بأيّ مشيئةٍ عمرو بنَ هندٍ نكون لقيلِكم فيها القطينا
بأيّ مشيئةٍ عمرو بنَ هندٍ تطيع بنا الوشاةَ وتزدرينا[1]
لم يكن التكرار في الشعر ظاهرة مستحدثة او وليدة الشعر العربي الحر. بل لهذه الظاهرة جذورها المتأصلة في غور تاريخ الشعر العربي منذ ايام الجاهلية الاولى. نعم, فقد كان للشعر العربي الحر الدور الاكبر في اظهار التكرار بثوبه الحالي الذي جعل منه لونا من الوان التجديد في الشعر.
ومن خلال هذا البحث ساحاول بما يسع لي به المجال ان اقف على:
اولا: الكشف عن ظاهرة التكرار وانه اسلوب قديم في الشعر. كما سنحاول التعرف على طبيعة هذه الظاهرة ومحاورها وانماطها في الشعر العربي.
ثانيا: دور الشعر الحر في اعادة بلورة التكراروكيف استطاع الشاعر الحر ان يوظف التكرار في شعره ليجعل منه اداة تنقل الشعر من السكون الى الحركة.
مزايا التكرار وانواعه في الشعر العربي
ولعلنا استهللنا البحث ببيتين من معلقة عمرو بن كلثوم كون التكرار فيهما من النوع الشائع في الشعر الجاهلي او شعر العصور الاولى التي تلت حقبة بداية الاسلام.
وهذا النوع من تكرار نفس العبارة لم يقتصر وروده على الشعر فحسب, بل سجل حضوره حتى في سائر النصوص الادبية بما فيها القران الكريم باعتباره من اهم المصادر عند دراسة اللغة العربية. فالاية "فبأيّ الاء ربكما تكذبان" وردت اكثر من ثلاثين مرة في نفس السورة, سورة الرحمن. كما ان الحروف المقطعة التي استفتحت بها عدة سور من القران تعد من اهم الامثلة على التكرار في القران. ومع هذا فلم يذكر لنا التاريخ ان احدا من المشركين او المناوئين للاسلام قد اعترض يوما على هذا التكرار باعتباره يمثل نقصا في تناسق النص. وهذا ان دلّ فانما يدلّ على ان استخدام التكرار كان شائعا في لغة الضاد.
وبالرغم من ان التكرار كفيل بان يغني المعنى ويرفعه الى مرتبة الاصالة, كما تقول الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة, الا انه ايضا كفيل بان يردي الشاعر ويهبط بالقصيدة الى مستوى متدني. من هنا كانت الحاجة ملحة الى ان تكون للتكرار في الشعر, بل وسائر النصوص الادبية, قوانين تقننه حتى يتمكن الشاعر من استخدامه في موضعه وحتى لا يتحول التكرار في الشعر الى "اللفظية المبتذلة التي يمكن ان يقع فيها اولئك الشعراء الذين ينقصهم الحس اللغوي والموهبة والاصالة". فما اسهل ان يكرر الشاعر جملة او كلمة لا تتصل بما حولها عندما يكون جهد الشاعر منصبا على اللفظ المكرر دون ما حوله مما يخرج النص من اصالته ويجعله نصا مبتذلا, بل ويكشف عن عيوب ونقاط ضعف القصيدة. لو اخذنا مثالا من قصيدة المهلهل بن ربيعة "أليلتنا بذي حسمٍ أنيري" عندما يقول:
على أن ليسَ عدلاً من كُلَيبٍ اذا خافَ المُغارُ من المُغيرِ
على أن ليسَ عدلاً من كُلَيبٍ اذا طُردَ اليتمُ عن الجَزورِ
على أن ليسَ عدلاً من كُلَيبٍ اذا ضيمَ جارُ المستجيرِ
ويستمر في تكرار عبارة " على أن ليسَ عدلاً من كُلَيبٍ" لعشر مرات. الا ان التكرار هنا يضفي اكثر جمالية على النص وفي كل مرة يستخدمه الشاعر فانه يعطي معنىً اخرا بحسب ما يليه من النص. كما ان استخدامه في قصيدة حماسية كهذه يزيد من حدة القصيدة مما تعطي دفعة وجرعة اضافية للمستمعين لاثارة الحماس فيهم واستفزازهم الى القتال.
