من أهل الدار
عــطـر الــمرجــلة
تاريخ التسجيل: November-2017
الجنس: ذكر
المشاركات: 2,746 المواضيع: 49
مزاجي: الحمدلله
المهنة: Programmer
أكلتي المفضلة: الكباب
موبايلي: huawei
آخر نشاط: 26/November/2020
قصتي "رجال العراق " إهدائي لكل الشهداء والأبطال في قواتنا الأمنية والحشد الشعبي
القصة واقعية من أحد أقاربي وأصدقائي مع إضافات لتضحيات رجالنا الأبطال .
قراءة ممتعة
رجال العراق
أختفتْ آخر ثلاث نـجمات متلئلئات من السماء, فحيَّتْ الأشجار الندية الفجر البارد الفتَّان بحركات خفيفة من أوراقها الكسولة وبينما كانتْ الشمس تحتجبُ وراء الأفق ولم تظهر بعد كان ثمةَ ضباب كثيف يسيرُ بين الحقول ويختفي بين المنحدرات الطينية ومستنقعات القصب المعشوشبة على ضفتي نهر الغراف شمال مدينة ذي قار وفي الأفق البعيد كانتْ الحنطة الخضراء ذات الأوراق المدببة تشقُ الأرض الطينية بهدوء وهي تعلو بشموخ غريب قبلَ أن تتحولَ بعدَ أسابيع لشرائط ذهبية تتلاعب مع خيوط الشمس الصفراء والرياح القادمة وهي تنسجُ مشهد بديع حيث كان آل صالح يعيشون منذُ مئات السنين ..
كان العجوز صالح أول من جلسَ في البيت, فخرج إلى الفناء وهو يفركُ عينيهِ بيده اليمنى ويُخرجُ ما فيها من ذقنٍ متيبس, فوقفَ لحظات وتثاءبَ وهو يتأملَ المنظر واستنشقَ نفساً طويلاً وهو ينظرُ إلى الحقول والحشيش الأخضر فتصاعدتْ أصوات الماشية من بيتها الطيني فاتجه نحوها وفتحَ لها الباب وقفِلَ عائداً إلى البيت وهو يُنادي :
- عباس .. إستيقظ, فقد أطلقتُ الماشية ..
جلسَ عباس وهو يتنفسُ من أنفهِ بتثاقُل, فسحبَ قميصهُ ولبسهُ بسرعة وجلسَ يلبسُ جواربه بتمهل فقضى وقتاً طويلاً قبلَ أن يقوم ويقضي باقي الوقت بارتداء حذائهِ الأبيض وينشغلُ بشدِ قيطانها وبعد لحظاتْ جاءتهُ العجوز بكيس بلاستيكي فيه طعام وقالتْ له :
- إذهب يا بُني, فالماشية في الخارج منذُ وقت طويل ..
في الداخل اتجه العجوز صالح نحو غرفة الإبن الآخر محمود,فاليوم قد انتهتْ إجازته وعليه أن يلتحق بالحرب ضد جنود الشر فبعد الأحداث الدامية التي جرتْ في الموصل تم دفع قسم من الفرقة العاشرة مشاة للجيش العراقي التي ينتمي إليها ومقرها مدينة الناصرية إلى الصفوف الأولى للحرب وبعد تحقيقها انتصارات كبيرة تم تحويلهم إلى الرمادي بعد أن كانوا يتمركزون في الحويجة وكان محمود من ضمن الأعداد التي ذهبتْ للقتال في هذهِ الحرب ...
على مبعدة من القرية كانتْ المدينة الصغيرة قلعة سكر تنمو بسرعة كبيرة وتمتدُ شاخصة ببصرها عبر السهوب الخضراء والتلال المتموجة وجريان نهر الغراف القادم من نهر دجلة الخالد, فقد كانتْ المدينة صغيرة ونظيفة بشوارعها المستقيمة والمتعرجة وجميلة بتصميمها الحديث وأسواقها الكبيرة المكتظة دائماً صباح كل يوم ..
كان أصدقاءه الجنود ينتظرونهُ في أحدِ مقاهي ساحة المدينة المدورة ومن ضمنهم ابن عمه سلمان الذي كان يمتلكُ صوتاً جهورياً ودائماً ما كان يزعق كأنهُ أحدُ ضباط الجيش القُدامى ..
قبلَ خروجهِ جلبتْ إليه زوجتهُ الشابة الناعمة آلاء التي كانتْ تمتلك عينان رماديتان وحشيتان فطوره الذي يحتوي على القيمر والجبن والخبز والشاي وبعض الفطائر التي صنعتها بيديها في البيت, فوضعتهُ أمامه وقفِلتْ عائدة بعد سـمـاعِها زعيق طفلها الصغير أسامة, فجاءتْ به وجلستْ على مقربة من زوجها الذي كان مُنشغلاً بالأكل بينما كان فكرهُ ينسجُ حكايات غريبة كحكايات ألف ليلة وليلة ..
بعد لحظات انتَبه من استغراقهِ على أصوات زوجتهِ الناعمة وهي تُحاول إسكات طفلها الذي أصابهُ بكاءٌ شديد .
حدّقَ بها زوجها بعينين عطوفتين وقال :
- هل انتهيت من الأغراض ؟
- نعم كلُّ شيء جاهز محمووو وأرادتْ أن تُكمل حديثها ولكنها تلكأتْ فجأة وصمتتْ فأطرقتْ بنظرها وعادتْ تُلاعب ابنها الصغير ..
قبلَ ذهابهِ كان ثـمة عينان رماديتان وحشيتان تـحتَ وشاح دائري أسود ملفوف بطريقة جميلة مع حزن مكتوم وخجل هائل صاحبهُ صمتٌ مطبق إلا من تأوهات طفلها الصغير الذي كان يمصُ يديه على كتفها الأيسر وما هي إلا لحظات حتى استوعبها محمود بنظرهِ مع طفلها من الرأس حتى الساقين وضمهُم باحتضانٍ شديد ربـما يكون الأخير بينما تصاعدَ بُكاءها .
فقالَ يُكلمها : آه يا آلاء أرجوك لا تبتئسي .. الدموع لا تُفيد يا حبيبتي صدقيني فقد تعلمتُ ذلك عن تجربة هيَّا كفى كفى دموعاً, فأنتِ بخير وأنا بخير ولا تدعي اليأس يدخل قلبك يا عزيزتي ولا تنسي أنكِ امرأةٌ صالحة وسوف نتبادل الإتصالات فيما بيننا, فلماذا تـجرحينني بعد أن أصبحتْ حياتي الآن ذا قيمة, فأنا الآن في سعادةٍ غامرة دعيني أحظى بـها يا حبيبتي أرجوك دعيني والآن إلى اللقاء فهمستْ له قائلة : إلى أين تذهب يا توأم روحي ألم تقلْ بأنكَ ستعيشُ معنا إلى الأبد وسوف ينتهي كلُ هذا .
- سينتهي كل شيء .. سينتهي كل شيء صدقيني اعتني بوالديَّ والصغير, قال زوجها وتركها حاملاً حقيبته .
وما هي إلا لحظات كان محمود جالساً في سيارة الحاج صالح وهي في طريقها نحو المدينة وهو يُرددُ كلماتهِ التي كان يكتبُها أيام الحرب :
أبونا العراق يزهو باليتامى, يزهو بالأرامل الجميلات .
أرضُنا العظيمة شُقتْ بأصابعِ أبنائنا وعرقهم وتضحياتـهم .
نهرانا العظيمان ارتفعتْ مياههُما كثيراً من دموع الآباء والأمهات والأخوة .
نعبتْ البومة فوق بلادنا العظيمة .
وداعاً يا قريتي العزيزة الجميلة .
وداعاً يا صغيرتي الحبيبة الفاتنة .
وداعاً يا مدينتي العظيمة .
وداعاً يا صغيري .
في هذهِ الحرب فقدتْ هذهِ القرية الصغيرة فقط ما يُقارب عشرين شاباً أُقيمَ لهُم العزاء الكبير واجتمعَ الأقارب والعوائل والأصدقاء وقد كانوا فخورين عندما يـمشون بقوامٍ عجيب وكان الناس الآخرون يُحدقون إليهم بنظراتٍ فضولية إلى وجوههم التي لم تزل تَشعُ بتحدٍ عجيب إثرَ هذهِ الحرب اللعينة .
كانتْ الحياة في القرية تجري وفق نظامها البسيط الذي كان مُتكرراً أغلب الأوقات فكان الرجال يتدفقون صباحاً إلى سوق المدينة بينما يبقى بعض الأبناء للعمل ويأخذ الآخرون الماشية لكي ترعى في السهوب الواسعة المنتشرة شمالاً وشرقاً بينما كان الوقت يـمر دون أن يشعرَ بهِ أحد .
في ساحة المدينة المدورة وقفتْ سيارة العجوز صالح الذي جاء بولدهِ من القرية, وكان الناس يمرّون من مختلف الأشكال والأعمار ذهاباً وإياباً وكان قسماً من أصدقائه القرويين يبيعون الخضروات وهم منتظمون في صفوفٍ طويلة وكان بعض الرجال الجالسين في المقهى يحملقون في السيارة وقد اختلفَ إثنان منهم بأنـها ستصل إلى الموصل بينما كان الآخر يُشكك في قدرتها على فعلِ ذلك وهي لا تعدو أن تصل لاهثة منهكة إلى بغداد وانتهى حديثهم بأسعار السيارات ومن هي الأفضل ؟
في المقهى المُحدد تَجمّعَ عدداً من الرجال وهم يرتدون أزياءهم العسكرية ذات اللون البرّاق وقد التمَعتْ عيونُهم باللون الأخضر الداكن وهبَّوا واقفين عندما شاهدوا محمود وهو يتأبط حقيبتهِ السوداء المتوسطة الحجم وهم يقولون :
- هيا بنا لقد تأخرنا . هيَّا بنا .
وبعدَ دقائق استقلَّ الجنود سيارة وجلسَ محمود مائلاً إلى الوراء وقد دفنَ رقبته في ياقة معطفه وهو يراقبُ محطات الطريق ..
كان الطريق الطويل من ذي قار إلى الأنبار يمرُّ بعدة مناطق فهو يجتازُ محافظة واسط بمدنها وقُراها الحي , الكوت , النعمانية , العزيزية , الصويرة , الدبوني بساعتين ونصف وبعد ذلك يتواصل الطريق بساعة ونصف حتى دخول العاصمة بغداد وعندها يتم التوجه شرقاً نحو مدينة الأنبار مروراً بأبي غريب والفلوجة والحبانية والخالدية ..
حاولَ محمود أن يتذكر الطريق ومحطاتهِ إلا أنهُ كان يرى صوراً خيالية باهتة وخالية من المعنى فاستندَ إلى الخلف وحاولَ النوم ولكنهُ لم ينجح حتى وصولهِ .
في القرية عملتْ آلاء بجدٍ مع العجوزين وعاشتْ الأيام يراودها أمل وحيد وهو عودة زوجها محمود, فقد كانتْ تخلو مع نفسها في أوقات الشفق عندما تلامس خدود الشمس احضان نهر الغراف, فكان قلبُها يَنبضُ بحنين عظيم لزوجها يُصاحبهُ ألمٌ وشوق وكانتْ تُقاسي هذهِ المشاعر يومياً خاصة عندما ترى جنود القرية العائدين في إجازة عسكرية علَّها تلمحُ من جديد شبح زوجها الأسمر وهو يتفقدها ويلاعبُ أسامة الصغير, وقد كان يسرُّها أن تجلسَ لتصغي إلى حكايات العجائز اللاتي يتجمعنَ يومياً في الفناء الخارجي, فينبعث في قلبها دفءٌ عجيب .
بعد اجتيازهم مناطق الحبانية والخالدية التحمَ الجنود مع أصدقائهم المتمركزين على مبعدة من مدينة السجارية التي كانَ يدور فيها قتالٌ عنيف على بعد عشرين كيلومترا إلى الغرب منها وقد بدتْ ملامحها العالية واضحة للعيان وهي تنتصبُ شامخة كأنها تُرحبُ بأبنائها من جديد وقد استمرَ القتال وهدير المدفعية لعشرة أيام بلا انقطاع , وفي الليل كانتْ الأضواء اللامعة وأشعة الكشَّافات المختلفة تمزق أغشية الظلمة التي غطتْ السماء باعثة برسائل قلق لأولئك الذين كانوا يرقبون موقف الحرب وتطورات المدينة المتصاعدة .
في الغروب راح محمود يتأمل في الشمس الغاربة بـخيوطها الباهتة وراء نـهر الفرات فكان الغروب يشعلُ في قلبهِ وهج الفراق وسرعان ما يقول في نفسهِ بعد أن يرى الغيوم مسرعة تولي الأدبار من الأفق قائلاً :
- إنَّ سوح القتال هو المكان اللائق بالشجعان ,فهذاطريقي وطريق آبائي وأجدادي .
وبعد عودتهِ لأصدقائه أبلغَهُم الضابط يقول :
- غداً نتقدم نحو السجارية صباحاً .
في اليوم التالي كانتْ الشمس اللاهبة تحرق الجنود دون رحمة وراح السهب الواسع الكبير يموج بتراب مغبر ومن الجانب كانتْ المعالم تلوح صغيرة زرقاء باهتة ومضتْ السيارات تسير بطيئاً بعد أن تقدمتها الهندسة الآلية للفرقة لإبعاد خطر الألغام والعبوات الأرضية من أمامها وكانتْ وجوه الجنود تنضحُ عرقاً بعد أن تحولتْ وأصبحتْ بنية اللون وباتتْ الآلات الحديدية للجنود يصعبُ لمسها بفعل الشمس الحارقة التي رافقها هواءاً حاراً خانقاً يضرب حبات الرمل قبل أن يلفح وجوه الجنود بقسوة ..
بعد ساعات تقدمَ الجنود كثيراً وفي عصر اليوم عبروا نهراً من خلال قنطرة صغيرة ومضوا يتغلغلون في أرضٍ زراعية خضراء مملوؤة بأشجار الرمان والنخيل التي تشتهرُ بها المدينة ومضتْ الريح تُلاعب الأوراق ,فترسل للجنود الحذرين حفيفاً هامساً مليئاً بالأنغام وفي مكان قصي أمضى الجنود الليلة في هذا المكان بعد أن كانوا يتبادلون الواجبات الملقاة عليهم ...
جلسَ سلمان يُمسد يديه المتدليتين وقد التمعتْ عيناه الصارمتان واستلقى على جذع شجرة نخيل مقطوع من المنتصف وأخذَ محمود يبحثُ في حقيبته عن منشفته الزرقاء التي اختفتْ فجأة وأخذَ أحد الجنود يشحذُ سكيناً من أطرافها لتُساعده على العمل وبينما هُم كذلك كان الضابط علي كاطع يقف خلفهُم وهو يستطلع المنطقة وهو يقول :
- استطيع أن أؤكدَ لكم الآن أننا مع فصائل الحشد التي تشكلتْ سنقضي على الدواعش نهائياً ,فالوضع الذي حصل سابقاً قد اجتزناه ..
فقاطعهُ سلمان وكأنهُ قد استيقظَ لتوه وجعلَ يحكُ جبينه الناتئ محاولاً استيعاب السؤال :
- قلتَ الوضع ولكن ماذا تعني بالوضع ؟
فقال الضابط وقد أرسلَ ابتسامة طفولية عريضة :
- الوضع يعني اجتماع ظروف معينة تأتي أحداث معينة على إثرها .. خُذ مثلاً ما حصلَ في هذهِ الحرب, فقواتنا العراقية المسلحة منظمة كثيراً والخبرات التي لدينا قد أعجزتْ العدو فبينما نقضي أياماً وشهوراً في الخنادق نراهُم بعدها يتقدمون الآف الأمتار وفق إرشادات الطيّارين المحلقين فوق الأرض وقد استعدنا الكثير من أراضينا ولا زلنا نمتلئ بالتغذية والإرادة, فأنا أسألك من أين جاء كل هذا, وقبلَ أن تُجيب أنا أجيبكُ لقد جاء من التنظيم الذي لدينا والروح التي نمتلكها ..
وقبل أن يُكمل كلامه قاطعهُ أحد الجنود بعد أخذ التحية قائلاً :
- سيدي هناكَ سيارة قادمة من القيادة وفيها أحد الجنود يطلب لقاءك ..
فارتدى الضابط قبعته وتركَ سلمان يديه وقدميه اللتان تؤلمانهُ وخرجا ..
وما هي إلا لحظات حتى تم إطلاق صفّارات التجمع وبدأ الضابط يتكلم باهتمام وإثارة :
- لقد قررتْ قيادة الجيش الآن شن هجوم واسع النطاق من ثلاثة محاور على الجبهات الغربية الجنوبية من السجارية بغية اقتحام العدو وتخريب مواصلاته وقطع امداداته وبهذا علينا إشاعة البلبلة في قواته بهجمات مباغتة على مؤخرته وتعلق قياداتنا العسكرية آمالاً كبيرة على هذهِ الخطة وأنقل لكم أخباراً مفرحة, فقد أبلغتني القيادة أنَّ عملياتها بالتعاون مع فصائل الحشد الشعبي ورجال العشائر تزفُّ إليكم تحرير قواطع الصقلاوية والكرمة والإنتصار الكبير على العدو الداعشي في بيجي ودحره منها وتم إرجاع هذهِ المدن لأهلها بفضل سواعد إخوانكُم وتنتظرُ منكم ان تزفوا إليها نبأ تحرير السجارية للإنطلاق منها إلى الرمادي ..
وبعد الإنتهاء من تبليغ الأمر تم تقسيم واجبات الكتائب العسكرية والأهداف التي عليها تحقيقها ومنها كتيبة محمود وفي صباح اليوم التالي انتشرَ الجنود على مساحات واسعة تأهباً للهجوم وبعدَ لحظات أمرَ الضابط قسماً من رجال المشاة بشن هجوماً مصطنعاً على بعد خمس كيلومترات من أطراف الجهة الشمالية وبعدها أرسلَ قسماً من رجال المشاة لهجوم مباغت من الأطراف الغربية الأخرى بغية اجتذاب نيران العدو ..
صدرتْ الأوامر العسكرية للبدء بالهجوم, فزحفتْ الكتائب العسكرية ومنها كتيبة محمود وسلمان إلى الأمام بحذر وقد كانَ مشهداً مُرعباً فقد أصدرَ آلاف الأطنان من الحديد المصفح دوّياً هادراً وهي تنقضُّ على المدينة من محاور عديدة تاركة خلفها أرضاً منسوجة بنسيج الحرب المشتبكة وبعد مسافة ليست بالقصيرة لم يظهر أي أثر للعدو الداعشي وكان بوسع محمود أن يرى من خلف السيارات المصفحة خنادق العدو المهجورة وبدا أنَّ الأفق كان يُحيي الجنود القادمين برقصات أشجار الرمان والليمون مع الريح الدافئة وبدا أنَّ العدو لاذَ بالفرار بعد علمهِ بالهجوم.
وبعد عدة كيلومترات لم تُشاهد كتيبة محمود أي أثر للعدو الداعشي فواصلتْ السرية تقدمها ببذل أقصى ما لديها من طاقة ولكن الحذر كان سيَّدا للجميع ..
وبعد لحظات سمعَ الجنود الآمر وهو يحذرهم بوجود الدواعش في مجموعة من الأوكار مع أوامر باستهدافها وتفاجئوا بالنار وهي نحوهم فدخلوا في غمرة قتال عنيف لا نهاية له مما جعلَ الآمر يستحثهم للتقدم إلى الأمام " هيَّا تقدموا استمروا يا أبطال لا تنبطحوا إلى الأمام من أجل الــعــــراق" وعند ذاك بدأتْ رشاشات الجنود العراقيين عملها بقوة, فأمطرتْ الأهداف المحددة بوابلٍ من الرصاص ورشقتْ البنادق النار في أوكارهم ولمحَ محمود ثلاثة قناصين في الأعلى سبقهُ نداءاً مجلجلاً من الآمر بمعالجة الأهداف, فانطلقتْ رشقات الأسلحة الموضوعة على السيارات المصفحة نحو الأهداف وأخمدتها في مكانها, فتمزق شمل الدواعش ودخلَ الرعب في قلوبهم
وانتهى ذلك الهجوم الواسع إلى انتصار عراقي ساحق وبعد ثلاث ساعات كانتْ السجارية تتنهدُ مطمئنة بأحضان رجال الجيش العراقي وفقدتْ بعض الكتائب عدداً من الجنود في محاور متعددة وجُرحَ البعض الآخر ووقعَ في جيش العدو الداعشي اعداداً كبيرة من القتلى وكانوا جمعاً من جنسيات عالمية مختلفة وهكذا انتهتْ تلكَ المعركة الكبيرة ..
التقطَ المراسل الحربي صوراً عديدة للمعركة وهي تؤرخ أياماً عراقية سومرية وراحَ الآمر في ذلك الوقت يُدبج رسالة إنتصار وصلتْ بعد دقائق للقيادة العسكرية التي باركتْ الإنتصار الكبير وأثنتْ على الجميع ومنحتْ أوسمة الشجاعة لعدة أبطال بينهم الآمر الذي كان يراقب كل صغيرة وكبيرة في المعركة ..
كان محمود بعد أيام يُردد كلماتهِ التي أصبحَ يُرددها كل أصدقائه الجنود :
عالياً في السماء تُقرع طبول المجد
وعبرَ دجلة والفرات يتنقل العراقيون في أراضيهم الشاسعة
قد ألحقوا الهزيمة بجنود الشر
وما زالوا يُحررون كل الأراضي من سطوتهم .
كانتْ الشمس اللاهبة تعبر القرية من خلال السماء الزرقاء التي تناثرتْ فيها بعض الغيوم البيضاء الصغيرة التي كان يسوقها النسيم ببطء نحو الغرب وكانتْ الحرارة في القرية خانقة مميتة وخاصة قرب السقوف الحديدية والشوارع الفارغة والأرض المفتوحة ذات العشب الأصفر اليابس ومضتْ الحياة في القرية تعاني انحساراً بطيئاً ,فقد كانت الأيام مضنية وكئيبة وهي تمضي في أشياء صغيرة عمل ما أو فرح ما وكان القلق يُراود الجميع على أولئك الذين يذهبون للحرب وقد كانتْ تصل منهم رسائل تكتفي بالقول : إننا بخير وسوف نأتي عمَّا قريب .
كان محمود يرسل مع رسائلهِ المكتوبة إلى أهلهِ رواتبه ومكافآته وأوسمتهِ التي حصلَ عليها في الحرب, فقد كتبَ أحد الأيام بأنهُ تمَّ ترقيته لرئيس عرفاء وكتبَ لهم بأنهُ يتمنى أن يصبحَ ضابطاً عمَّا قريب وكان يعد الجميع بالعودة إلى البيت ومعاونتهم في الحصاد خلال فترة إجازته ولكنهُ لم يعُد .
كانتْ الليالي القصار تتلاشى على عجل وقلوب آل صالح طافحة باللهفة وحلاوة اللقاء على محمود الذي وعدهم أكثر من مرة بالمجيء, واشتاقَ آل صالح إلى الأساطير كأهل القرية الآخرين فأصبحوا ينظرون إلى محمود كبطل اسطوري, فقد كان ثمةَ خيط غير مرئي يشدهُم إلى هؤلاء الرجال الذين تنفسوا دخان البارود وأعمتهُم الأحداث من حولهم ..
كانتْ آلاء تنظر في الأفق إلى السهوب الخضراء الواسعة التي يسقيها نهر الغراف ويترامى على أطرافهِ العشب والحشائش وقد كانتْ الشمس لا ترحم من خلال خيوطها الذهبية والرياح لاهبة تلفحُ في الليل والنهار, فكانتْ الشفاه السمراء تتذوق طعم الريح والشمس وتنوء سارحة في الوديان وفي التلال المنخفضة, فتخرجُ مع الأمهات كل خميس لتحرس مجد العراق الدفين على شطآن نهر الغراف وهُنَّ يركعنَ بخشوع ليحفظ الأبناء والأزواج ويلثمنَ التراب المقدس الذي غسلتهُ الدماء التي لا تجف مدى الدهر ...
