جلستي السرية.. في المقاومة
ثم أنني كنت وما أزال، أمارس عنادي الشديد، الذي يشبه عناد طفل، مع كل شيء مولم يمر بي. من خلال الثقافة ومتابعة السينما وكتابة الشعر والمقالات والخواطر، والتأمل في اللوحات السريالية ومحاولة فهمها.
يبدو انني طورت عنادي كوسيلة دفاع نفسية ( ميكانيزم دفاعي)، في سن مبكرة، كردّ على الاحداث المؤلمة منذ الطفولة.
يؤكد استاذ الطب النفسي فيكتور فرانكل، ان النفس البشرية اذا واجهت ظروفا نفسية قاهرة تفوق طاقتها في التحمل، فإنها تتخذ مجموعة اجراءات دفاعية.
اولى ذكرياتي عن مقاومتي للعنف الذي قاسيته في الحياة، كانت في الصف الخامس الابتدائي، حصلت في احد الايام على مبلغ 250 دينارا، وكان هذا في حدود عام 1997، وكان المبلغ هدية من عمتي (ملكة علي حسن علي الجداح البريچي)، التي ستذهب فيما بعد، بعد 21 عاما، الى اهل البنت التي احببتها، وتحذرهم من تزويجي منها، لأنني مدمن على المخدرات، وهي تهمة فبركها لي جلادي واشاعها بغضا بي، ورسخها في اذهان الجيران والاقارب بالتكرار.
كنت حينها اسكن منطقة الكمالية، ذهبت الى مكتبة التساهل الواقعة على الطريق بين المنزل والمدرسة، فاشتريت عددين من مجلة رسوم كارتونية للاطفال، كانت احدى المجلتين ملونة، فيما كانت المجلة الثانية غير ملونة، وكانت الفكرة هي ان يملأ الطفل الرسوم بالالوان.
في العام التالي، انتقل سكني الى منطقة شهداء العبيدي، ودرست السادس الابتدائي في مدرسة عمر بن عبد العزيز الابتدائية، وهنا مارست عملا جماليا اخر، هو الثاني في حياتي، حيث نظمت قصيدة في حب العراق، كمشاركة غير صفية طلبتها منا معلمة العربي ست احلام، التي كانت معجبة بي وبتفوقي، كنت قدوة الصف حينها.
تنوعت الانشطة الجمالية التي مارستها في ما بعد، فشملت مطالعة الكتب وحفظ الشعر، وتعلم الخط العربي لدى الخطاط كريم الرحال، وتسجيل قصائدي على اشرطة صوتية (كاسيتات)، وكتابة رسائل الحب لشباب منطقتي المعوقين، بخط جميل وعبارات منمقة، كنت اعرضها على صديقي العاشق قبل كتابتها. ثم هواية متابعة الافلام والمسلسلات والانمي ومهرجانات اوسكار وبرلين والسعفة الذهبية وقراءة النقد السينمائي والمراجعات للنصوص والادوار والحوارات.
واستمررت في مقاومة القبح بالجمال وعشقه حتى اليوم، حتى الهوايات التي لم استطع ممارستها في السابق بسبب احتياجها الى المال، حققتها لنفسي بمجرد حصولي على المال اللازم لممارسة هوايتي.
في 11- 11 – 2012 ابتعت عودا، وبدأت في التمرن حتى حزيران من عام 2014، اتقنت بعض الجمل الموسيقية البسيطة، وتركته بعد عامين انشغالا بالدارسة الجامعية المسائية.
خلال هاتين السنتين، من نهاية عام 2012 حتى نهاية عام 2014، قرأت 9 اعداد من مجلة الحياة الموسيقية السورية، قرأت اربعة كتب عن الجمال الموسيقي اصدرتها مجلة عالم المعرفة الكويتية، قرأت عن العصور الموسيقية في اوروبا، عن تاريخ الاوركسترا والعزف الاوبرالي، شاهدت افلاما عن موزارت وباخ، استمعت لعشرات السيمفونيات من عصر الباروك، لباخ وهاندل وفيفالدي، ثم العصر الكلاسيكي وفخامة بتهوفين، وشاعرية موزارت، ثم انتهاء بالعصر الحديث، حيث غلب قالب الكونشيرتو على التأليف الموسيقي الاوروبي، وظهر العزف المنفرد بديلا عن العزف الجماعي، بريان كراين، وايرنستو كوارتازار، وريتشارد كلايدرمان.
قبل المرحلة الموسيقية في حياتي، كان ولعي بالشعر والادب واللغة، حفظت في عام 2011 ألفي بيت من شعر الشريف الرضي، و110 صفحات من ديوان المتنبي.
كنت اكتب الشعر في كل مكان ولأجل اي شيء، كنت اكتب على أغلفة علب السكائر الفارغة، كان الشعر وسيلتي لمقاومة السادية التي واجهتها في بيت جلاد ــــــ النسخة فائقة الشبه بصدام، في الشوارب الغليظة، والتمسك بالقيم العربية، وصناعة الرأي العام ضد الهدف.
كان صديقي علاء يوسف الحچامي، من اشد المعجبين بقدرتي الشعرية، كان يطلب مني في احيان كثيرة نظم ابيات صعبة الالفاظ، او ابيات تتكرر فيها الكلمة في بداية الصدر ونهاية العجز، كنوع من الحذلقة اللغوية.
علاء هذا، هو الذي اقترح عليّ تأليف بحث في الفكر الديني وتقديمه لمدرسة الاسلامية في اعدادية بشار بن برد، للتقرب منها، واستعرت ثمانية كتب من مكتبة مؤسسة الجواد في منطقة رئاسة الكمالية، وكتبت البحث في ما يقرب من خمسين صفحة، وكان بحثا في فلسفة العقائد الاسلامية، وقد نال استحسانها واعجابها، واكدت لي انه يشبه ابحاث التخرج لطلبة المرحلة الرابعة في الكليات. رغم أنني كنت حينها في السادس الاعدادي، أي أنني كتبت بحثا يحتاج مستواه الى اربع سنوات من الدراسة الجامعية وأنا لما أزل طالبا في الاعدادية.
حضرت الثقافة وشؤونها حتى في عاطفتي، وكانت هي حديثي الدائم مع اصدقائي، وأقربهم الى نفسي طيب الذكر سيد جعفر الحسني، ورغم أننا كنا نتحدث ايضا في شؤوننا الخاصة، لكن شغفنا كان في الحديث عن الدين والثقافة والشعر والنقد ومدارسه.
في أول تعرفي على صديقي جعفر، كنا نحن الاثنين هائمين بقصيدة انا وليلى، نقضي جميع فرص الدوام المدرسي، منفردين، بالحديث عن القصيدة وكاتبها، ومعارضيها، (معارضة الشعر هي كتابة قصيدة في نفس موضوع القصيدة الاولى ونفس قافيتها، بمعان اخرى وافكار مختلفة).
أخبرته بأن ابن عم حسن المرواني، وهو راسم المرواني، عارض (انا وليلى) بقصيدة تائية، فسألني إن كنت املك نسخة منها فأخبرته بنعم، ووعدته أنني سأجلب له النسخة في صباح اليوم التالي.
في الحقيقة لم أكن املك نسخة، لكنني أحببت اختبار قدرة صديقي الشعرية، فكتبت قصيدة تائية تعارض قصيدة المرواني، وفي الصباح قرأتها لصديقي في المدرسة، وما أن اكملت القراءة، وكانت في 27 بيتا، قال بشكل مباشر ومن دون تردد وهو مطرق برأسه الى الأرض : "هاي مو قصيدة راسم، هاي قصيدتك".
في الصف، في السادس الاعدادي، كانت استاذتي في اللغة العربية، الست الفاضلة (ست انعام)، ذكرها الله بكل خير ان حية، ورحمها الله ان رحلت، تطلب منا اثناء الدرس شواهد، كنت انظم الشاهد في ثانيتين او ثلاث، وارفع يدي وأقرأ لها بيت الشعر، فتسألني عن قائله، فأخترع لها اسماً، العباس بن الاحنف، الشريف الرضي، ابن الرومي، وهكذا، حتى وشى بي اصدقائي في الصف لديها، وأخبروها بالحقيقة، لم تواجهني هي بالحقيقة التي عرفتها، لكنها ظلت فيما بعد تبتسم لي كلما قرأت لها شاهدا.
كان حفظ الشعر المدرسي الواجب، اسهل الاشياء لدي، عندما حلت في حياتي الدراسية فترة الاهمال والتسكع في السادس الاعدادي، كنت احضر الدرس على غير علم بالواجب، ولم أكن أملك الوقت لاستراق النظر الى كتاب الادب وحفظ القصيدة، فكنت احفظها من خلال قراءة من يسبقوني من الطلبة في القراءة. أي انني كنت احفظ الشعر على الاذن وبالسماع.
كل هذا سيظل عاديا ما لم اذكر نوعية الظروف التي كنا نعيشها، لم تكن ظروفنا تساعد على الاهتمام بكل هذه الاشياء الجميلة، كنت أقرأ المجموعات الشعرية لنزار قباني وكتب البلاغة العربية وأنا أتعرض للعنف الاسري بشكل يومي، بين تعذيب جسدي بالكيبلات بسبب اقترافي جريمة شراء كرة قدم من اموالي الخاصة واجور عملي، وبين اهانات لفظية، وبين جوع وحرمان من ابسط الاشياء.
لا أتذكر أنني استمتعت بهواء المبردة الا في بيت جدي (احسوني السلمان الخماس البسروگي القريشي)، ففي بيت جلادي الذي اعيش فيه، والحقيقة انه لم يكن ابدا بيته، وإنما كانت دائما بيوتا مستأجرة، سيئة البناء، لا توجد مبردة، وإن وجدت فهو يضعها في غرفته، وجلوسي في غرفته كان يمثل لي تحديا كبيرا لم أكن أفكر أبدا في خوضه.
كل البيوت التي استأجرها جلادي وأسكننا فيها، كانت خرائب من طين، او خرائب من طابوق حديث، لكن تشبه خرائب الطين ايضا، ولم تكن ابدا مناسبة لممارسة المطالعة والكتابة.
من ابشع الاماكن التي سكنت فيها هي خربة الطين في منطقة المعوقين الواقعة خلف الكمالية، فهذه الخربة كنا قد بتنا فيها في عام 1999 ليلة واحدة، هاربين من ملاحقة امنية على خلفية مقتل عمنا، كنا في هذا العام نسكن في منطقة الشهداء، شهداء العبيدي، لكننها هربنا من ملاحقة عناصر الامن إلى بيت عمتي في قرية المعوقين، بيت عمتي هم الذين اقترحوا على جلادي، ان نبيت في هذه الخربة، تخوفا من مداهمة عناصر الامن.
في هذه الخربة، المكونة من قطعة ارض توجد في بدايتها (محصار) والمحصار في اللهجة الدارجة هو مكان معيشة المواشي، كانت مقدمة القطعة مشغولة بأبقار، وفي نهاية الارض خربة طين، تقطنها عائلة صغيرة، لا اتذكر من افرادها سوى العجوز التي قدمت لنا في الصباح حليب البقر الطازج الساخن، وكان الوقت مشتيا.
كانت هذه الخربة تنتمي بكل تفاصيلها إلى حياة رعاة البقر والاغنام، وعندما استأجرناها، بمبلغ 10 آلاف دينار شهريا، كانت الارض تغرق بمياه المجاري التي تنضح علينا من الشارع والبيوت المجاورة، كنت اضطر الى تفريغ المياه بالدلاء في الصباح قبل الذهاب الى متوسطة النابغة.
المعاناة الاخرى كانت في طرد الكلاب السائبة التي كانت تفاجئنا في الليل، عندما تعبر السياج الخارجي وتنام داخل قطعة الارض، والمعاناة الثالثة هي في الظهور المفاجئ للعقارب والافاعي، احد العقارب ظهر أمام التلفاز، وعقرب اخر أجريتُ عليه تجربة احاطته بالنار للتأكد من معلومة ان العقرب ينتحر بلسع نفسه اذا حوصر بالنار، واحدى الافاعي حاصرتها في نهاية القطعة وأصبتها بحجارة وماتت وأجريت عليها عملية تشريح عن بعد.
مرور الشتاء عليك وانت في مثل هكذا مسكن، هو في الحقيقة معاناة لن تتمناها، كانت قطع الطين تتهاوى على رأسي من السقف الطيني وأنا نائم، وفي احدى المرات، وكنت أنام على أريكة وضعتها في كوخ نستعمله كمطبخ، هطلت الامطار بغزارة، وارتفعت المياه بما يقرب من 20 سنتيمترا، كنت أضع كتبي الدراسية في علبة كارتون كبيرة، غرقت الكتب، انتشلتها ووضعتها على الاريكة، وحاولت العودة الى النوم، فسقطت على رأسي قطعة من الطين المنقوع بمياه المطر من السقف الطيني، فأدرت رأسي الى الجانب الاخر من الاريكة، فتكرر الامر، واضطررت ليلتها الى النوم في الخربة نفسها التي ينام فيها جلادي.
استمرت معاناتي في السكن عندما انتقلنا الى معسكر طيران الجيش خلف المشتل (مجمع فدك السكني)، كان المعسكر عبارة عن ارض واسعة، بعضها مبلط بطبقة من الاسفلت يبلغ عمقها ما يقرب من 30 سنتيمترا، وبعض المساحات من المعسكر هي ارض عادية غير مبلطة.
من سوء حظي ونصيبي، ان جلادي لم يختر من هذه الارض الواسعة الا مساحة مبلطة، كان هذا الاسفلت يعمل في الصيف كسخان ارضي، تسانده السقوف الحديدية التي تتحول الى اوفن، والجدران المبنية من (البلوك)، ولمن لا يعرف طبيعة مواد البناء هذه، فإنها تسخن في الصيف إلى درجات لا يحتملها البشر، ولذلك احتملناها.
في السادس الاعدادي، في فترة الاربعين يوما المخصصة للمراجعة قبل امتحان البكالوريا، كنت اضطر الى مغادرة هذا المسكن الى بعض الهياكل في المعسكر، كانت مبنية على ارض من طين، ولم تكن مسقفة بالـ (چينكو). للدراسة فيها.
وعندما كنت اعود الى هذا المسكن الجميل، لم أكن ادخل الى الغرفة، او المطبخ، بل كنت اتخذ من المساحة الخلفية خلف المرافق الصحية مسكنا لي، بسبب سوء المعاملة.
كانت بالوعة المنزل امامي بمسافة متر، فكانت الروائح الكريهة تقتلني من الجهتين، ومع هذا، درست مواد السادس.
ولو عدت إلى الوراء بقليل، لما اختلف الحال، ففي عام 1998، عندما كنا نسكن في الطابق الثاني المستأجر من بيت في الشارع المقابل لمتوسطة النابغة، كنا نقضي حاجتنا في مرافق الطابق الاول، حتى حدثت في احد الايام مشاجرة بيننا وبين العائلة مالكة البيت التي تسكن في الطابق الارضي، فحرمتنا المشاجرة من نعمة التغوط والتبول في مرافق آدمي.
لم يحتر جلادي في الحل، قرر فورا التالي: كانت في الطابق الثاني مساحة في ركن السطح لا تتجاوز المتر ونصف المتر، مغطاة بالتراب، وكانت مكانا لتنور طيني قديم تم ازالته وبقيت الارض التي تحته، فوجهنا جلادي بقضاء حاجتنا في هذا المكان.
في الصباح، كنت اقشط الفضلات بشفرة تستعمل لتنظيف (طوس العمالة) من الجص، اقشط وأضع في علبة قصدير (تنكة دهن فارغة)، وأحملها إلى المزبلة في نهاية الشارع، واعود لأحمل كتبي المدرسية وأذهب لمدرسة عنتر بن شداد، كانت مرحلة الخامس الابتدائي.
أكثر من هذا، كان جلادي يكره رؤيتي وأنا أقرأ، كان هذا المشهد يؤلمه، وهذا ما انتبهت له بعد سنوات طويلة.
أتذكر أنني في احدى المرات، وكنت في الصف الثاني الابتدائي، جلست احفظ الحروف العربية كتابة وقراءة، كنا نجلس في مبنى استعمل سابقا كمخزن لوكيل المواد الغذائية للبطاقة التموينية، نصطلح على تسميته داخل العائلة بـ (الدكان)، وهو يقع في منطقة الكمالية في شارع المنظمة الحزبية على مبعدة فرعين من استدارة المتنزه.
كان الوقت مساء، والتيار الكهربائي مقطوعا، وكانت الاضاءة تتم بالمصباح النفطي (اللمبة او اللالة).
لم يكن الدكان مقسما الى غرف عديدة، وإنما كان هو كله غرفة واحدة طويلة، بطول ستة امتار، جلس جلادي ونصب ميز الشرب، وكان حفظ الحروف قراءة وكتابة هو واجبي المدرسي لليوم الدراسي التالي، فلم يكن لي بد من حفظها مهما كانت الظروف.
وأنا مستغرق بالمراجعة والدراسة، فاجأني جلادي وزجرني وأمرني بالنهوض ووضع الكتب في الحقيبة والذهاب الى فراش النوم، وقال لي : " گوم انعل ر ... ك، صايرلي الرازي، گوم ضم الكتب وروح نام".
وتكررت أمثال هذه الحادثة بعد ذلك اربع مرات، في المتوسطة والاعدادية، ثم تطورت إلى احراق مكتبتي التي وضعتها في مخزن البيت في عام 2009، وكنا في هذه السنة نسكن في منطقة المعسكر (مجمع فدك السكني خلف المشتل)، وكنت اتخذ من مخزن الاغراض في نهاية البيت غرفة لي، كان طول الغرفة ثلاثة امتار وعرضها متر واحد، بحيث لم أكن استطيع الدخول الى الغرفة ــــ المخزن اذا كانت الاريكة من الحجم الكبير.
أحرق جلادي مكتبتي التي انفقت على شراء كتبها كل الاموال التي توفرت لي طيلة عامي 2009 و 2010، كانت مكتبة عامرة تضم كتبا في العقائد والمنطق والفلسفة والشعر والادب واللغة والفقه والاصول والتفسير. وكتبا اجتماعية ومجموعات شعرية وديوان الجواهري. طبعا، كانت تمثل نوع اهتماماتي في تلك الفترة، ولا تعبر عن الوقت الحالي.
كنت أعود من العمل في مهنة البناء، استحم واتناول من الطعام ما تيسر، وافترش كتبي، وعندما تعرفت الى جاري في المعسكر، وهو محرر سابق في صحيفة البعد الرابع، اخبرني بأنه يمتلك في بيته مكتبة ضخمة تضم اعدادا كبيرة من المجلات الدورية، مجلة قضايا اسلامية، وقضايا اسلامية معاصرة، ومجلة المنهاج، ومجلة الثقلين، ودوريات أخرى عربية، واعرب لي عن استعداده لتزويدي بصحيفة المنتدى، وهي صحيفة ثقافية مجانية، بشكل اسبوعي.
انضمت المجلات والصحف الى قائمة مقروءاتي، من خلال المجلات تعرفت على احميدة النيفر وزكي ميلاد وعبد الجبار الرفاعي ورشيد الخيون ومحمد اقبال لاهوري ومحمد ارغون، ومحمد عابد الجابري، وبرهان غليون، وتعرفت على نقد الفكر الديني واشكاليات النص القرآني وأزمة الهوية الاسلامية وعقدة المقدس، وغيرها عشرات المواضيع التي كانت تجذب اهتمامي في حينها.
كان واقعي المعيشي وطبيعة ظروفي الاجتماعية في البيت تتقاطع بشكل كامل مع نوع الحياة الخاصة التي اعيشها، كانت حياتي الخاصة غارقة في القراءة والكتب ومساجلة الشعراء، وتبادل المجلدات ودواوين الشعر مع الاصدقاء.
لم أدرك إلا في السنوات الاخيرة، أن جميع انهماكي ذاك في الثقافة والمطالعة والهوايات، كان في الحقيقة نوعا من المقاومة لما أعيش من ظروف، كانت مهربا، وسيلة تعبير.
حتى عندما كنت اتعرض لعنف في البيت، كنت انظم قصيدة، بالفصحى تارة، وبالشعبي تارة أخرى، قصائد غاضبة، هجائية، ردا على العنف والعدوانية التي يعاملني بها جلادي وجلادتي (الاب والام). لكن طبعا لم أكن لأجرؤ على قراءتها امامهما.
في احدى المرات، من عام 2003، تعرضت لحالة عنف، فنظمت قصيدة باللهجة الدارجة، وتجرأت وقرأتها على مسامع جلادتي، كانت ابياتها تقطر عتبا على الاسرة الوحشية، على العدوان اليومي الذي اتعرض عليه، كانت قصيدة غاضبة، وطيلة قراءة القصيدة، لم أكن انتبه الى ملامح جلادتي بسبب انشغال عيني بالقراءة، لكن بمجرد ان اكملت قراءة البيت الاخير، رفعت رأسي الى وجه جلادتي لأتبين ما هو نوع رد الفعل والتأثير الذي تركته ابياتي عليها وهي تسمع قصيدة شاعر يشكو ويتألم ويعاتب بغضب، فوجدتها تبتسم ابتسامة صفراء، ولم تتكلم بشيء.
الان وانا اتذكر هذه الحادثة، اضحك على نفسي، واسخر منها، يا حسين، أي شعر تكتبه لهؤلاء، واي عتاب تعتبه عليهم ؟ وهل يفهم هؤلاء لغة الشعر، وهل ستفهم امرأة أمية لا تقرأ ولا تكتب عتابك وغضبك الشعري المرهف ؟ وهل ستحرك من انسانيتها شيئا، وهي التي فعلت معك ما فعلت ؟
عندما تشردت في منطقة الكاظمية في عام 2011، قادما من كركوك، التي تشردت فيها هي الاخرى، لكنني لم احصل فيها على عمل، ونفدت اموالي التي سبق ان جمعتها من عملي في السليمانية، فقررت ان أعود الى بغداد، الى الكاظمية، وأبيت في شوارعها وأتدبر معيشتي من مضيف الحضرة الكاظمية. وأبحث عن عمل في مسطر الكاظمية، كما فعلت في عام 2005.
كنت أعود من المسطر في الساعة الحادية عشرة او الثانية عشرة صفر اليدين من دون الحصول على فرصة عمل، فأدخل الى مكتبة العتبة وأقرأ.
في أحد الايام خرجت عصرا من المكتبة، وفكرت في البحث عن مؤسسات ثقافية قريبة، فأخبروني بوجود مؤسسة لا أذكر اسمها الان بالضبط، وبالفعل ذهبت في اليوم الثاني لأجدهم قد اقاموا فعالية ثقافية، فدخلت وجلست مع الحاضرين، وكان الحضور مفتوحا للجميع، واستلمت في النهاية عددا مجانيا من مجلة ثقافية تصدرها المؤسسة اسمها مجلة مقابسات.
مبيتي كان على ارصفة الشوارع المحيطة بالعتبة الكاظمية، نظرا لمنع المبيت داخل العتبة، كان الفراش هو قطعة من الكارتون، وكان عمال الناصرية ومحافظات الجنوب الاخرى يملأون المكان في الليل، كنت اضع المجلات تحت رأسي وأنام.
كل هذا التمسك بالثقافة والقراءة كان في الحقيقة وسيلة دفاعية اواجه بها قساوة العيش، وضراوة الفقر وعنف الاخرين.
من المفارقات التي لن أنساها، ان جلادي اخبرنا عندما قرر ان ينقلنا من السكن في الشهداء ، الى السكن في المعوقين، في عام 2000، اخبرنا بأن السكن الجديد يحتوي على ارض واسعة، واننا، نحن انا واخوتي، سنستفيد منها بلعب كرة القدم.
المفارقة انه بعد ثلاث سنوات من هذا التاريخ، نفذ بحقي حفلة التعذيب الوحشي التي ذكرتها في المرافعة، بسبب اقتنائي كرة قدم.
بغض النظر عن موقفي الحالي من الثقافة والكتب والمثقفين وصدمتي بهم، فإنها كانت صديقا وعونا لي في أشد لحظاتي حلكة.
#لن_أنسى