وليس بالضرورة ان يكون لها نفس التأثير فيما لو تكررت نفس عبارة المهلهل في قصيدة اخرى. بل يمكن ان تتحول بالنص الى نص مبتذل فاقد للحس والاصالة ولا يهب المستمع الا الملل والضجر. وقد يلجأ الشاعر الى تكرار اللفظ عندما يضيق به الافق وسبل التعبير ليجد في التكرار متنفسا يملأ الفراغ اللغوي الذي تعانيه القصيدة.
اذن, وحتى لا يتحول التكرار الى اللفظية المبتذلة, يجب ان تتحق فيه شرطان اساسيان:
الاول: ان لا يخرج التكرار عن قواعد الشعر العامة من الجمالية والذوقية.
الثاني: ان يكون اللفظ المكرر مرتبط بالمعنى العام للقصيدة. وان لا يكون تركيز الشاعر على اللفظ المكرر دون ما يليه من نص فيصرف نظر المستمع من الغاية المنشودة من القصيدة الى التكرار. فالاصمعي مثلا عندما قال في قصيدته "صوت صفير البلبل" ـ مكررا كلمة لا ـ:
فـــــــقال لا لا لا لا لا وقــــــــد غدا مهرولي
مما جعل المستمع يسهو عن سائر القصيدة منشغلا بعدّ اللاءات. اما حين يكرر محمود درويش عبارة "فكّر بغيرك" لاكثر من خمس مرات في قصيدته التي يقول فيها:
وانت تعدّ فطورك فكّر بغيرك لا تنس قوت الحمام
يجد المستمع براعة في استخدام درويش للتكرار ويضيف سر جمالي الى القصيدة بحيث يدور تفكير المستمع دائما في الجو العام للقصيدة.
وللعلم ان التكرار الذي استخدمه درويش في قصيدته السالفة الذكر انما هو من التكرار الوظيفي الذي يتكرر فيه النص داخل القصيدة مع بعض التعديل احيانا. ولهذا قام درويش بتغيير اللفظ في احد الابيات عندما قال:
وانت تفكر بالاخرين البعيدين, فكر بنفسك قل: ليتني شمعة في الظلام
والحقّ لو ان المجال يسع لكنت قد كتبت بحثا كاملا في هذه القصيدة فقط. فمن الاجحاف ان نمرّ على هكذا تحفة ادبية دون ان تكون لنا وقفة فاحصة نكتشف من خلالها اسرار الجمال الشعري والبلاغي الذي انطوت عليه هذه القصيدة.
واكثر ما يتم استخدامه من انواع التكرار في الفترة المتأخرة من تاريخ الشعر هو تكرار بيت كامل في بداية ونهاية مقطع من القصيدة. وترى نازك الملائكة ان المميز في هذا النوع هو انه النقطة في نهاية كل عبارة تم معناها, ليتهيئ المستمع الى مقطع جديد. لذلك فهي ترى ان القصيدة تكون عرضة للفشل فيما لو استخدم هذا النوع في قصائد عامة تتصل مقاطعها مع بعضها البعض وبالتالي لا يمكن تقطيعها. ولعل هذا السبب الذي افقد قصيدة بدر شاكر السياب المعروفة بـ "سجين" رونقها وانسيابها الشعوري. فـ "سجين" لم تكن من النوع الذي يمكن تقطيعه مما يجعل تكرار نفس البيت في بداية ونهاية كل مقطع من القصيدة اشبه ما يكون بالتكرار المجرد الذي لا داعٍ له.
ولو ما قارنا قصيدة السياب بقصيدة اخرى , وهي "الطمأنينة" لميخائيل نعيمة فاننا سنرى الفرق الابداعي ما بين القصيدتين. فالعلاقة الوطيدة بين ابيات كل مقطع من "الطمأنينة" تساعد النص المكرر على الاندماج مع سائر الابيات ويضيف لونا موسيقيا لا يمكن ايجاده في "سجين".
وميخائيل نعيمة ابدع في استخدام انواع اخرى من التكرار. ففي قصيدة "اخي" تتكرر كلمة "اخي" ـ مع كونها عنوان القصيدة ـ في بداية كل مقطع من مقاطع القصيدة الخمس. وتجدر الاشارة الى ان تكرار عنوان القصيدة شائع في الشعر الحر.
وتكرار نفس الكلمة , التي تشكل محور وقطب الرحى الذي تدور حوله القصيدة ككل بما تشكله من صوت معزول داخل النص يتوحد مع بناء النص لتؤدي وظيفية سياقية بحسب طبيعة اللغة المستخدمة , انما يستخدمه الشاعر لاثارة المستمع ولاعلاء شأن المصطلح المكرر. لذلك نجد ابرز الشعراء الذين ابدعوا في هذا الاستخدام ـ بما فيهم نعيمة ـ لا يكررون الا تلك المصلطحات التي لها ثقلها وحضورها في عالم اللغة وتحمل في ابعادها معانِ لها اهميتها في الحياة من امثال اخي او الحب. والا مجرد استخدام اي كلمة او مصطلح سيجعل التكرار مجرد اعادة فارغة ليس فيه اي اثارة. فعندما يكرر الشابي "الكون" في قصيدة "الحياة" ويقول:
الكون كون شقاء الكون كون التباس
الكون كون اختلاف وضجة واختلاس
انما يؤكد من خلاله على اهمية الكون باعتباره عالم متناقض يحمل معالم الخير والفضيلة في مقابل حمله لصفات الشر والرذيلة[2]. وان كان الشابي ـ وبحسب الدكتور زهير احمد المنصور[3] ـ قد اخفق في هذا الاستخدام. فلا يذكر الشابي الا الصورة السلبية عن الكون. فلو تخلى عن التكرار في اول بيت لوفرّ على المستمع حالة الرتابة ما دامت الدلالة ذاتها في صدر وعجز البيت المذكور.
التكرار في الشعر العربي الحر
مما سبق عرفنا ان التكرار لم يكن حالة نادرة ولدت مع الشعر الحر. فحتى امهات القصائد الشعرية العربية ـ بما فيها المعلقات ـ لم تكن تخلُ من النصوص المكررة التي تصل احيانا الى تكرار بيت باكمله وبشكل مترادف. الا ان ذلك لا يعني ان الشعر الحر لم يضف شيئا الى هذه الظاهرة. بل على العكس, فقد لعب الشعر الحر دورا هاما في تطور هذه الظاهرة.
ولعل نازك الملائكة لا تبالغ عندما تذكر في كتابها "قضايا الشعر المعاصر" بان الفضل في ابراز هذه الظاهرة واهتمام البلاغيين بها في كتاباتهم يعود الى الشعر الحر, وتحديدا الى الفترة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية.
واذا ما اردنا استقصاء الاسباب التي ادت لذلك فانها تحتاج لبحث منفرد قد لا يسع له المجال هنا, الا ان السبب الابرز ـ وباختصار ـ في ذلك هو امتياز الشعر الحر بالنمط الثوري الذي يسعى اربابه دائما الى التغيير. التغير في كل شئ, بدءا من الحياة الاجتماعية وانتهاءا بالعرف الشعري السائد والذي اصبح يمثل حالة من الرتابة والتكرار المستمر. ولان الشعر الحر غالبا ما يلامس مشاكل المجتمع وهموم الناس فان ملاحظة اي حالة فريدة فيه لم تكن بهذه الصعوبة, اذ انه دائما ما يدور في اطار طبقات المجتمع.
الا انه حتى مع ذلك لم يتمكن الشعر الحر من التحرر الكامل من القيود التقليدية الشعرية والمعروفة منذ انطلاقة الشعر العربي. فما زال الشعر الحر يخضع لتلكم القوانين والقواعد التي مرّ ذكرها انفا, من عدم خروج النص عن الذوق العام للشعر وان يكون النص المكرر مرتبطا بما حوله. والا لتحول النص بدوره في القصيدة الحرة الى نص مبتذل فاقد للحس اللغوي والاصالة. فعندما يكرر نزار القباني ياء النداء في احد ابيات قصيدته "شؤون صغيرة" فيقول:
لعلك... يا ... يا صديقي الاثير
فلا يُعرف سبب التلكؤ في مناداة الشاعر لصديقه حتى وقع في تكرار غير مبرر ولا يضيف الى النص سوى كلمة لا محل لها من الاعراب. فكان من الانسب ان يقول "لعلك يا صديقي الاثير" دون تلكؤ او تكرار. الا ان الحال يختلف عندما يكرر وفي نفس القصيدة ولاكثر من مرة عبارة:
وابكي... وابكي...
فان التكرار هنا يعطي شعورا للمستمع والقارئ باستمرارية البكاء وحالة الحزن لدى الشاعر مما يسهل عملية التفاعل مع الجو العام للنص والقصيدة.
وليست هذه المرة الاولى التي يقع فيها القباني في هفوة التكرار. فلو اخذنا مثالا اخرا من قصيدته "كتاب الحب" وتحديدا عندما يكرر ـ وبدون اي مبرر ـ عبارة "أشكوك للسماء" مشكلا منها بيتين متتاليين.
وتتكرر ايضا كلمة واحدة في قصيدة السياب "انشودة المطر", وهي كلمة مطر, لتشكل ثلاثة ابيات متتالية في موضع وفي اخر تتكرر مرتين مشكلة بذلك بيتين. ولم يكن التكرار لوحده الذي يضفي على القصيدة جو من التعقيد. فدمج الشاعر بين الغزل والخوف وتفاخره بعراقٍ ينتابه الحزن والاسى وتحوله الى لغة الانا بالرغم من ان القصيدة تجسد معاناة شعب باكمله موحيا الى القارئ والمستمع ان الشاعر يمثل المجتمع بكل ابعاده وان همومه هي هموم الشعب, كلها امور تبعث على التأمل والتساءل فالي ايّ مدى يريد الشاعر الوصول؟
وجاء التكرار ليزيد الطين بلة في القصيدة ويكون هو الاخر ثقلا على كاهل القارئ والمستمع. الا انه لا نستبعد ان تكون كل هذه التناقضات وكل هذه المخالفات الشعرية ـ ان صح ان نسميها ـ لها علاقة وارتباط باحساس الشاعر الداخلي والذي جعله يخرج عما هو معمول به سواء في الشعر الكلاسيكي او الشعر الحر.
الا اننا لو اخذنا نموذجا اخرا من التكرار في القصيدة الحرة, وتحديدا من قصيدة "البعث والرماد" وفي النشيد الرابع المسمى بـ " رماد عائشة" عندما يكرر البيتين:
واحدهم مغارة
والاخران صدأ
ليتكرر النص في ثلاث صور:
الاولى عندما يصف الثلاثة بانهم ثلاثة من الركام يعشوق موتهم, والثانية عندما يقول عنهم بانهم ثلاثة من الفراغ, اما الصورة الثالثة فيذكرهم ادونيس مرة اخرى بالركام يكبرون ويفكرون كالحصى في اشارة الى الجمود الفكري الذي يعانيه هؤلاء النماذج الثلاثة بما يمثلونه من مجتمع متخلف.