رجال العراق
أختفتْ آخر ثلاث نـجمات متلئلئات من السماء, فحيَّتْ الأشجار الندية الفجر البارد الفتَّان بحركات خفيفة من أوراقها الكسولة وبينما كانتْ الشمس تحتجبُ وراء الأفق ولم تظهر بعد كان ثمةَ ضباب كثيف يسيرُ بين الحقول ويختفي بين المنحدرات الطينية ومستنقعات القصب المعشوشبة على ضفتي نهر الغراف شمال مدينة ذي قار وفي الأفق البعيد كانتْ الحنطة الخضراء ذات الأوراق المدببة تشقُ الأرض الطينية بهدوء وهي تعلو بشموخ غريب قبلَ أن تتحولَ بعدَ أسابيع لشرائط ذهبية تتلاعب مع خيوط الشمس الصفراء والرياح القادمة وهي تنسجُ مشهد بديع حيث كان آل صالح يعيشون منذُ مئات السنين ..
كان العجوز صالح أول من جلسَ في البيت, فخرج إلى الفناء وهو يفركُ عينيهِ بيده اليمنى ويُخرجُ ما فيها من ذقنٍ متيبس, فوقفَ لحظات وتثاءبَ وهو يتأملَ المنظر واستنشقَ نفساً طويلاً وهو ينظرُ إلى الحقول والحشيش الأخضر فتصاعدتْ أصوات الماشية من بيتها الطيني فاتجه نحوها وفتحَ لها الباب وقفِلَ عائداً إلى البيت وهو يُنادي :
- عباس .. إستيقظ, فقد أطلقتُ الماشية ..
جلسَ عباس وهو يتنفسُ من أنفهِ بتثاقُل, فسحبَ قميصهُ ولبسهُ بسرعة وجلسَ يلبسُ جواربه بتمهل فقضى وقتاً طويلاً قبلَ أن يقوم ويقضي باقي الوقت بارتداء حذائهِ الأبيض وينشغلُ بشدِ قيطانها وبعد لحظاتْ جاءتهُ العجوز بكيس بلاستيكي فيه طعام وقالتْ له :
- إذهب يا بُني, فالماشية في الخارج منذُ وقت طويل ..
في الداخل اتجه العجوز صالح نحو غرفة الإبن الآخر محمود,فاليوم قد انتهتْ إجازته وعليه أن يلتحق بالحرب ضد جنود الشر فبعد الأحداث الدامية التي جرتْ في الموصل تم دفع قسم من الفرقة العاشرة مشاة للجيش العراقي التي ينتمي إليها ومقرها مدينة الناصرية إلى الصفوف الأولى للحرب وبعد تحقيقها انتصارات كبيرة تم تحويلهم إلى الرمادي بعد أن كانوا يتمركزون في الحويجة وكان محمود من ضمن الأعداد التي ذهبتْ للقتال في هذهِ الحرب ...
على مبعدة من القرية كانتْ المدينة الصغيرة قلعة سكر تنمو بسرعة كبيرة وتمتدُ شاخصة ببصرها عبر السهوب الخضراء والتلال المتموجة وجريان نهر الغراف القادم من نهر دجلة الخالد, فقد كانتْ المدينة صغيرة ونظيفة بشوارعها المستقيمة والمتعرجة وجميلة بتصميمها الحديث وأسواقها الكبيرة المكتظة دائماً صباح كل يوم ..
كان أصدقاءه الجنود ينتظرونهُ في أحدِ مقاهي ساحة المدينة المدورة ومن ضمنهم ابن عمه سلمان الذي كان يمتلكُ صوتاً جهورياً ودائماً ما كان يزعق كأنهُ أحدُ ضباط الجيش القُدامى ..
قبلَ خروجهِ جلبتْ إليه زوجتهُ الشابة الناعمة آلاء التي كانتْ تمتلك عينان رماديتان وحشيتان فطوره الذي يحتوي على القيمر والجبن والخبز والشاي وبعض الفطائر التي صنعتها بيديها في البيت, فوضعتهُ أمامه وقفِلتْ عائدة بعد سـمـاعِها زعيق طفلها الصغير أسامة, فجاءتْ به وجلستْ على مقربة من زوجها الذي كان مُنشغلاً بالأكل بينما كان فكرهُ ينسجُ حكايات غريبة كحكايات ألف ليلة وليلة ..
بعد لحظات انتَبه من استغراقهِ على أصوات زوجتهِ الناعمة وهي تُحاول إسكات طفلها الذي أصابهُ بكاءٌ شديد .
حدّقَ بها زوجها بعينين عطوفتين وقال :
- هل انتهيت من الأغراض ؟
- نعم كلُّ شيء جاهز محمووو وأرادتْ أن تُكمل حديثها ولكنها تلكأتْ فجأة وصمتتْ فأطرقتْ بنظرها وعادتْ تُلاعب ابنها الصغير ..
قبلَ ذهابهِ كان ثـمة عينان رماديتان وحشيتان تـحتَ وشاح دائري أسود ملفوف بطريقة جميلة مع حزن مكتوم وخجل هائل صاحبهُ صمتٌ مطبق إلا من تأوهات طفلها الصغير الذي كان يمصُ يديه على كتفها الأيسر وما هي إلا لحظات حتى استوعبها محمود بنظرهِ مع طفلها من الرأس حتى الساقين وضمهُم باحتضانٍ شديد ربـما يكون الأخير بينما تصاعدَ بُكاءها .
فقالَ يُكلمها : آه يا آلاء أرجوك لا تبتئسي .. الدموع لا تُفيد يا حبيبتي صدقيني فقد تعلمتُ ذلك عن تجربة هيَّا كفى كفى دموعاً, فأنتِ بخير وأنا بخير ولا تدعي اليأس يدخل قلبك يا عزيزتي ولا تنسي أنكِ امرأةٌ صالحة وسوف نتبادل الإتصالات فيما بيننا, فلماذا تـجرحينني بعد أن أصبحتْ حياتي الآن ذا قيمة, فأنا الآن في سعادةٍ غامرة دعيني أحظى بـها يا حبيبتي أرجوك دعيني والآن إلى اللقاء فهمستْ له قائلة : إلى أين تذهب يا توأم روحي ألم تقلْ بأنكَ ستعيشُ معنا إلى الأبد وسوف ينتهي كلُ هذا .
- سينتهي كل شيء .. سينتهي كل شيء صدقيني اعتني بوالديَّ والصغير, قال زوجها وتركها حاملاً حقيبته .
وما هي إلا لحظات كان محمود جالساً في سيارة الحاج صالح وهي في طريقها نحو المدينة وهو يُرددُ كلماتهِ التي كان يكتبُها أيام الحرب :
أبونا العراق يزهو باليتامى, يزهو بالأرامل الجميلات .
أرضُنا العظيمة شُقتْ بأصابعِ أبنائنا وعرقهم وتضحياتـهم .
نهرانا العظيمان ارتفعتْ مياههُما كثيراً من دموع الآباء والأمهات والأخوة .
نعبتْ البومة فوق بلادنا العظيمة .
وداعاً يا قريتي العزيزة الجميلة .
وداعاً يا صغيرتي الحبيبة الفاتنة .
وداعاً يا مدينتي العظيمة .
وداعاً يا صغيري .
في هذهِ الحرب فقدتْ هذهِ القرية الصغيرة فقط ما يُقارب عشرين شاباً أُقيمَ لهُم العزاء الكبير واجتمعَ الأقارب والعوائل والأصدقاء وقد كانوا فخورين عندما يـمشون بقوامٍ عجيب وكان الناس الآخرون يُحدقون إليهم بنظراتٍ فضولية إلى وجوههم التي لم تزل تَشعُ بتحدٍ عجيب إثرَ هذهِ الحرب اللعينة .
كانتْ الحياة في القرية تجري وفق نظامها البسيط الذي كان مُتكرراً أغلب الأوقات فكان الرجال يتدفقون صباحاً إلى سوق المدينة بينما يبقى بعض الأبناء للعمل ويأخذ الآخرون الماشية لكي ترعى في السهوب الواسعة المنتشرة شمالاً وشرقاً بينما كان الوقت يـمر دون أن يشعرَ بهِ أحد .
في ساحة المدينة المدورة وقفتْ سيارة العجوز صالح الذي جاء بولدهِ من القرية, وكان الناس يمرّون من مختلف الأشكال والأعمار ذهاباً وإياباً وكان قسماً من أصدقائه القرويين يبيعون الخضروات وهم منتظمون في صفوفٍ طويلة وكان بعض الرجال الجالسين في المقهى يحملقون في السيارة وقد اختلفَ إثنان منهم بأنـها ستصل إلى الموصل بينما كان الآخر يُشكك في قدرتها على فعلِ ذلك وهي لا تعدو أن تصل لاهثة منهكة إلى بغداد وانتهى حديثهم بأسعار السيارات ومن هي الأفضل ؟
في المقهى المُحدد تَجمّعَ عدداً من الرجال وهم يرتدون أزياءهم العسكرية ذات اللون البرّاق وقد التمَعتْ عيونُهم باللون الأخضر الداكن وهبَّوا واقفين عندما شاهدوا محمود وهو يتأبط حقيبتهِ السوداء المتوسطة الحجم وهم يقولون :
- هيا بنا لقد تأخرنا . هيَّا بنا .
وبعدَ دقائق استقلَّ الجنود سيارة وجلسَ محمود مائلاً إلى الوراء وقد دفنَ رقبته في ياقة معطفه وهو يراقبُ محطات الطريق ..
كان الطريق الطويل من ذي قار إلى الأنبار يمرُّ بعدة مناطق فهو يجتازُ محافظة واسط بمدنها وقُراها الحي , الكوت , النعمانية , العزيزية , الصويرة , الدبوني بساعتين ونصف وبعد ذلك يتواصل الطريق بساعة ونصف حتى دخول العاصمة بغداد وعندها يتم التوجه شرقاً نحو مدينة الأنبار مروراً بأبي غريب والفلوجة والحبانية والخالدية ..
حاولَ محمود أن يتذكر الطريق ومحطاتهِ إلا أنهُ كان يرى صوراً خيالية باهتة وخالية من المعنى فاستندَ إلى الخلف وحاولَ النوم ولكنهُ لم ينجح حتى وصولهِ .
في القرية عملتْ آلاء بجدٍ مع العجوزين وعاشتْ الأيام يراودها أمل وحيد وهو عودة زوجها محمود, فقد كانتْ تخلو مع نفسها في أوقات الشفق عندما تلامس خدود الشمس احضان نهر الغراف, فكان قلبُها يَنبضُ بحنين عظيم لزوجها يُصاحبهُ ألمٌ وشوق وكانتْ تُقاسي هذهِ المشاعر يومياً خاصة عندما ترى جنود القرية العائدين في إجازة عسكرية علَّها تلمحُ من جديد شبح زوجها الأسمر وهو يتفقدها ويلاعبُ أسامة الصغير, وقد كان يسرُّها أن تجلسَ لتصغي إلى حكايات العجائز اللاتي يتجمعنَ يومياً في الفناء الخارجي, فينبعث في قلبها دفءٌ عجيب .
بعد اجتيازهم مناطق الحبانية والخالدية التحمَ الجنود مع أصدقائهم المتمركزين على مبعدة من مدينة السجارية التي كانَ يدور فيها قتالٌ عنيف على بعد عشرين كيلومترا إلى الغرب منها وقد بدتْ ملامحها العالية واضحة للعيان وهي تنتصبُ شامخة كأنها تُرحبُ بأبنائها من جديد وقد استمرَ القتال وهدير المدفعية لعشرة أيام بلا انقطاع , وفي الليل كانتْ الأضواء اللامعة وأشعة الكشَّافات المختلفة تمزق أغشية الظلمة التي غطتْ السماء باعثة برسائل قلق لأولئك الذين كانوا يرقبون موقف الحرب وتطورات المدينة المتصاعدة .
في الغروب راح محمود يتأمل في الشمس الغاربة بـخيوطها الباهتة وراء نـهر الفرات فكان الغروب يشعلُ في قلبهِ وهج الفراق وسرعان ما يقول في نفسهِ بعد أن يرى الغيوم مسرعة تولي الأدبار من الأفق قائلاً :
- إنَّ سوح القتال هو المكان اللائق بالشجعان ,فهذاطريقي وطريق آبائي وأجدادي .
وبعد عودتهِ لأصدقائه أبلغَهُم الضابط يقول :
- غداً نتقدم نحو السجارية صباحاً .
في اليوم التالي كانتْ الشمس اللاهبة تحرق الجنود دون رحمة وراح السهب الواسع الكبير يموج بتراب مغبر ومن الجانب كانتْ المعالم تلوح صغيرة زرقاء باهتة ومضتْ السيارات تسير بطيئاً بعد أن تقدمتها الهندسة الآلية للفرقة لإبعاد خطر الألغام والعبوات الأرضية من أمامها وكانتْ وجوه الجنود تنضحُ عرقاً بعد أن تحولتْ وأصبحتْ بنية اللون وباتتْ الآلات الحديدية للجنود يصعبُ لمسها بفعل الشمس الحارقة التي رافقها هواءاً حاراً خانقاً يضرب حبات الرمل قبل أن يلفح وجوه الجنود بقسوة ..
بعد ساعات تقدمَ الجنود كثيراً وفي عصر اليوم عبروا نهراً من خلال قنطرة صغيرة ومضوا يتغلغلون في أرضٍ زراعية خضراء مملوؤة بأشجار الرمان والنخيل التي تشتهرُ بها المدينة ومضتْ الريح تُلاعب الأوراق ,فترسل للجنود الحذرين حفيفاً هامساً مليئاً بالأنغام وفي مكان قصي أمضى الجنود الليلة في هذا المكان بعد أن كانوا يتبادلون الواجبات الملقاة عليهم ...
جلسَ سلمان يُمسد يديه المتدليتين وقد التمعتْ عيناه الصارمتان واستلقى على جذع شجرة نخيل مقطوع من المنتصف وأخذَ محمود يبحثُ في حقيبته عن منشفته الزرقاء التي اختفتْ فجأة وأخذَ أحد الجنود يشحذُ سكيناً من أطرافها لتُساعده على العمل وبينما هُم كذلك كان الضابط علي كاطع يقف خلفهُم وهو يستطلع المنطقة وهو يقول :
- استطيع أن أؤكدَ لكم الآن أننا مع فصائل الحشد التي تشكلتْ سنقضي على الدواعش نهائياً ,فالوضع الذي حصل سابقاً قد اجتزناه ..
فقاطعهُ سلمان وكأنهُ قد استيقظَ لتوه وجعلَ يحكُ جبينه الناتئ محاولاً استيعاب السؤال :
- قلتَ الوضع ولكن ماذا تعني بالوضع ؟
فقال الضابط وقد أرسلَ ابتسامة طفولية عريضة :
- الوضع يعني اجتماع ظروف معينة تأتي أحداث معينة على إثرها .. خُذ مثلاً ما حصلَ في هذهِ الحرب, فقواتنا العراقية المسلحة منظمة كثيراً والخبرات التي لدينا قد أعجزتْ العدو فبينما نقضي أياماً وشهوراً في الخنادق نراهُم بعدها يتقدمون الآف الأمتار وفق إرشادات الطيّارين المحلقين فوق الأرض وقد استعدنا الكثير من أراضينا ولا زلنا نمتلئ بالتغذية والإرادة, فأنا أسألك من أين جاء كل هذا, وقبلَ أن تُجيب أنا أجيبكُ لقد جاء من التنظيم الذي لدينا والروح التي نمتلكها ..
وقبل أن يُكمل كلامه قاطعهُ أحد الجنود بعد أخذ التحية قائلاً :
- سيدي هناكَ سيارة قادمة من القيادة وفيها أحد الجنود يطلب لقاءك ..
فارتدى الضابط قبعته وتركَ سلمان يديه وقدميه اللتان تؤلمانهُ وخرجا ..
وما هي إلا لحظات حتى تم إطلاق صفّارات التجمع وبدأ الضابط يتكلم باهتمام وإثارة :
- لقد قررتْ قيادة الجيش الآن شن هجوم واسع النطاق من ثلاثة محاور على الجبهات الغربية الجنوبية من السجارية بغية اقتحام العدو وتخريب مواصلاته وقطع امداداته وبهذا علينا إشاعة البلبلة في قواته بهجمات مباغتة على مؤخرته وتعلق قياداتنا العسكرية آمالاً كبيرة على هذهِ الخطة وأنقل لكم أخباراً مفرحة, فقد أبلغتني القيادة أنَّ عملياتها بالتعاون مع فصائل الحشد الشعبي ورجال العشائر تزفُّ إليكم تحرير قواطع الصقلاوية والكرمة والإنتصار الكبير على العدو الداعشي في بيجي ودحره منها وتم إرجاع هذهِ المدن لأهلها بفضل سواعد إخوانكُم وتنتظرُ منكم ان تزفوا إليها نبأ تحرير السجارية للإنطلاق منها إلى الرمادي ..
وبعد الإنتهاء من تبليغ الأمر تم تقسيم واجبات الكتائب العسكرية والأهداف التي عليها تحقيقها ومنها كتيبة محمود وفي صباح اليوم التالي انتشرَ الجنود على مساحات واسعة تأهباً للهجوم وبعدَ لحظات أمرَ الضابط قسماً من رجال المشاة بشن هجوماً مصطنعاً على بعد خمس كيلومترات من أطراف الجهة الشمالية وبعدها أرسلَ قسماً من رجال المشاة لهجوم مباغت من الأطراف الغربية الأخرى بغية اجتذاب نيران العدو ..
صدرتْ الأوامر العسكرية للبدء بالهجوم, فزحفتْ الكتائب العسكرية ومنها كتيبة محمود وسلمان إلى الأمام بحذر وقد كانَ مشهداً مُرعباً فقد أصدرَ آلاف الأطنان من الحديد المصفح دوّياً هادراً وهي تنقضُّ على المدينة من محاور عديدة تاركة خلفها أرضاً منسوجة بنسيج الحرب المشتبكة وبعد مسافة ليست بالقصيرة لم يظهر أي أثر للعدو الداعشي وكان بوسع محمود أن يرى من خلف السيارات المصفحة خنادق العدو المهجورة وبدا أنَّ الأفق كان يُحيي الجنود القادمين برقصات أشجار الرمان والليمون مع الريح الدافئة وبدا أنَّ العدو لاذَ بالفرار بعد علمهِ بالهجوم.
وبعد عدة كيلومترات لم تُشاهد كتيبة محمود أي أثر للعدو الداعشي فواصلتْ السرية تقدمها ببذل أقصى ما لديها من طاقة ولكن الحذر كان سيَّدا للجميع ..
وبعد لحظات سمعَ الجنود الآمر وهو يحذرهم بوجود الدواعش في مجموعة من الأوكار مع أوامر باستهدافها وتفاجئوا بالنار وهي نحوهم فدخلوا في غمرة قتال عنيف لا نهاية له مما جعلَ الآمر يستحثهم للتقدم إلى الأمام " هيَّا تقدموا استمروا يا أبطال لا تنبطحوا إلى الأمام من أجل الــعــــراق" وعند ذاك بدأتْ رشاشات الجنود العراقيين عملها بقوة, فأمطرتْ الأهداف المحددة بوابلٍ من الرصاص ورشقتْ البنادق النار في أوكارهم ولمحَ محمود ثلاثة قناصين في الأعلى سبقهُ نداءاً مجلجلاً من الآمر بمعالجة الأهداف, فانطلقتْ رشقات الأسلحة الموضوعة على السيارات المصفحة نحو الأهداف وأخمدتها في مكانها, فتمزق شمل الدواعش ودخلَ الرعب في قلوبهم
وانتهى ذلك الهجوم الواسع إلى انتصار عراقي ساحق وبعد ثلاث ساعات كانتْ السجارية تتنهدُ مطمئنة بأحضان رجال الجيش العراقي وفقدتْ بعض الكتائب عدداً من الجنود في محاور متعددة وجُرحَ البعض الآخر ووقعَ في جيش العدو الداعشي اعداداً كبيرة من القتلى وكانوا جمعاً من جنسيات عالمية مختلفة وهكذا انتهتْ تلكَ المعركة الكبيرة ..
التقطَ المراسل الحربي صوراً عديدة للمعركة وهي تؤرخ أياماً عراقية سومرية وراحَ الآمر في ذلك الوقت يُدبج رسالة إنتصار وصلتْ بعد دقائق للقيادة العسكرية التي باركتْ الإنتصار الكبير وأثنتْ على الجميع ومنحتْ أوسمة الشجاعة لعدة أبطال بينهم الآمر الذي كان يراقب كل صغيرة وكبيرة في المعركة ..
كان محمود بعد أيام يُردد كلماتهِ التي أصبحَ يُرددها كل أصدقائه الجنود :
عالياً في السماء تُقرع طبول المجد
وعبرَ دجلة والفرات يتنقل العراقيون في أراضيهم الشاسعة
قد ألحقوا الهزيمة بجنود الشر
وما زالوا يُحررون كل الأراضي من سطوتهم .
كانتْ الشمس اللاهبة تعبر القرية من خلال السماء الزرقاء التي تناثرتْ فيها بعض الغيوم البيضاء الصغيرة التي كان يسوقها النسيم ببطء نحو الغرب وكانتْ الحرارة في القرية خانقة مميتة وخاصة قرب السقوف الحديدية والشوارع الفارغة والأرض المفتوحة ذات العشب الأصفر اليابس ومضتْ الحياة في القرية تعاني انحساراً بطيئاً ,فقد كانت الأيام مضنية وكئيبة وهي تمضي في أشياء صغيرة عمل ما أو فرح ما وكان القلق يُراود الجميع على أولئك الذين يذهبون للحرب وقد كانتْ تصل منهم رسائل تكتفي بالقول : إننا بخير وسوف نأتي عمَّا قريب .
كان محمود يرسل مع رسائلهِ المكتوبة إلى أهلهِ رواتبه ومكافآته وأوسمتهِ التي حصلَ عليها في الحرب, فقد كتبَ أحد الأيام بأنهُ تمَّ ترقيته لرئيس عرفاء وكتبَ لهم بأنهُ يتمنى أن يصبحَ ضابطاً عمَّا قريب وكان يعد الجميع بالعودة إلى البيت ومعاونتهم في الحصاد خلال فترة إجازته ولكنهُ لم يعُد .
كانتْ الليالي القصار تتلاشى على عجل وقلوب آل صالح طافحة باللهفة وحلاوة اللقاء على محمود الذي وعدهم أكثر من مرة بالمجيء, واشتاقَ آل صالح إلى الأساطير كأهل القرية الآخرين فأصبحوا ينظرون إلى محمود كبطل اسطوري, فقد كان ثمةَ خيط غير مرئي يشدهُم إلى هؤلاء الرجال الذين تنفسوا دخان البارود وأعمتهُم الأحداث من حولهم ..
كانتْ آلاء تنظر في الأفق إلى السهوب الخضراء الواسعة التي يسقيها نهر الغراف ويترامى على أطرافهِ العشب والحشائش وقد كانتْ الشمس لا ترحم من خلال خيوطها الذهبية والرياح لاهبة تلفحُ في الليل والنهار, فكانتْ الشفاه السمراء تتذوق طعم الريح والشمس وتنوء سارحة في الوديان وفي التلال المنخفضة, فتخرجُ مع الأمهات كل خميس لتحرس مجد العراق الدفين على شطآن نهر الغراف وهُنَّ يركعنَ بخشوع ليحفظ الأبناء والأزواج ويلثمنَ التراب المقدس الذي غسلتهُ الدماء التي لا تجف مدى الدهر ...