النظرية
لقد طرحنا "نظريَّة المشترك الإنساني" طرحًا نظريًّا، وهذا ما استطعنا أن نفعله في حدود ما نملك من طاقات وإمكانيَّات، إلَّا إنَّ خروجها إلى حيِّز التطبيق يحتاج إلى تفعيلٍ بوضع ورش عملٍ ولجانٍ ومناهج تربويَّة سيُنفق عليها الوقت والجهد، وإذا كنَّا وضعنا هذا الإطار النظري في بعض سنة من الزمن، فإنَّ ثمرتها العمليَّة تحتاج إلى مجهودٍ متواصلٍ على مدار سنين، سيكون -لا شَكَّ- مجهودًا كبيرًا، إلَّا إنَّها ستعود بالنفع الأقوى على العالم في السنوات المقبلة.
أعلمُ أنَّ المشاكل والأزمات -التي حدثت على مدار قرنٍ أو اثنين- لا يُمكن أن تُحَلَّ في لحظات، ولكن يجب علينا أن نَتَبَيَّن الطريق، ونعرف الوجهة والهدف، ثُمَّ نرسم بعد ذلك ملامح الحركة، وخطَّة العمل لتحقيق الأهداف المنشودة.
فهذا نداءٌ إلى عقلاء العالم، آمُل أن يأخذ طريقه إلى عقولهم وقلوبهم، على اختلاف أماكنهم وقناعاتهم ورُؤاهم وتخصُّصَاتهم، إنَّني أدعوهم جميعًا للإدلاء بدلوهم في هذا المجال؛ فإنَّه يحتاج إسهام المفكرين المخلصين من شتَّى أجناس الأرض.
آليات التطبيق
وآخر ما نرى أنَّه من واجبات العقلاء في هذا العالم، هو وضع آليَّاتٍ لتفعيل ما ذكرناه من مشتركات عامَّة وخاصَّة، وهذا أمرٌ متروكٌ للمتخصِّصين كلٌّ في فرعه، فعلى المتخصِّص يقع عبء تحويل الأفكار السابحة في الفضاء النظري إلى مشاريع عمليَّة، فتتنزل الأفكار من عالم الخيال إلى عالم الواقع، وتصير خطَّة ذات أهداف ومراحل وآليَّات وإجراءات، ولها مستهدفات وخطوات وأساليب تقييم، وهذه أمور لا يُحسنها إلَّا أهلها.
ولذلك فإنَّنا ندعو المتخصِّصِين لوضع هذه الآليَّات التي تُفَعِّل نظريَّة المشترك الإنساني، وتنزل بها إلى أرض الواقع الحيِّ، فهي دعوةٌ إلى علماء النفس والاجتماع والتربية، وسائر فروع العلوم الإنسانيَّة إلى أن يضعوا بصمتهم في هذا المشروع، فهم الأقدر على فهم وتحليل الطبيعة الإنسانيَّة، ومفردات السلوك الإنساني؛ ومن ثَمَّ فهم الأصلح في التعامل معه من خلال ما يضعونه من برامج تستفيد من هذه الطبيعة، ثم تُوَجِّهُها نحو نشر فكرة تَقَبُّل الإنسان الشريك مهما كان موقعه من الاختلاف مع الذات.
كما هي دعوة للإعلاميين -وهم أصحاب نصيب الأسد من حيث التأثير في وقتنا الحالي- إلى فتح هذا الملف الكبير، ملف المشترك الإنساني بين الشعوب، وأن تُنَاقَش الأزمات المثارة على قاعدةٍ من رُوح التقريب، وبوحيٍ من إرادة التعايش بين الناس؛ الإعلاميُّون القريبون من مواطن الصراع يستطيعون أن يكونوا عاملًا فعَّالًا في تحليل أسباب النزاعات والصراعات، وإبصار مواطن الاختلافات، التي أدَّى تطوُّرها إلى اشتعال الأزمة بدل أن تكون بابًا يُفضي إلى التعاون والتكامل على قاعدةٍ من المصلحة المشتركة؛ إنَّ رسالة التعايش حين يحملها الإعلامي تستطيع أن تُقَدِّم معالجةً جديدةً للمادة الإخباريَّة الخام نفسها، فتُحَوِّل مسار التقارير المكتوبة والمسموعة والمرئيَّة إلى جهة تنمية الوفاق بدلًا من زرع الشقاق، كما أنَّ رسالة الإعلامي حين يُدَافع عن الحقيقة وعن المظلومين تُمثِّل واحدًا من أفعل الأسلحة الناعمة في مواجهة الظالم المعتدي، وفي ردِّه عن هذا الظلم، وإنَّنا دائمًا ما نجد العلاقة متوترة بين الإعلام الحرِّ النزيه المدافِع عن الحقيقة وبين المعتدي، الذي لا يحفل إلَّا بمصلحته الذاتيَّة فيُمارس الاعتداء على الشعوب، وإنَّ تضحيَّات الإعلاميِّين الأحرار هي جزءٌ من المعركة التي يخوضها الأحرار في سبيل تثبيت رسالة التعايش بسلامٍ بين الشعوب[1].
وقبل كلِّ هؤلاء وبعدهم، لا بُدَّ من مخاطبة الزعامات الدينيَّة في كلِّ الشعوب؛ فإنَّ سلطان الدين على النفوس في ازدياد بعد الحقبة الشيوعيَّة والماديَّة، وتكاد كلُّ الجهود تذهب هباءً إذا لم يكن رجال الدين على قدر المسئوليَّة الإنسانيَّة والأخلاقيَّة، وإذا لم يستشعروا واجبهم الكبير في إقرار السلام والتفاهم والتعايش بين الأديان، يجب أن نتذكَّر أن متطرِّفًا مثل البابا أوربان الثاني استطاع أن يُشعل حربًا دينيَّة استمرَّت أكثر من مائتي عام، وما زالت آثارها تتبدَّى في كثيرٍ من المظاهر حتى اليوم، وذلك بعد مرور ألف عامٍ على اشتعالها الأوَّل.
وهنا يجب أن نضرب مثالين: الأوَّل هو البابا بنديكت السادس عشر الذي يبدو في كثيرٍ من الأحيان وكأنَّه يحمل رسالةً للعداء مع الأديان، وهو يختار لتصريحاته مناسبات جماهيريَّة لا مؤتمرات أكاديميَّة مغلقة؛ ممَّا يُعِيدُ إلى الذاكرة ما فعله أوربان الثاني في خطبته الشهيرة، فهو خلال محاضرةٍ يذكر نصًّا يقول: "أرني ما الجديد الذي جاء به محمَّد؟ لن تجد إلَّا أشياء شريرة وغير إنسانيَّة"[2]. فينشأ عن هذا غضبٌ واسعٌ في العالم الإسلامي، كان من آثاره أن يُوقف الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين مؤتمرات حوار الأديان مع الفاتيكان، وهذا ما جعله مضطرًّا إلى ما يُشبه الاعتذار قائلًا: "أشعر بأسفٍ بالغ عن ردود الفعل في بعض الدول تجاه فقرات محدودة وردت في خطابي بجامعة رجينسبرج، التي اعتبرت مهينة لمشاعر المسلمين، كانت تلك في واقع الأمر اقتباسات من نصٍّ من العصور الوسطى، التي لا تُعَبِّر بأيِّ حالٍ عن رأيي الشخصي"[3]. لكن بعد شهور أخرى أصدر الفاتيكان وثيقةً تقول عن الطوائف المسيحيَّة الأخرى بأنَّها "ليست كنائس حقيقة بالمعنى الكامل للكلمة"[4]؛ وهذا ما سبب غضبًا واسعًا لدى أتباع الكنائس الأخرى.
وعلى الجانب الآخر نرى القس هانس كونج (Hans Kueng)، الذي عُيِّن مستشارًا لمجلس الفاتيكان بقرار من البابا يُوحنَّا الثالث والعشرين، وهو -للطرافة صديق قديم للبابا بنديكت السادس عشر- يبذل كلَّ جهده في مشروعٍ أخلاقيٍّ يُسمِّيه "الأخلاق العالميَّة"؛ حيث يُؤَكِّد على أنَّه من الممكن، بل ومن الواجب الوصول إلى دستورٍ أخلاقيٍّ بين البشر، وهو -بعد دراسات واسعة في الأديان- يُؤَكِّد على أنَّ جميع الأديان السماويَّة والوضعيَّة تحوي تراثًا أخلاقيًّا ممتازًا، يُمكن أن يكون قاعدةً للتوافق والالتقاء، وقد خطا في هذا المشروع خطوات واسعة؛ فأسَّس مؤسَّسة الأخلاق العالميَّة (Global Ethic Foundation)، إلى جانب العديد من الفعاليَّات الأخرى، وتُعَدُّ مُؤَلَّفاته شرحًا على شعاره الأثير: "لن يكون هناك سلامٌ بين الأمم دون سلامٍ بين الأديان، ولن يكون هناك سلامٌ بين الأديان دون حوارٍ بين الأديان"[5].
إنَّ رجال الدين حجر أساسٍ في تجنيب الإنسانيَّة حروبًا دينيَّة، وفي إقرار السلام والتعايش بين الأديان؛ ومن ثَمَّ فَهُمْ في الصف الأوَّل من الفئات المتخصِّصَة المنوط بها تحويل المشترك الإنساني إلى آليَّات وفعاليَّات عمليَّة من خلال خطبهم، ورسائلهم، ومواعظهم المتكرِّرَة، وإنَّهم لوسيلة إعلامٍ يسعى إليها الناس ولا يَمَلُّون من الاستماع إليها، والتحرُّك في حياتهم بوحيٍ من نصائحهم وتعاليمهم.
***
إنَّ ما ذُكر في كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب ليس إلَّا اجتهادًا بشريًّا؛ وحيث كان الأمر هكذا فلا بُدَّ أنَّ النقص يتناوله، وهي قاعدةٌ يلمسها كلُّ كاتبٍ في حياته العلميَّة، وهذا ما سجَّله القول المـُوَفَّق للعماد الأصبهاني: "إنِّي رأيت أنَّه لا يكتب إنسانٌ كتابًا في يومه إلَّا قال في غَدِه: لو غُيِّرَ هذا لكان أحسن، ولو زِيد كذا لكان يُستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل.. وهذا من أعظم العبر، وهو دليلٌ على استيلاء النقص على جملة البشر"[6].
ولقد ظلَّتْ هذه النظريَّة تتعرَّض للنموِّ والتطوير والأخذ والعطاء حتى اللحظات الأخيرة من خروجها في هذه السطور، وكانت كلَّما تفكَّرنا فيها أمدَّتْنَا بمزيدٍ من الرؤى والأفكار والتفسيرات، ومن مجموع تفاعلات كلِّ هذه المستجدات كانت تخرج من النظريَّة أشياء وتدخل فيها أشياء أخرى؛ فلهذا وضعنا هنا غاية ما استطعناه من جهد موقنين أنَّ الوقت لو طال أكثر لكان ثمَّة تطوير أكثر وأكثر، فهذا ما نضعه الآن أمانة عند عقلاء هذا العالم؛ ليتدخَّلُوا بالنظر والنقد والتصحيح والتطوير والإكمال، وسدِّ ما يُمكن أن يكون من خلل، أو إكمال ما لم يصل إلى نهايته، أو إصلاح ما يكون من خطأ.
العنصر الأهم في هذه العمليَّة أن تُجْرَى ويكون الهدف القائم أمام العين هو إيجاد القاعدة العامَّة ثُمَّ القواعد الخاصَّة، التي يُمكن أن تقف عليها الشعوب؛ فتلتقي وتتقارب وتتعاون بما يفتح أفقًا جديدًا أمام عالَمٍ أفضل.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] نستطيع من خلال متابعة التقرير السنوي لمنظمة "مراسلون بلا حدود"، والذي يرصد أوضاع الصحافة في الدول المختلفة أن نرصد حالة الأنظمة -صعودًا أو هبوطًا- بشأن الصحافة؛ مما نستنتج منه حالة هذه الأنظمة في التعدِّي على المشتركات الإنسانية أو رعايتها؛ إذ تميل الدول المعتدية إلى حجب وإخفاء الحقائق عن أنظار العالم، وكتم أيِّ صوتٍ يُمكن أن يفضح انتهاكاتها. انظر: التقرير السنوي من موقع (مراسلون بلا حدود) .
[2] من نص المحاضرة التي ألقاها في جامعة ريجينسبرج بولاية بافاريا الألمانية، الثلاثاء 12/9/2006م، تحت عنوان: "الإيمان والعقل والجامعة ذكريات وانعكاسات".
[3] من نص خطاب له في مقره الصيفي في "كاسيلجندولفو" بإيطاليا، الأحد 17/9/2006م.
[4] بتاريخ 10/7/2007م.
[5] انظر: هانس كونج: الإسلام رمز الأمل، وهو نص محاضرة عن مشروع "الأخلاق العالمية" الذي يتبناه، ألقاها هانس كونج في 31 مارس 2005م في افتتاح ملتقى أديان العالم بجامعة سانتا كلارا، وأضيف إليها فصل "الإسلام رمز الأمل" من كتابه "الإسلام: الماضي والحاضر والمستقبل".
[6] القنوجي: أبجد العلوم 1/70.