والتكرار هنا لها مغزاه. فالقصيدة ككل هي انتقاد لتخلف المجتمع وتجمده عند التقاليد والاعراف دون السعي الى تصحيحها او حتى الاستفادة من اخطائها للتقدم خطوة الى الامام والى ازدهار ورقي المجتمع. فيكرر الشاعر نفس النص وتقريبا نفس الوصف حتى يعبر عن تكرار التقاليد والاعراف وبالتالي نفس الاخطاء. وفي كل مرة لا ينتج المجتمع الا صورا طبق الاصل عن الماضي بكل ابعاده. واذا كان هناك تغيّر ـ عندما يغاير في الوصف في الصور الثلاث ـ فليس هو بالتغيّر الجوهري او التغيّر نحو الافضل. فهم يبقون ركام ويبقون فراغ ويبقون حصى جامدة لا تحس ولا تدرك.
واستخدام ادونيس للتكرار هنا هو اشبه ما يكون باستخدام درويش في قصيدة "فكر" والتي مرّ ذكرها. فايضا كما درويش يتصرف ادونيس ـ وباسلوب فريد ـ بالالفاظ حتى يبعد عن المستمع والقارئ حالة الرتابة ويجلعه في كل مرة يحلظ شيئا مغايرا لما مرّ.
والحق ان ادونيس كما كان رائدا في الشعر الحر فانه ايضا رائد في بلورة التكرار في الشعر الحر. ولعل هذا ايضا سبب اخر في تميز ادونيس بقصائده خلافا للسياب الذي يستخدم التكرار بشكل مباشر. فالسياب اكثر كلاسيكية من ناحية استخدامه للتكرار. فقد لاحظنا فيما مر من امثلة من الشعر الكلاسيكي انه قلما يتم التصرف بالنص المكرر.
من هنا قررت نازك الملائكة في كتابها "قضايا الشعر المعاصر" قانونين لاستخدام التكرار:
الاول: ان يحظى التكرار بعناية الشاعر اكثر من عنايته بما سواه. حيث ان التكرار يعبر عن نقطة حساسة يريد لها الشاعر ان تلحظ من قبل المتلقي. فعندما يقول عبد الوهاب البياتي:
وخيولنا الخشبية العرجاء كنا في الجدار
بالفحم نرسمها ونرسم حولها حقلا ودار
حقلا ودار
فان تكرار عبارة "حقلا ودار" في الواقع يعيب القصيدة ويجعل النص مختلا. فلا معنى لتكرارها كونها ليست من الامور التي ينبغي على المتلقي ملاحظتها.
الثاني: ان يخضع التكرار لتلك القوانين الخفية التي تؤثر في النص, بما فيها التوازن. ولو قرأنا ما يقوله نزار قباني:
ماذا تصير الارض لو لم تكن
لو لم تكن عيناك ماذا تصير؟!
ففي الواقع التكرار هنا لا يضيف الى النص اي شئ سوى حشو كلمات لا معنى لتكرارها. في حين عندما يقول السياب:
في دروب اطفأ الماضي مداها
وطواها
فاتبعيني اتبعيني
يدرك المتلقي صراع الشاعر بين ماضيه الذي يسعى لاطفاء شمعته وبين مستقبله الذي يريد له الثبات على اساس الحب الانساني, فيطلب من حبيبته ان تتبعه مكررا الطلب. فهناك في الواقع توازن في كل مفردات النص بدءا من استخدامه للافعال وانتهاءا بالتكرار.
وكنموذج اخر نأخذ ما قاله السياب ايضا:
ودم يغمغم وهو يقطر ثم يقطر "مات مات"
وهنا توازن رائع في البيت المذكور. ففي كل مرة يقطر فيها الدم يغمغم مات. وحتى استخدامه للفعل يغمغم لا يخلو من التكرار كما تذكر نازك الملائكة. اذ كرر حرفي الغين والميم. والتكرار هنا باكمله فيه نوع من الحركة ولا يستقيم المعنى ولا يتقوم النص دونه.
الخاتمة
مما سبق نستنتج ان التكرار لم يكن يوما معيبا او يشكل نقصا في بناء القصيدة والنص الادبي. اذ سجل حضروه في كل مجالات الادب واستغله الشعراء والادباء لاضافة لمسة فنية على ما جادت به قراؤحهم من تحف شعرية. الا ان التكرار مجردا ليس اداة جمالية يمكن ان تستخدم في القصيدة, وانما يتقوّم التكرار من خلال ما يترك من اثر نفسي وانفعالي لدى المتلقي. لذلك حددّ ابن معصوم في كتابه "انوار الربيع في انواع البديع" ست موارد لاستخدام التكرار, وهي: التأكيد, التنبيه, التعبير عن احاسيس الشاعر, التهويل, التعظيم واخيرا التلذذ بذكر المكرر.
وهذه الموارد لم يكن الشعر الحر بمنأى عنها. فما اسهل ان تقع القصيدة الحرة عندما يكون التكرار مجردا والشاعر يفتقر الى الوعي والادراك اللازمين لاستخدام التكرار. وقد ذكرنا عدة امثلة من الشعر الحر لنصوص ركيكة تفتقر الى الحس اللغوي ولم تكن سوى زيادة في الكلمات الفارغة بالرغم من كونها قصائد لشعراء لهم اسمهم وثقلهم في عالم الشعر الحر.
اذن لم يكن الشعر الحر ـ وكما ذكرنا ـ مبتكرا لاسلوب التكرار. وانما دوره كان في الواقع مكملا لما ابتدأه الشعر الكلاسيكي. وان كان غلب على الشعر الحر ثلاث اصناف من التكرار تذكرهم نازك الملائكة في كتابها "قضايا الشعر المعاصر", والتي افردت فصلين ـ الثاني والثالث ـ لدراسة التكرار, وقد اسهبت في دراسته واغنت عن الحاجة للبحث عند غيرها. والثلاث اصناف هي:
الاول: التكرار البياني ومن امثلته ما مر من بيت للسياب: ودم يغمغم وهو يقطر ثم يقطر "مات مات"
الثاني: تكرار التقسيم
الثالث: التكرار اللا شعوري, وهو ما تميز به الشعر الحر دون سواه لان هذا التكرار لا يقوم الا على المشاعر الخارجية والمحسوسة للشاعر. فالتكرار هنا يغني الشاعر عن الافصاح عن مشاعره اذ يقوم التكرار بهذا الدور دونه. وقد كرر السياب عبارة "ساهواك حتى..." في قصيدته "نهاية" كتعبير عن حالة مأساوية يعيشها الشاعر واحساسه بالم داخلي لم تسعفه الكلمات للافصاح عنه فاستعان بالتكرار.
المصادر
# الكتب
ـ نازك الملائكة, قضايا الشعر المعاصر, الجزء الثاني والثالث, منشورات مكتبة النهضة.
ـ علي صدر الدين بن احمد نظام الدين الحسيني الحسني, انوار الربيع في انواع البديع, باب التكرار ص 702, نسخة الكترونية مخطوطة.
ـ احمد بن الامين الشنقيطي, شرح المعلقات العشر واخبار شعرائها, معلقة عمرو بن كلثوم ص 97, دار الكتب العلمية ـ بيروت.
# الابحاث والدراسات
ـ د. زهير احمد المنصور, ظاهرة التكرار في شعر ابي القاسم الشابي (دراسة اسلوبية).
ـ أ.د . علي بن محمد الحمود[4], ظاهرة التكرار في شعر عبد الرحمن العشماوي (ديوان عناقيد الضياء انموذجا).
# المواقع الالكترونية
ـ موقع الادب العربي, http://www.adab.com/
الهوامش
[1] البيتان من معلقة عمرو بن كلثوم الشهيرة و مطلعها: ألا هبيّ بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الاندرينا
[2] يعرف هذا النوع من تكرار نفس المصطح في صدر وعجز البيت في علم البلاغة بما يسمى بـ "رد الصدر على العجز".
[3] أستاذ مشارك بقسم النقد والبلاغة - كلية اللغة العربية - جامعة أم القرى
[4] الأستاذ في قسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي, كلية اللغة العربية - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
ملاحظة: هذا هو البحث الثاني الذي اقدمه للاستاذ البروفيسور كمال ابو ديب. وكانت الدرجة التي حصل عليها البحث هي الامتياز