٧٤ / ٢٠.
    وقد ألقىٰ كلّ سمعه إلىٰ السيدة آمنة وهي تحدّث عمّا رأت وسمعت حين الوضع لمولودها المبارك وعن كل ما قالت.
    ثمّ حمل عبد المطلب حفيده العزيز بين ذراعيه في رفق ورقّة ، وانطلق به خارجاً إلىٰ الكعبة المعظمة ، فقام يدعو الله ويشكر له أن وهبه ولداً عوضاً عن أبيه السيد الفقيد ، وأحاط به بنوه في خشوع وهو يطوف بالكعبة المشرّفة ويعوّذُه منشداً : (١)
    الحمد لله الذي أعطاني
    هذا الغلام الطيب الأردانِ
    قد ساد في المهد علىٰ الغلمانِ
    اُعيذه بالبيت ذي الأركانِ
    حتّىٰ أراه بالغ البنيانِ
    أُعيذُه من شرّ ذي شنآنِ
    من حاسد مضطرب العنانِ
    ثمّ ردّهُ إلىٰ أمّه وعاد لينحر الذبائح ويطعم أهل الحرم وسباع الطير ووحش الفلاة ، وكانت مكّة حين ذاعت بشرىٰ المولد ما زالت تحتفل بما أتاح الله لها من نصر علىٰ أصحاب الفيل ، فرأىٰ القوم في مولد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله آية تذكّر باُخرىٰ.
    بعدما جفّ لبن اليتيم حزناً علىٰ عبدالله :
    أقبلت السيدة (آمنة) علىٰ صغيرها الحبيب ترضعه ريثما تأتي المراضع من البادية فيذهبن به مع لداته من رضعاء قريش بعيداً عن جو مكّة الخانق ، ولكن
    _____________
    (١) الطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ١ : ١٠٣.
    لبن السيدة آمنة جفّ بعد أيام لما أصابها من حزن لفقدان زوجها الحبيب عبدالله عليه‌السلام ، فدفعت به إلىٰ ثويبة جارية عمّه وكانت قد أرضعت قبله عمّه (حمزة).
    ثمّ لم تمضِ إلّا أيّام معدودات حتّىٰ وفدت المراضع من بني سعد بن بكر يعرضن خدماتهن علىٰ نساء قريش الموسرات ، فعُرض عليهن الرضيع محمّد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فزهدن فيه ليتمه وأنّه لم يكن ذا ثراء عريض إلّا حليمة السعدية رضي الله عنها ، فأخذته صلى‌الله‌عليه‌وآله إلىٰ البادية ثمّ أبقته مدّة سنتين وعادت به إلىٰ أُمّه ، ثمّ أخذته مرّة أُخرىٰ وأرجعته إلىٰ أُمّه المباركة فاستقبلته منها قائلةً :
    واللّه ما للشيطان عليه من سبيل ، وإن لبُنَيَّ لشأناً ، أفلا أخبرك خبره ؟ قالت : قلت : بلىٰ. قالت : رأيت حين حملتُ به أنه خرج مني نورٌ أضاء لي به قصور بصرىٰ من أرض الشام ، ثم حملت به ، فوالله ما رأيت من حَمل قطّ كان أخفّ ولا أيسرَ منه ، ووقع حين ولدته وانه لواضع يديه بالأرض رافع رأسه إلىٰ السماء ، ثمّ ودَّعتنا قائلة لنا : دعيه عنك وانطلقي راشدة (١) ، وعاش معها إلىٰ أن بلغ السادسة من عمره الشريف (٢).
    رحلتها إلىٰ يثرب ووفاتها عليها‌السلام :
    كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أُمّه المباركة آمنة بنت وهب ينبته الله نباتاً حسناً ، فبدرت علىٰ الصبي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بوادر النضج المبكّر ، ورأت السيدة آمنة في وليدها العزيز مخايل الرجل العظيم الذي طالما تمثّلته ووعدت به في رؤياها السابقة.
    _____________
    (١) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٤٥.
    (٢) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٤٨.
    وهنا حدّثت ابنها صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد طال بها الانتظار ، للقيام برحلة يقومان بها إلىٰ يثرب الطيبة ، كي يزور قبر الأب الحبيب عبدالله ، وسرّه أن يصحب أُمّه المباركة في زيارتهما لمثوىٰ أبيه عليه‌السلام ، وأن يتعرف في الوقت نفسه علىٰ أخوال أبيه المقيمين في يثرب ، وكانوا ذوي شرف وجاه عريق ، ولعلّه سمع صلى‌الله‌عليه‌وآله من أُمّه أكثر من مرّة وهي تقصّ عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله حديث (أبي وهب بن عمرو) خال جدّه عبد المطّلب ، وانه كيف تصدّىٰ لقريش حين أجمعت علىٰ تجديد بناء الكعبة فقال مخاطباً :
    يا معشر قريش ، لا تدخلوا في بنائها من كسبكم إلّا طيّباً ، ولا تدخلوا فيه مهر بغي ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس ! (١).
    وكان الجو صيفاً والشمس محرقة تلهب صخور مكّة وتصهر رمالها حيث بدأت السيدة (آمنة) تتهيّأ للرحلة الطويلة والشاقّة ، تجتاز بها الأميال المائتين التي تفصل مكّة عن يثرب حيث يرقد في ثراها زوجها الحبيب (عبد الله عليه‌السلام) الذي ودّعها منذ سبع سنين ، ولم تكن تجهل مشقّة السفر عبر الصحراء ، ولكن شوقها إلىٰ زيارة يثرب حيث قبر زوجها كان أقوىٰ من عقبات السفر ، وألقت السيدة آمنة نظرة الوداع علىٰ دار عرسها مع زوجها الحبيب عبد الله والتي وضعت فيه ولدها المبارك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.
    وسار الركب حتىٰ توارت جدران مكّة خلف الجبال الشُّم ، وتوجّه الراحلون شمالاً ، واستمرّت الرحلة حتىٰ شارفت علىٰ النهاية ، فجمعت السيدة آمنة نفسها ، وأقبلت علىٰ ولدها المبارك تحدّثه من جديد عن أبيه ، وتغريه بأن يتطلّع إلىٰ المدينة البيضاء التي بدأت تتكشّف خلف جبل أُحد حيث ينبسط
    _____________
    (١) السيرة النبوية / ابن هشام ١ : ١٦٦ ـ ١٦٧.
    السهل وتطمئن الأرض ويتموّج عشبها الأخضر وتحنو عليها ظلال النخيل الباسقات ، وأناخ الركب في يثرب ، وترك السيدة آمنة وولدها المبارك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وجاريتها في حيّ بني النجّار ، ثمّ أخذت ولدها ومضت تطوف بالبيت الذي مرض فيه زوجها عبدالله ، وتحجّ إلىٰ القبر الذي حوىٰ رفاته الطاهرة عليه‌السلام ، ثمّ أطلقت ولدها ليعيش بين أولاد أخواله ، وطاب لهما العيش شهراً كاملاً ، نفّست عن حزنها المكبوت ، وأسعفتها عيناها بما شاءت من دموع ، ثمّ ودّعت قبر حبيبها عبدالله وركبت راحلتها وركب معها ولدها الميمون صلى‌الله‌عليه‌وآله وجاريتها باتجاه مكّة ، وإذا هم في بعض مراحل الطريق إذ هبّت عاصفة عاتية أخذت تسفع المسافرين بريحها المحرقة ، وقد شعرت عندها السيدة آمنة بضعف طارئ مكّن لها من جسمها المتعب ما كانت تجد من لوعة الفراق الجديد (فراقها وليدها محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله) وحينها أحسّت السيدة آمنة بالفراق المحتوم ، فتشبّثت بوحيدها الحبيب معانقة له ، وقد انهمرت دموعها ، وأخذ وليدها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله يجفّف دموعها برقّة ولطف ليخفّف عنها رهبة الموقف ، ويرجو أن تعود بصحّة وعافية ، لكن فجأة تراخت ذراعاها عنه ، فحدَّقَ فيها ، فراعه أن بريق عينيها الحنونتين انطفأ ، وصوتها خفت ، ونظر إليها فكلّمته قائلة :
    بارك الله فيك من غلامِ ياابن الذي من حومة الحمامِ
    نجا بعون الله الملك العلامِ فودّي غداة الضرب بالسهامِ
    بمائة من إبلٍ سوامِ
    ثمّ أمسكت تستريح ، فلمّا التقطت أنفاسها اللاهثة قالت مخاطبة ابنها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله :
    إن صحّ ما أبصرت في المنام فأنت مبعوث علىٰ الأنام
    من عند ذي الجلال والإكرام تبعث في الحل وفي الحرام
    تبعث بالتحقيق والإسلام دين أبيك البر ابراهام
    فالله أنهاك عن الأصنام أن لا تواليها مع الأقوام
    وأخيراً أردفت قائلة : (كلّ حيّ يموت ، وكلّ جديد بالٍ ، وكلّ كبير يفنىٰ ، وأنا ميّتة ولكن ذكري باقٍ ، فقد تركت خيراً ، وولدت طهراً) (١) ، ثمّ ذاب صوتها راحلةً إلىٰ الملكوت الأعلىٰ.
    وقد دفنت سلام الله عليها في (الأبواء) (٢) ، وتذكر رواية أُخرىٰ أنها نقلت ودفنت في مكّة المكرمة في مقبرة الحجون (وهو جبل بأعلىٰ مكّة ومحيط بها) وقد ضمّت تلك المقبرة فيما بعد جسد السيدة خديجة عليها‌السلام بجنب قبر السيدة آمنة عليها‌السلام ، ولذا قال في حقّهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ان الحجون والبقيع لتؤخذان بأطرافهما وتنثران في الجنّة » (٣).
    وقد أجاد الشاعر في تأبين سيدة الاُمهات آمنة ، منشداً :
    نبكي الفتاة البرّة الأمينه ذات الجمال العفّة الرزينه
    زوجة عبد الله والقرينه أُم نبي الله ذي السكينه
    لو فوديت لفوديت ثمينه وللمنايا شفرة سنينه
    لا تبقين ظاعناً ولا ظعينه إلّا اتت وقطعت وتينه (٤)
    وهكذا انقضت حياة آمنة بنت وهب عليها‌السلام في دار الدنيا لتبدأ رحلتها الثانية من جديد ، رحلة خالدة لا تعب فيها ولا نصب ، لتلتقي بكوكبة النساء
    _____________
    (١) الحاوي للفتاوي / السيوطي ٢ : ٢٢٢.
    (٢) الطبقات الكبرىٰ / ابن سعد ١ : ٧٧.
    (٣) سفينة البحار / عباس القمي ١ : ٢٧٢ مادة « حجن ».
    (٤) الحاوي للفتاوي / السيوطي ٢ : ٢٢٢.
    الخالدات المؤمنات اللواتي رضي الله تعالىٰ عنهن وخلد ذكرهن بما أحسنَّ ، فنعم عقبىٰ الدار.
    فسلام عليك يا سيدة الاُمهات يوم حملت بوليدك الوتر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ويوم ولدته رحمة للعالمين ، ويوم تبعثين وعند وليدك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله كرامة الشفاعة بين يدي ربّ العالمين.


    المصدر:شبكة رافد للتنمية

  2. #2
    عضو محظور
    تاريخ التسجيل: November-2014
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 1,814 المواضيع: 1
    التقييم: 1278
    آخر نشاط: 3/April/2022
    بارك الله فيكم على الطرح الرائع

  3. #3
    من اهل الدار
    Lord of Wisdom
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ورق التوليب مشاهدة المشاركة
    بارك الله فيكم على الطرح الرائع
    وبارككم الله وحياكم وبياكم وانرتم

  4. #4
    من أهل الدار
    تاريخ التسجيل: June-2017
    الدولة: العراق
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 1,100 المواضيع: 4
    التقييم: 752
    مزاجي: جيد
    أكلتي المفضلة: سمك
    آخر نشاط: 15/July/2021
    طويل كلش
    احسنت اخوي

  5. #5
    من اهل الدار
    Lord of Wisdom
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو فاطمه مشاهدة المشاركة
    طويل كلش
    احسنت اخوي
    ههههه
    انرت عزيزي
    لا يستطيع احد ان يختصر سيرة هذه العظيمة
    انما اقتطفت الجزء اليسير القليل من سيرتها الشريفة
    اهلا وسهلا بك

تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال