النتائج 1 إلى 2 من 2
الموضوع:

اللغة جسر بين الحضارات والشعوب

الزوار من محركات البحث: 13 المشاهدات : 397 الردود: 1
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #1
    من أهل الدار
    تاريخ التسجيل: July-2014
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 1,790 المواضيع: 1,770
    التقييم: 888
    آخر نشاط: 30/September/2021

    اللغة جسر بين الحضارات والشعوب




    اللغـة مشترك إنساني
    كلُّ بني البشر يتكلَّمُون، ويستطيعون التعبير عمَّا في صدورهم بألسنتهم، وهذه من المميِّزات التي تُمَيِّز الكائن الإنساني، وهي ميزةٌ أعطاها الله إيَّاه: (خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [الرحمن: 3، 4].
    فاللغة من أهم خصائص الإنسان، وهي خاصيَّةٌ يتمتَّع بها كلُّ البشر؛ فهي -من حيث مبدأ النطق والبيان والتعبير- مشتركٌ إنسانيٌّ عامٌّ، وممَّا له دلالةٌ في هذا السياق أنَّ كثيرًا من علماء اللغويَّات لا يَرَوْنَ وجود لغةٍ يُمكن أن يُطلق عليها "اللغة البدائيَّة"، وهذا ما يُؤَكِّد أنَّ اللغة ليست بالشيء الذي يجري عليه معيار التقدُّم والتخلُّف، بل معيار التطوُّر والتنوُّع، بمعنى أنَّ اللغة كانت خاصيَّة إنسانيَّة تامَّة موجودة فيه منذ خُلق، ولم تكن شيئًا معدومًا ثُمَّ اكتسبه مع تقدُّم الزمن.
    فمثلًا: يتحدَّث جرينبرج -أحد علماء اللغة- عن اللغات البدائيَّة ليُشِير بها إلى اللغات غير المكتوبة، بينما يضع بيلز وهويجر الكلمة بين علامتي اقتباس في معرض حديثهما عن اللغات البدائيَّة، ثُمَّ يمضيان ليُثبتا حقيقة عدم وجود لغاتٍ من هذا النوع[1] (أي لغات بدائيَّة)، والواقع أنَّنا عندما نقارن خصائص في الثقافات اللاكتابيَّة؛ كاللغة، والدين، والأساطير، ونظام القربى، وحبك الروايات، وتأليف الأشعار.. فإنَّ أعضاء الثقافات اللاكتابيَّة لن يقفوا على قدم المساواة مع أعضاء المجتمعات المتمدِّنة فحسب، بل سيتفوَّقُون عليهم في أحيانٍ كثيرة[2].
    لكن -ومع التسليم بمبدأ عموميَّة اللغة- فإنَّ التعمُّق في التفاصيل يُظهر لنا أنَّ البشر الذين يتكلَّمُون إنَّما تختلف ألسنتهم ولغاتهم ولهجاتهم: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ) [الروم: 22]؛ فلئن كان "البيان" هو الجامع الإنساني، وهو المشترك العام، فإنَّ ثَمَّة مشتركات خاصَّة لأهل اللسان الواحد، ثُمَّ مشتركات أكثر خصوصيَّة لأهل اللهجة الواحدة.

    اللغة الأم
    يبلغ عدد اللغات التي أُحصيت في العالم فيما بين خمسة آلاف إلى ستَّة آلاف لغة، وما زال ثَمَّة اكتشافات جديدة لأقوامٍ آخرين؛ ومن ثَمَّ للغات أخرى، وتتعدَّد اللغات في المنطقة الجغرافيَّة الواحدة؛ فعلى سبيل المثال يُقَدَّر عدد اللغات في إفريقيا عادة بثمانمائة لغة، بينما تُقَدِّرها خريطة مدرسة اللغات الشرقية بجامعة لندن بنحو 1500 لغة، فضلًا عن اللغات الأوربية وأبرزها الإنجليزية والفرنسية[3].
    إلَّا أنَّ هذه اللغات الكثيرة إنما تجتمع فيما يُسَمَّى بـ "اللغة الأم"، وهي التي يَفْتَرض علماء اللغة وجودها؛ لتفسير الظواهر المشتركة بين مجموعة من اللغات المتقاربة؛ مثل: اللغة العربيَّة والعبريَّة والسريانيَّة، التي تشترك جميعها في عائلةٍ واحدة هي عائلة اللغات الساميَّة[4]، وكذلك السكان في إفريقيا جنوب خط الاستواء تنتشر بينهم (350 لغة)، يُطلق عليها البانتو وهي تُشَكِّل أسرةً لغويَّةً واحدة، وكلمة "البانتو" معناها الناس[5].
    وفي ظلِّ السيطرة البريطانية على الهند لاحظ البريطانيُّون الذين كانوا يعيشون هناك أنَّ الهندستانيَّة -وهي إحدى اللغات المستخدمة في الهند- تُشبه اللغتين اللاتينيَّة والإغريقيَّة، واستنتجوا أنّ اللغات اللاتينيَّة والإغريقيَّة والسنسكريتيَّة (الشكل القديم للهندستانيَّة) نشأت جميعها من لغةٍ واحدةٍ أكثر قِدَمًا، ثُمَّ بدأ الباحثون بعد ذلك بدراسة اللغات الأوربيَّة الحديثة، وإجراء المقارنات بينها، فاكتشفوا أنَّ جميع اللغات الأوربيَّة تقريبًا، وكذا لغات فارس وأفغانستان وشمالي الهند نشأت من لغةٍ واحدة، تُوصف باللغة الأصل، وقد أطلق علماء اللغة على تلك اللغة البدائيَّة اسم الهندو-أوربية، ولا يُوجد اليوم شيءٌ مدوَّنٌ من الهندو-أوربيَّة، ولكن يُعتقد بأنَّها كانت لغة الحديث المتداولة في أوربَّا الشرقيَّة قبل عام 2000 ق.م[6].
    وعلى هذا؛ فإذا نظرنا للغة من أعلى نجد عائلات لغويَّة، كلُّ لغةٍ فيها تكون "اللغة الأم" لعديدٍ من اللغات الأخرى، ثُمَّ كلُّ لغةٍ منها تكون الأم للعديد من اللهجات المختلفة؛ أي أنَّ ثَمَّة أربع مستويات للالتقاء بين البشر في الساحة اللغويَّة: الاشتراك في اللهجة، الاشتراك في اللغة، الاشتراك في اللغة الأم، الاشتراك في العائلة اللغويَّة.
    لقد تفرَّعت عن اللغة العربيَّة القديمة لهجات عديدة أصبحت كلٌّ منها -قبل الإسلام- لغةً منفصلة، عاش منها حتى الآن اللغتان العربيَّة والعبريَّة، وعن اللغة اللاتينيَّة تفرَّعت خمس لهجات، أصبحت فيما بعد اللغات الإيطاليَّة والفرنسيَّة والإسبانيَّة والبرتغاليَّة والرومانيَّة، وعن اللغات الجرمانيَّة الأم تفرَّعت سبع لهجات أصبحت اليوم اللغات الهولنديَّة والإنجليزيَّة والألمانيَّة والدنماركيَّة والنرويجيَّة والسويديَّة والأيسلنديَّة، ومن أمثلة ذلك -أيضًا- اللهجات العربيَّة الحديثة التي يكاد يُصبح بعضها غير مفهوم بين أفراد الأُمَّة العربيَّة، التي لولا وجود لغة القرآن الكريم كعنصرٍ مُوَحِّدٍ في غاية القوَّة لأصبحت لكلٍّ منها لغةً مستقلَّةً كما حدث في الأمثلة السابقة[7].
    وإذا أعدنا النظر إلى خريطة توزُّع الأسر اللغويَّة، سيُمكننا أن نرى مساحات تقاربيَّة أخرى لا نراها في غير هذه الخريطة.

    فمن الخريطة يبدو لنا أنَّ الأميركتين وأوربَّا وغرب آسيا ومساحة الوسط من روسيا والهند وأستراليا تنتمي إلى العائلة اللغويَّة "الهندو-أوربيَّة"، وهذه المساحة المنسجمة في هذه الخريطة لا تكاد تنسجم في أيِّ خريطةٍ أخرى.
    كما تنسجم منطقة العالم العربي مع منطقة وسط وشرق إفريقيا في العائلة اللغويَّة "الأفرو-آسيويَّة"، وتمثِّل منطقة وسط وجنوب وغرب إفريقيا -ما عدا جنوب إفريقيا- كتلة لغويَّة منسجمة، وكذلك الصين.
    وبالنزول أكثر إلى التفاصيل نجد أنَّ ثَمَّة لغات ينطق بها عددٌ كبيرٌ من البشر، فبحسب قائمة اللغات بحسب تعداد الناطقين بها؛ تأتي اللغة الصينيَّة في المركز الأوَّل، ثُمَّ العربيَّة، ثُمَّ الإسبانيَّة، فالإنجليزيَّة، فالبنغاليَّة، فالهنديَّة، فالبرتغاليَّة، فالروسيَّة، ثُمَّ اليابانيَّة، فهذه هي اللغات العشر الأولى بحسب عدد المتحدِّثين الأصليِّين بها؛ يتحدَّث بها قرابة ثلاثة مليارات من البشر (2782,5 مليون)؛ أي تقريبًا نصف بني الإنسان، ثُمَّ تأتي في مراحل تالية لغات مثل: الألمانيَّة والفرنسيَّة والبنجابيَّة والجاويَّة والكوريَّة... وغيرها[8].
    وعلى هذا نستطيع أن نقول: إنَّ نصف البشر الذين يسكنون هذه الأرض يُمكن تقسيمهم في عشر مجموعاتٍ كبرى؛ بمعنى أنَّ شعب أيِّ دولةٍ -في هذا النطاق اللغوي- سيجد نفسه في حالة تفاهم والتقاء مع عددٍ كبيرٍ من الشعوب تُشاركه في اللغة؛ أليس شيئًا عظيمًا أن نجمع عددًا لا حصر له من الاختلافات بين هذه الشعوب تحت مظلَّة الانسجام اللغوي، فنصنع بهذا أرضيَّة جديدة للتواصل والالتقاء والتعاون؟!
    ويزداد هذا القياس أثرًا بضمِّ اللغات التالية في القائمة، فبدخول كلِّ لغةٍ يدخل معها عددٌ أكبر من المتحدِّثين بها فيما تظلُّ تتأخَّر اللغات ذات الأعداد القليلة، وعندها سنرى أنَّ ما يقرب من ثلاثة أرباع البشر يُمكن أن يُجمعوا في ثلاثين لغة، وبهذا تستطيع اللغة -وحدها- أن تُقَلِّص الاختلافات البشريَّة إلى ثلاثين اختلافًا فقط.

    التجربة الصهيونية
    وربَّما كان من المهمِّ أن نتوقَّفَ -في هذا السياق- أمام التجربة الصهيونيَّة، التي استطاعت من خلال الرابط اللغوي أن تصنع أرضيَّةً قويَّةً وثابتة من الالتقاء بين اليهود، الذين هاجروا إلى فلسطين من كلِّ بلاد العالم، وأن تتجاوز -بهذه الوحدة- العديد من المزالق والمشكلات الكبرى التي كان من الطبيعي أن يُوَاجهها مجتمع غير متجانس، تَشَكَّل من خليطٍ لبيئاتٍ وثقافاتٍ وأجناسٍ وعاداتٍ كثيرة، فلم يَلْتَقِ إلَّا على الدين اليهودي، ثُمَّ كان المخطِّطون للدولة على وعيٍ أَهَّلَهم لأن يُفَكِّرُوا في ضرورة "صناعة" لغةٍ للمجتمع الصهيوني، ونقول: "صناعة". لأنَّ عمليَّة إحياء اللغة العبريَّة من بعد موتها كان يُشبه صناعة شيءٍ جديد.
    ولولا أنَّ الأقليَّات اليهوديَّة احتفظت في عزلتها "الجيتو" بتشدُّدٍ في تعلُّم اللغة لكانت العبريَّة في عداد اللغات المنقرضة، ولقد وصل هذا التمسُّك إلى حدِّ أنَّ "الحديث اليومي بين اليهود في المجتمع لم يكن يتمُّ بلغة البلاد، وإنَّما برطانةٍ يهوديَّةٍ خاصَّة تُسَمَّى باليديش، وحين كان يهوديُّ الجيتو يتعلَّم لغةً جديدةً فإنَّه كان يتعلَّم "لشون هاقدوش"؛ أي: اللسان المقدَّس أو اللغة العبريَّة؛ لأنَّ مجرَّد النظر إلى أبجدية الأغيار كان يُعَدُّ كفرًا ما بعده كفر، يستحقُّ اليهودي عليه حرق عينيه"[9].
    غير أنَّ هذا التشدُّد في الانعزال جعل اللغة بعيدةً عن التطوُّر؛ إذ كان من المحرَّم النظر في علوم الآخرين المكتوبة بأبجديَّاتٍ أخرى، لا سيَّما العلوم الحياتيَّة؛ كالطب والهندسة.. وما إلى ذلك، بل حتى العلوم الإنسانيَّة كالتاريخ كانت مقصورةً على تاريخ اليهود وتراثهم، وهكذا احتفظ الجيتو بالعبريَّة كلغةٍ لا هي تموت ولا هي تتطوَّر.
    لقد اختفت اللغة العبريَّة كلغةٍ حيَّةٍ منذ القرن الخامس قبل الميلاد؛ لأنَّ اليهود -خارج الجيتو- كانوا يتبنَّوْن في كلِّ بلدٍ يُقيمون فيه لغة شعبه، فتكلَّمُوا الآراميَّة ثُمَّ الإغريقيَّة، لكنَّ هذا التبنِّي اتَّخَذ -لضرورة إحياء اللغة من جديد- شكل لهجةٍ لغويَّةٍ عبريَّةٍ جديدة، امتلأت بالتعابير العبريَّة المستمدَّة من اللغة العربيَّة، واللغة الفارسيَّة، والبروفنكاليَّة (نسبةً إلى مقاطعة بروفنكال في فرنسا) والإسبانية، والألمانيَّة.. وغيرها[10].
    بل إنَّ متخصِّصًا في اليهوديَّة والصهيونيَّة مثل العلَّامة الدكتور عبد الوهاب المسيري يرى أنَّ المجتمع الصهيوني القائم حاليًّا لا يتَّفِقُ في أيِّ شيءٍ إلَّا في هذا المستوى اللغوي، يقول: "لا يُمكن الحديث في الوقت الحاضر عن أيَّة خصوصيَّة إسرائيليَّة؛ ولكن حتى إن ظهرت مثل هذه الخصوصيَّة، فإنَّها لن تكون خصوصيَّة يهوديَّة عالميَّة، وإنَّما خصوصيَّة التجمُّع البشري الاستيطاني في الشرق الأوسط، ذلك المجتمع الذي يتحدَّث سكَّانه اللغة العبريَّة، مع أنَّهم جاءوا من تشكيلاتٍ حضاريَّةٍ شتَّى، وأحضروا معهم خصوصيَّاتهم الحضاريَّة المختلفة"[11].

    تجربة الحضارة الإسلامية
    ولا نجد عبر التاريخ مثالًا على التوحيد اللغوي أفضل من تجربة الحضارة الإسلاميَّة مع اللغة العربيَّة، فعلى الرغم من أنَّ الإسلام لم يُجْبر أحدًا على اعتناق عقيدةٍ معيَّنة، أو التحدُّث بلغةٍ مُعَيَّنَة، وعلى الرغم من أنَّ الإسلام ضمَّ في إمبراطوريَّته الواسعة أغلب اللغات واللهجات المعروفة في العالم وقتذاك، فإنَّ الإقبال على اعتناق الإسلام كان يحمل في طيَّاته إقبالًا على تعلُّم اللغة العربيَّة[12]، حتى غير المسلمين قد اتَّخذوا من العربيَّة لسانًا لهم[13].
    كما أنَّ سيادة اللغة العربيَّة باعتبارها لغة العلوم في العصر الوسيط أضاف مزيدًا من الإقبال عليها، إلى الحدِّ الذي يُصَرِّح فيه بول ألفارو -وهو علماني إسباني- فيقول وهو متأسِّف: "المسيحيُّون مولعون بقراءة الأشعار والقصص العربيَّة، وهم يدرسون فقهاء الإسلام وفلاسفته، لا ليدحضوا ما يقولون؛ بل لتصحيح لغتهم العربيَّة وتنميق أسلوبهم، وهل لدينا اليوم من غير رجال الدين مَنْ يقرأ التفاسير اللاتينيَّة للكتاب المقدَّس، أو مَنْ يدرس الأناجيل، أو كتابات الأنبياء والرسل؟ وا أسفاه! إنَّ جميع شباب المسيحيِّين من ذوي المواهب يعكفون على قراءة الكتب العربيَّة ودراستها بحماس"[14]. ذلك أنَّ اللغة العربيَّة كانت لغةً أدبيَّةً متقدِّمة في ساحة الفكر تقدُّمًا واضحًا[15].
    وعن هذه الحقيقة يقول ول ديورانت: "قَوَّى علماء الإسلام في ذلك العهد دعائم الأدب العربي الممتاز بدراساتهم الواسعة للنحو، الذي جعل اللغة العربيَّة لغة النطق والقياس، وبما وضعوه من المعاجم التي جمعوا فيها ثروة هذه اللغة من المفردات في دقَّةٍ ونظام، وبموسوعاتهم ومختصراتهم، وكتبهم الجامعة التي جمعت كثيرًا من أشتات الآداب والعلوم لولاها لخسرها العالم، وبمؤلَّفاتهم في النصوص والأدب، والنقد التاريخي، ولا حاجة بنا إلى ذِكْرِ أسماء هؤلاء العلماء الأعلام"[16].
    وكلا العاملين: اعتناق الإسلام، والإقبال على تعلُّم العربية؛ لأنَّها لغة العلوم، أنتج -فيما بعد- انسياح اللغة العربيَّة التي لم تكن تتعدَّى حدود الجزيرة العربيَّة إلى حدود العالم العربي المعروف حاليًّا، بعد إضافة كلِّ الشمال الإفريقي، وكذلك مناطق أخرى كانت عربيَّة ذات يوم، ثُمَّ جرت عليها ظروفٌ تاريخيَّةٌ جعلت العربيَّة تنحسر عنها، كالهند وأواسط آسيا وشبه الجزيرة الأيبيريَّة وبعض مناطق وسط إفريقيا وغربها.
    فكلُّ الإنتاج العلمي المكتوب باللغة العربيَّة -في ذلك الوقت- كان يُقرأ في أقصى الشرق كما يُقرأ في أقصى الغرب؛ نتيجةً لهذا التوحيد اللغوي، الذي يجمع بين كلِّ الاختلافات من الأعراق والأديان والأجناس والبلاد.
    حتى الآن، تُمَثِّل اللغة العربية مجالًا متينًا من مجالات التفاهم والتواصل عبر الشعوب التي تتحدَّث بها من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، والإنتاج الأدبي أو الفني المصنوع باللغة الفصحى يُسَوَّق له في كلِّ هذه الأرجاء، على العكس ممَّا هو مصنوعٌ باللهجات المحليَّة، كما أنَّه أكثر بقاءً من الناحية الزمنيَّة[17].
    كما تُمَثِّل اللغة العربيَّة وسيلة التواصل بين المغتربين العرب في البلاد غير العربيَّة، ومن خلال بحثٍ يسيرٍ على شبكة الإنترنت باللغة العربيَّة عن الصحف والمجلات العربيَّة التي تصدر من خارج الوطن العربي، وتُعَبِّر عن حالة من حالات التواصل القائم على الأساس اللغوي، نستطيع أن نعدُّ أكثر من أربعين صحيفة ومجلة بعضها متخصِّصة[18].

    اللغة والانتماء
    وثمَّة أمرٌ ينبغي أن يُذكر في سياق قوَّة اللغة كعاملٍ من عوامل التواصل والتقارب والالتقاء، ذلك الأمر هو ما تَمَثَّل في حرص دول الاستعمار على كسر هذه الرابطة اللغويَّة في الدول التي احتلتها؛ لأنَّ ثَمَّة إدراكًا عميقًا بأثر اللغة في التواصل بين الشعوب الناطقة بها.
    فبريطانيا -على سبيل المثال- اتَّبعت سياستها المعروفة "فرِّق تَسُدْ" في مجال الصراع السياسي المباشر، وعمدت في المجال الثقافي والإعلامي إلى إثارة الخلافات اللغويَّة والإثنيَّة، وكانت نتيجة ذلك تشجيعها للهجات المحلية؛ كجزء من تشجيعها للخلافات القبليَّة والطائفيَّة، ومن هنا جاءت محاولتها لضرب اللغة العربيَّة الفصحى من خلال تشجيع إصدار صحفٍ باللغات المحليَّة، وقد تَنَبَّهَت القوى الوطنيَّة العربيَّة لهذه المؤامرة في وقتٍ مُبَكِّر، وحرصت على محاربة هذا الاتجاه بالإكثار من إصدار الصحف الناطقة بالعربيَّة الفصحى، وذات الطابع الأدبي في الأساس[19].
    ولهذا فلقد كان من الأمور المميِّزة لنشأة القوميَّات الحديثة هو أمر إحياء اللغة القوميَّة، بعد المحافظة عليها جيلًا بعد جيل، في ظروفٍ قاسيةٍ تعمل في بعض الأحيان على طمسها أو القضاء عليها، ومن أمثلة ذلك محاولة اتخاذ اللغة الهنديَّة لغةً رسميَّةً في جميع أرجاء الهند المستقلَّة، وبعث اللغة العبريَّة لغةً رسميَّةً ولغة حديثٍ في فلسطين المحتلَّة كما بيَّنَّا، ولعلَّ أبلغ مثالٍ على ذلك محافظة شعوب شمال إفريقيا على لغتهم العربيَّة؛ على الرغم من السياسات المرسومة للقضاء عليها، ثُمَّ بعثها من جديد لغةً قوميَّةً للدول المستقلَّة بعد أن تحرَّرت من نير الاستعمار الأوربِّي الطويل، وكثيرًا ما يبلغ الاهتمام والاعتزاز باللغة القوميَّة مبلغ محاولة تنقيتها من الشوائب الأجنبيَّة العالقة بها، كما حدث مع اللغة الألمانيَّة، وما تُحاول الأكاديميَّات والمجامع اللغويَّة أن تفعله في أماكن مختلفة من العالم[20].
    وذلك مظهرٌ يُؤَكِّد أنَّ التواصل اللغوي كان شيئًا لا غنى عنه للشعوب التي تشعر بوحدة الانتماء، بل حتى الشعوب التي ليست لها لغات مكتوبة، ما أن تتحوَّل إلى دول مستقلَّة حتى تبدأ في صناعة لغتها وكتابتها؛ ومن أمثلة ذلك؛ ما فعلته إندونيسيا حين اتخذت لغة الباهاسا المستمدَّة من الملاويَّة المحكيَّة في سومطرة مع شيء من الهولنديَّة المحوَّرة، واتخذت تنجانيقا[21] اللغة السواحليَّة، ومثل هذا ما فعله من قبلُ اليابانيُّون والمنشوريُّون والروس والمغول[22].

    ***

    ثمَّة حقيقة لا يُمكن تجاهلها -ونُعيد التأكيد عليها- وهي أنَّ التواصل عبر المشتركات الخاصَّة يتطلَّب احترامًا للمشتركات العامَّة، فعند احترام المشتركات العامَّة تتحوَّل كلُّ المشتركات الخاصَّة تلقائيًّا إلى عوامل تواصل والتقاء وتفاهم واحترام، فإذا سادت أجواء الاحترام والمراعاة للعدالة والحريَّة والكرامة والأخلاق الأساسيَّة، لم تكن مشكلةً في أن يتعلَّم مجتمعٌ لغة قومٍ آخرين، وأن يتواصل معهم من خلالها.
    إنَّما يُؤَدِّي انتهاك هذه المشتركات العامَّة إلى بزوغ المشتركات الخاصَّة كعوامل مقاوِمة، وهي عوامل ملتهبة مشتعلة لا يُمكن إطفاؤها؛ ذلك أنَّها عميقةٌ متجذِّرةٌ في الشعوب، وحينئذٍ يصير تعلُّم لغة المحتلِّ -إلَّا لهدف مقاومته- عملًا مُحتقرًا، ويصير التواصل معه -إلَّا لهدف التحرُّر منه- خيانة وعمالة، حتى الشعوب التي نجح الاستعمار في زرع لغته بينها، وإجهاض لغاتها الأصليَّة ما تزال ترى في لغته عنوانًا للأزمة، وعلامةً على تاريخ الإذلال البغيض.
    وقد روى رئيس وزراء سنغافورة لي كوان يو وصانع تجربة نهضتها المتميِّزة، في مذكراته أنَّه كان مثل نهرو في شعوره تجاه اللغة، فكتب في يوميَّاته القديمة: "أنا رجلٌ عاطفيٌّ بدرجةٍ أقلَّ، فأنا عادةً لا أبكي أو أشدَّ شعري أو أمزِّق قميصي، ولكن هذا لا يعني أنَّ شعوري تجاه اللغة يقلُّ عن شعور نهرو، لن يذهب ابني إلى مدرسة إنجليزية، ولن يكون أنموذجًا لرجل بريطاني، ولكني آمل بالطبع أن يعرف الإنجليزية معرفة كافية، بحيث يتحدَّث مع أبيه في شئون أخرى غير الطقس"[23].
    فهذا كلام أناس فقدوا لغتهم الأم بفعل المستعمر، لكن هذا لم ينجح في جعلهم يخضعون للُّغة، بل أَجَّج من شعور مقاومتهم لها، ومن تمسُّكهم بلغاتهم التي لا يُجيدونها، وفي العالم العربي تنظر الجماهير بتأفُّف لمن يتَّخذ من لغة غير اللغة العربية شعارًا له، حتى يصير حديثه مشحونًا بالألفاظ الأجنبية، وما زال المتغرِّبُون والمتفرنسون والمتأمركون -وكل هذه ألقاب يُقصد بها التقليل من الشأن[24]- لا يحظون باحترام لدى الجماهير العريضة.
    بينما لا تُطْلَق مثل هذه المصطلحات على المتشبِّعين بالثقافة اليابانيَّة أو الصينيَّة أو الهنديَّة، أو غير ذلك من الثقافات التي لم يكن بينها وبين العالم العربي تاريخ من الاحتلال، أو محاولات طمس الهويَّة، ولا يُنظر بعين التوتُّر إلى مَنْ يُجيد لغات هذه البلاد ويقرأ آدابها وفنونها، إنَّ خلوَّ التاريخ من فترات عدائيَّة يجعل تقبُّل هذه الثقافات واللغات والتواصل معها أمرًا ميسورًا.
    وفي هذه الحالة فقط -حال وجود احترام للمشتركات العامة- يمكن أن يُنظر إلى كل مَنْ أجاد لغة -إلى جانب لغته الأم- بحسبانه جسرًا بين شعبين، وحينها نستطيع إقناع كل مَنْ يتعلَّم لغة جديدة بأنه –بهذا- يُمَثِّل جسرًا جديدًا بين شعبين، فتتكوَّن القاعدة التقاربيَّة اللغويَّة بين الشعوب الإنسانيَّة.

    المصدر:
    كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.


    [1] أشيلي مونتاجيو: البدائيَّة، ص88.
    [2] المرجع السابق، ص194.
    [3] مجلة البحوث الإسلامية 27/228.
    [4] الموسوعة العربية العالمية، "اللغة الأم".
    [5] مجلة البحوث الإسلامية 27/224، 225.
    [6] الموسوعة العربية العالمية، "علم اللغة المقارن".
    [7] نايف خرما: أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة، ص185.
    [8] الإحصاء مأخوذ من موقع ويكيبيديا "الإنجليزيَّة".
    [9] عبد الوهاب المسيري: الأيديولوجيَّة الصهيونيَّة 1/31، 32.
    [10] حسني عايش: أميركا الإسرائيليَّة وإسرائيل الأميركيَّة، ص82.
    [11] عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية 2/75.
    [12] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص151.
    [13] ول ديورانت: قصة الحضارة 13/133.
    [14] كارين أرمسترونج: سيرة النبيِّ محمد، ص32، 33.
    [15] ف. بارتولد: تاريخ الحضارة الإسلامية، ص63.
    [16] ول ديورانت: قصة الحضارة 13/171، 172.
    [17] صرَّح الممثل نور الشريف لبرنامج تلفازي بأن مسلسل "عمر بن عبد العزيز" الذي قام ببطولته، والذي كان باللغة العربية الفصحى، هو كعادة هذه النوعية من المسلسلات يظل دائمًا معروضًا ومطلوبًا للمشاهدين العرب، وأنَّ كلَّ القنوات العربية تتناوب إذاعته، وهذه -يواصل- خاصية لا تمتلكها المسلسلات الأخرى.
    [18] راجع مواقع: دليل الخيمة للمواقع، دليل نسيج ، دليل نسناس.
    [19] عواطف عبد الرحمن: قضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث، ص87، 88.
    [20] نايف خرما: أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة، ص187، 188.
    [21] هي الجزء القارِّي الذي اتحد مع جزيرة زنجبار عام 1964م ليكوِّنا معًا جمهورية تنزانيا الاتحادية، استقلَّت عن بريطانيا في 9 ديسمبر 1961م، وأصبحت عضوًا في منظمة الكومنويلث.
    [22] أشيلي مونتاجيو: البدائية، ص75.
    [23] لي كوان يو: قصة سنغافورة، ص224.
    [24] لفظ: "المتغربون - المتفرنسون - المتأمركون" هي بمعنى "المتشبه بـ.."، ويدور مدلولها حول أنه يُحاول أن يكون مثلهم، غير أنَّه لن يكون، فلا هو انتمى إلى أصله، ولا هو وصل إلى ما يُريد، كقول الشاعر ساخرًا: "كَالْهِرِّ يَحْكِي انْتِفَاخًا صَوْلَةَ الأَسَدِ".

  2. #2
    من اهل الدار
    تاريخ التسجيل: September-2016
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 22,819 المواضيع: 3,712
    صوتيات: 220 سوالف عراقية: 4
    التقييم: 19762
    مزاجي: ReLaX
    موبايلي: HUAWEI
    مقالات المدونة: 4
    موضوع رائع
    ينقل للقسم الثقافي

تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال