العادات والتقاليد مشترك إنساني:
على الرغم من أنَّنا نجد قدرًا كبيرًا من التنوُّع والاختلاف بين البشر في العادات والتقاليد، ربَّما نجد صعوبةً بالغةً تصل إلى حدِّ الاستحالة إذا حاولنا البحث عن قبيلتين تتَّحدان تمامًا في العادات والتقاليد، إنَّ هذا عسير حتى على التصوُّر؛ لأنَّه حتى في المناطق المتجاورة جغرافيًّا، التي لها الاحتياجات الاقتصاديَّة نفسها، وتمتلك اللغة نفسها، وتعتنق الدين ذاته، نجد بينها -على الرغم من كلِّ هذا- قدرًا من الاختلاف في العادات والتقاليد؛ من حيث طرق الزواج والطلاق، والاحتفال بالمناسبات والأعياد، أو طقوس الموت والدفن.
غير أنَّ ما نُريد قوله في هذه السطور القادمة هو أنَّ العادات والتقاليد إذا نظرنا إليها بمنظور التعارف والتعايش والتواصل، فسنجد فيها قاعدة أخرى من قواعد الالتقاء بين الإنسان وأخيه الإنسان؛ الأمر لا يحتاج أكثر من تغيير النظرة بالبحث عن المشترك لا عن المختلف، ثُمَّ طَرْحِ هذا المشترك والإلحاح عليه في محافل ومناسبات الالتقاء، مع الحرص والحذر الشديد من الاصطدام في الجانب المختلف؛ بل (تجميده) في خانة الخصوصيَّات التي تُحترم، ولا يُحاوَل تغييرها إلَّا في نطاق الحوار "بالحكمة والموعظة الحسنة"، وتحت مظلَّة الحريَّة الكاملة في الاستجابة لهذه النصيحة الهادئة، أو رفضها دون أن يُؤَثِّر هذا على مساحة المشترك التي تُؤَصِّل لمجالات التعاون والتفاهم والبناء.
إذًا؛ فالشعوب لها عادات وتقاليد، وهذا على مستوى الشعوب جميعًا؛ تلك التقاليد ذات قدرٍ غير محدودٍ من الثراء والتنوُّع والاختلاف، يُمكن لمن أحبَّ التصادم واتَّخذ النظرة الأُحاديَّة للأمور أن لا يتوقَّف إلَّا عند جوانب الاختلاف بما يُثمر الرفض والكراهية والتعالي ثُمَّ العنصريَّة، ويُمكن لمن يبحث عن التعايش أن يتوقَّف عند مساحات الاتفاق ليبني جسورًا من التوافق والتفاهم، تستطيع أن تُثمر إمكانيَّةً من الحوار في مناطق الاختلاف في ظلِّ المودَّة والاحترام.
وثمَّة ملحوظة ذات أهميَّة؛ وهي أنَّ تلك العادات والتقاليد في الغالب الأعمِّ لا معنى لها ولا فائدة بالقياس المادي، بما يُؤَكِّد أنَّ الإنسان ليس مجرَّد كائنٍ مادِّيٍّ فقط، يتحرَّك بوحيٍ من غرائزه أو حاجاته الاقتصاديَّة، بل هو كائنٌ مركَّبٌ مُتجاوزٌ للبُعد المادي؛ فهو ذو أبعادٍ أخرى رُوحيَّة أو نفسيَّة، ما يجعلنا نضع هذا الواقع أمام أعيننا ونحن نُحاول الالتقاء أو الحوار، فليست الأمور ذات تفسيرٍ مادي، إِذَنْ فالحلُّ والتعاون والتفاهم لا يقتصر على الجانب المادِّي فقط.
في السطور القادمة نضرب بعضًا من الأمثلة على هذا النوع من التشابه بين الشعوب المختلفة والمتباعدة في مجال العادات والتقاليد؛ وهي أمثلةٌ تُشير إلى المنهج فحسب؛ فهي لا تزال تنتظر العلماء المتخصِّصين والباحثين في هذا المجال ليعودوا عليها بالتصحيح والتفسير والتطوير والتوسيع.
كما لا بُدَّ في إطار هذا الهدف أن يُفرَّق بين العادات الدينيَّة والعادات الشعبيَّة؛ فالعادات الدينيَّة -التي تُصاحب الاحتفالات بالأيَّام والمواسم الدينيَّة، التي لها ارتباطٌ بالعقيدة وذِكْر في الكتب المقدَّسة أو شروحها- يظلُّ التعامل معها ذا حساسيَّةٍ خاصة، وقد لا تكون مطروحةً -ولا يجب أن تُوضع- على طاولة الحوار. بينما العادات الشعبيَّة يُمكن أن تكون مجالًا أرحب للأخذ والعطاء والحوار والتطوير والتغيير.
الاحتفاء بالموتى:
في مدغشقر يُقِيمُون كلَّ عامٍ -في أواخر الصيف وأوائل الخريف بعد موسم حصاد الأرز- احتفالات كبيرة؛ يقومون فيها بإخراج عظام الموتى من القبور والاحتفال بالموتى؛ فهم يعتقدون أنَّ أرواح الموتى ما زالت تعيش بينهم، ومن مراسم الاحتفال أن يتحدَّث أفراد العائلة إلى العظام، ويُعَرِّفُونهم بأنفسهم، ويقصُّون عليهم الأعمال المجيدة والحسنة التي قاموا بها مع تجنُّب ذكر الأعمال السيئة؛ لكي تسعد رُوح الميِّت ولا تبتئس، وهم يُنفقون في هذه الاحتفالات الأموال الطائلة، التي ربَّما أتت على كلِّ حصاد الغلال، وكلَّما استكثروا في الاحتفال والإنفاق كان أفضل وأكثر إسعادًا للميِّت، ثُمَّ يُعيدون دفن العظام بعد لفِّها بالحرير والطواف بها، ويضعون معها التبغ والنقود والذهب؛ لكي ترتاح رُوح الميت، ولا شكَّ أنَّ قومًا على مثل هذا الحال في الاعتناء بالموتى تكون أضرحتهم مثالًا في الإنفاق والضخامة؛ فهم يعتقدون ويؤمنون بأنَّ الموت ليس نهاية الإنسان[1].
وهذا الاحتفاء بالموتى مرتبطٌ عند التايوانيِّين باحتفالهم بأوَّل السنة القمريَّة، وهو الاحتفال المشهود الذي يتوقَّف عنده كلُّ شيء، وتكون الاستعدادات قائمةً في كلِّ بيت، والكلُّ مشغولٌ بتنظيف البيت، وإعادة صباغته وتلوينه، وتزيين الغرف بالزهور، وعند غروب شمس الليلة الأخيرة من السنة القمريَّة تجتمع العائلة داخل البيت، وتُغلق الأبواب بالشمع والورق الأحمر، وقبل تناول طعام المأدبة الكبيرة يحني كبير العائلة رأسه ويتبعه الآخرون فهذه هي تحيَّة التكريم للأسلاف، وعند انتصاف الليل ينطلق التايوانيُّون إلى الشوارع وتستمرُّ الألعاب الناريَّة حتى الصباح[2].
ولا يَبْعُد اليابانيُّون عن هذه الصورة الاحتفائيَّة بالموتى؛ إذ يحتفلون في شهر يوليو من كلِّ عامٍ بيوم (أرواح الأهل)، وفيه يعود الناس إلى قراهم ومواطنهم الأصليَّة؛ إذ يعتقدون أنَّ أرواح الموتى تعود في هذه الفترة إلى مواطنها الأرضيَّة، فيستقبلونها بالترحاب والاحتفالات، فيُضيئون المشاعل، ويُقَدِّمون الهبات إلى نموذج المعبد الصغير المقام داخل المنزل، وهو المعبد الذي تلتفُّ حوله أرواح الموتى فتعيش معهم ليومين، وفي هذا العيد يجتمع شمل العائلات اليابانيَّة[3].
بينما يلتقي الكوريُّون مع التايوانيِّين في الاحتفال بأوَّل السنة القمريَّة، ويلتقون مع كلِّ مَنْ يُمَجِّد الأسلاف في مراسيم وطقوس الحفل؛ إذ يبدو الحرص على تكريم وشكر الأجداد، فيُوضع الطعام أمام صورة أحد الأسلاف، وينحني أصغر أفراد العائلة انحناءً شديدًا أمام أجداده وأبويه وإخوته الأكبر سنًّا، واجتماع شمل العائلة الكوريَّة في اليوم الثامن من ظهور القمر بين شهري أغسطس وسبتمبر من كلِّ عامٍ لا يختلف عن اجتماع شمل العائلة اليابانيَّة في شهر يوليو[4].
الخاطبة:
ومن أوجه التلاقي الطريفة في مجال العادات والتقاليد هذا التلاقي في نظام (الخاطبة) التي تقوم بدور الوسيط بين الشاب الراغب في الزواج والفتاة التي بلغت سنَّ الزواج، وهو نظامٌ موجودٌ في كثيرٍ من الدول العربية، كما هو موجود -أيضًا- عند اليابانيِّين وعند الكوريِّين، ويصل التشابه إلى عرض الصور على الأسرتين، ثُمَّ ترتيب لقاء للتعارف بين هاتين الأسرتين في مكانٍ عامٍّ[5].
الشاي:
شعوبٌ كثيرةٌ تشرب الشاي وتُدمنه من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب؛ اليابانيُّون، والصينيُّون، والهنود، والسيلان، والإندونيسيُّون، والفيتناميُّون، والأتراك -وهم يُحقِّقون المركز الأوَّل في شرب الشاي- والفرنسيُّون، والألمان، والإنجليز، والأميركان، والمصريُّون، وكثيرٌ من العرب، والكينيُّون، والأوغنديُّون، وكثيرٌ من الأفارقة، ولكلِّ شعبٍ من هؤلاء طقوسه وعاداته في شرب الشاي؛ ثقيل، باللبن، بالنعناع، ساخن، مثلج، أخضر، أسود... ولكن البلجيكيِّين لا يشربونه[6]، ومثلهم الإيطاليُّون، والإثيوبيُّون[7]، ومعهم أتباع المذهب المسيحي المورموني[8] الذين يتفرَّقُون في أنحاء العالم[9].
الاسم الأوَّل:
ينصح عبد الفتاح شبانة -السفير المصري الأسبق- في اليابان قُرَّاءه بألَّا يتعجَّل أحدهم مناداة زميله الياباني باسمه الأوَّل، فإنَّ ذلك يُشعره بالحرج وعدم الارتياح، وينبغي التريُّث إلى أن يأذن الياباني بهذا المستوى من رفع الكلفة[10]، وهذه النصيحة نفسها يُسديها كيفين كيتنج لمن أحبَّ أن يزور كوريا؛ إذ إنَّ الاسم الأوَّل لا يُستخدم إلَّا بين الأصدقاء والمقرَّبِينَ وتحت ظروفٍ محدَّدة، وأيُّ مخالفةٍ لهذا يُعَدُّ سلوكًا بعيدًا عن الذوق والأدب، وربَّما يُعَدُّ سلوكًا عدوانيًّا[11]، كما يُسدي النصيحةَ ذاتها تشارلز ميتشل لمن يحبُّون أن يتعاملوا مع الروس[12]، وكذلك جيني لي لمن يتعامل مع الصينيِّين[13].
درجة الصوت:
في اليابان كما في كوريا يتميَّز الكلام عمومًا بالرقَّة والتهذُّب، ويُعتبر الصياح وارتفاع الصوت دليلًا على فقدان السيطرة على النفس[14]، وليس هذا ببعيدٍ عن الضيق الذي يشعر به الإنجليز من الصوت المرتفع ومن الثرثرة؛ باعتبارهما مصدري ضوضاء[15].
هذا في الوقت الذي يُمَثِّل الصوت العالي في الحوار شيئًا طبيعيًّا لدى كثيرٍ من الأفارقة، وعند البدو وأهل الصحراء، بل ربَّما عُدَّ الصوت الخفيض نوعًا من الضعف أو الجبن أو الخجل غير المحمود؛ لذا فالتقاء هؤلاء وحوارهم لا يُمَثِّل مشكلة، بينما التقاء ذوي الصوت الخفيض مع ذوي الصوت العالي يُمَثِّل أزمة -قد تكون بالغة- لكليهما.
زيارة الصديق:
ويتوجَّب على الزائر لبيت صديقه في روسيا أن يخلع حذاءه عند عتبة الباب، وسيُقَدِّم له الضيف زوجًا من الشباشب المنزليَّة؛ يلبسها داخل البيت[16]، وإنَّ هذه العادة نفسها موجودةٌ -أيضًا- عند اليابانيِّين[17].
النكتة:
ويحسُن بك إذا كنت في اليابان أو كوريا أو الصين ألَّا تُحاول إلقاء نكتةٍ أو مزحة؛ فهي -عادةً- لا تُفهم؛ لأنَّه من المستحيل ترجمة الكلام ذي المعنيين -خاصَّةً إلى مثل هذه اللغات- بشكلٍ صحيح؛ لذا فقد تحدث الكارثة وتُفهم النكتة بشكلٍ حرفي[18].
أمَّا إذا كنتَ في روسيا أو في مصر فمن الطريف والمحفِّز لإنشاء علاقةٍ طيِّبةٍ أن تُلقي النكتة مع أيِّ أحد، ويبدو هنا مظهر تشابهٍ بين الروس وبين المصريِّين؛ فكلا الشعبين يمتاز برُوح الدعابة، ومثلما هو الشأن في حالة المصريِّين يُحبُّ الروس إطلاق النكات على بلدهم، إلَّا أنَّهم لا يقبلون أن يفعل الأجنبي هذا الأمر[19].
ما وراء الكلام:
حين يُنصت الكوري أو الياباني إليك ثم يُرَدِّد: "نعم (Hai)". فإنَّها لا تعني أنَّه موافق، ولكن تعني أنه ما يزال مستمعًا لك ويتفهَّم ما تقول، وهم حريصون دائمًا على تجنُّب كلمة (لا)، أو وصف الشيء السيِّئ بشكلٍ مباشر؛ ولذا فإنَّهم يستعملون الجمل الطويلة، التي توصل المعنى بشكلٍ غير مباشر[20]، ويقترب منهم في هذا الشعب الصيني الذي يتبنَّى أسلوب المعنى بين السطور؛ فالمعنى الحقيقي في الحوار -سواءٌ كان سلبيًّا أو إيجابيًّا- يُقال -دائمًا- بشكلٍ ضمنيٍّ وبأسلوبٍ غير مباشر، والأشياء التي لم يُفصح عنها بالكلام قد تكون أكثر أهميَّةً ممَّا قيل بالفعل، وحين يُقال: "سنقوم بإجراء بعض البحث ونتناقش فيما بعد". فالمعنى أنَّ هذا العرض أو الاقتراح مرفوض، وكلمة "بحث" هنا لا تعني إلَّا "نحن لا نبالي بالموضوع"، وهم -أيضًا- يستخدمون الصمت كبديلٍ عن قول "لا"؛ لذا فإنَّ الصمت قد يعني: "ما زالت هناك مشكلات، ونحن نودُّ إعادة التفكير"[21].
الرجل والأنثى:
يُعَدُّ من مظاهر الأدب في اليابان أن تضع الفتاة أو السيِّدة يدها على فمها وهي تضحك، وهو المظهر المنتشر في البلاد العربيَّة والإسلاميَّة، خاصَّةً في المناطق التي لم تتأثَّر بالتيَّار الغربي، وهي عادةٌ تُعَبِّرُ عن خُلق الحياء أو الخجل الأنثوي الجميل، كما أنَّه من غير المستغرب أن يتزوَّج الرجل العربي من الفتاة اليابانيَّة، وكثيرًا ما يسعد بهذا جدًّا؛ لما تُبديه له الزوجة اليابانيَّة من الطاعة والاحترام الذي يصل إلى حدِّ التقديس[22].
الاحتفاء بالضيف:
وتتشابه كثيرٌ من الشعوب في الاحتفاء بالضيف وإظهار أبلغ سلوكيَّات الأدب والكرم معه، فالهولنديُّون أكثر استعدادًا لمساعدة الغريب عن باقي الأوربيِّين، فإذا ضللتَ الطريق وسألتَ أحدَهم عن العنوان الذي تقصده تَوَقَّف بترحيب، وقرأ معك العنوان باهتمام، وبذل جهده لإرشادك، وقد يترك زوجته ويسير معك بضعة أمتار ليدُلَّك على الطريق الصحيح، ولو كان وحيدًا فليس من المستبعد أن يسير معك إلى العنوان المطلوب[23]، هذا الاحتفاء -أيضًا- لا تُخطئه العين بالنسبة إلى العرب لا سيَّما أهل البادية والصحراء، وهو ملموسٌ كذلك عند المصريِّين، والكرم يسيل إليك بشكلٍ غير متوقَّع إذا دخلت لدى القبائل البدائيَّة ما داموا قد أمنوا جانبك[24]، وفي أستراليا يتعاملون مع الغريب برقَّةٍ بالغةٍ حتى في أبعد الأماكن عن المجاملات؛ فإنَّك إذا دخلت إلى بنك لتطلب تحويل أيِّ مبلغ تتقدَّم إليك السكرتيرة فتفتح الباب، ثُمَّ تسحب لك مقعدًا، وتظلُّ واقفةً حتى تجلس وكأنَّك في طائرة، ثُمَّ تذهب بك إلى الموظَّف المختصِّ، الذي يفعل الشيء نفسه ثُمَّ يُنهي لك ما تُريد، ثُمَّ يسبقك إلى الباب فيفتحه لك، ويُوَدِّعك بأدبٍ شديد. ولاحظ أنيس منصور -الصحفي والرحَّالة المصري- حين دخل محلًّا تجاريًّا كبيرًا ظلَّت إحداهن تتبعه طوال تجواله، فلمَّا لم يصل إلى الشيء الذي يُريده وهَمَّ بالخروج سألته: لِمَ لَمْ يشترِ؟ فأجابها: إنَّه لا يدري أين يُباع الصابون. فأخذته مرَّةً أخرى إلى الطابق الثالث فاشترى، ثُمَّ تبعته تُوَدِّعُه حتى الخروج[25].
وفي كوريا يقوم الكوريُّون بالابتسام إذا فُتحت الموضوعات الجدليَّة، أو أخذ الحوار شكل المواجهة؛ محاولين إضفاء مسحةٍ من السعادة في الظروف المتوتِّرة في سبيل المحافظة على الانسجام والتوافق[26]، أمَّا اليابانيُّون فيصلون في الأدب والرقَّة والاحتفاء بالغريب إلى (حدِّ التوحُّش) -كما يقول ول ديورانت- الذي يُخَفِّف من حدَّة العداوة مهما بلغ استيلاؤها على النفوس[27]، حتى لقد أعلن أنيس منصور أنَّه سيموت "من شدَّة الأدب" في اليابان[28].
آداب الإشارة:
حين تكون في كوريا فتجنَّب الإشارة إلى الشخص أو إلى الشيء بالأصابع، وأمَّا إذا اضطررتَ فبفتح الكفِّ كلِّها والإشارة إلى الأعلى[29]، وإذا كنتَ في بريطانيا فإنَّه عليك أن تستعمل كفكَّ -أيضًا- ليكون باطنه في وجه المشار إليه؛ لأنَّ الإشارة بالأصابع حتى للنادل تُعتبر من الحركات السوقيَّة الوقحة[30]، والحال نفسه بالنسبة إلى الإشارة في الصين، فلا تُشِرْ إطلاقًا إلى شخصٍ بأصبعك أو رأسك أو قدمك، وإذا أحببت أن تُشير إلى شخص فإنَّ الحركة المعتادة هناك هي مدُّ الذراع مع وضع كف اليد إلى أسفل، وتحريك الأصابع مثل حركة النبش[31].
فهذه شعوب في الشرق الآسيوي والغرب الأوربِّي تستنكر الإشارة باليد، في حين أنَّ شعوب الشرق الأدنى وأميركا الشماليَّة لا ترى أيَّ إهانةٍ في هذا الأسلوب من الإشارات، ولكنَّهم يَتَّفقون في أنَّ وضع أصبع السبابة على الشفاه يعني: "اسكت"[32].
التحيَّة والمصافحة:
في اليابان لا مجال للسلام باليد، والتحيَّة تكون بالانحناء مع وجود مسافةٍ مناسبة[33]؛ ذلك ما ينصح به -أيضًا- كيفين كيتنج غيرَ الكوريِّين إذا زاروا كوريا؛ إذ إنَّ الكوريِّين لا يُحبُّون التلامس الجسدي، ويشعرون إزاءه بعدم الراحة[34]، وهذا قريبٌ من الإنجليز الذين يُفَضِّلون بدورهم الابتعاد وعدم الملامسة، غير أنَّهم قد يُصافحون باليد هذه المصافحة المتحفِّظة المعروفة عنهم، ويُعَبِّر التلامس لديهم عن مرحلةٍ حميمةٍ لا يصلون إليها بسرعة[35].
والإنجليز قريبون -في هذا- من الصينيِّين الذين لا ينحنون كما يفعل اليابانيُّون، ولكنَّهم يستبدلون هذا بالمصافحة المختصرة، فيما يقترب الصينيُّون من اليابانيِّين إذا كانت المصافحة لرجلٍ أكبر في السنِّ أو أقدم في المنصب؛ لأنَّه يصحبها انحناءةٌ لطيفة، وفي حالات الودِّ والدفء يُصافح الصيني بكلتا يديه[36]، وهنا نكون قد اقتربنا من الروس والشعوب العربيَّة والإسلاميَّة؛ فيميل الروس وشعوب المنطقة العربيَّة والشعوب الإسلاميَّة عامَّةً إلى الملامسة في التحيَّة، وأقلُّها المصافحة باليد، وقد تتطوَّر حسب حميمة العلاقة إلى العناق أو التقبيل، بل ويوجد في الإسلام حثٌّ على هذه المصافحة من خلال الحديث الشريف الذي رواه البراء بن عازب t قال: قال رسول الله r: "مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا"[37]. والمسافة بين المتحدِّثَيْنِ -والحديث ما زال عن الروس- هي دائمًا قريبةٌ جدًّا، وتُعطي مظهرًا من الحميميَّة في العلاقة[38].
العمل.. العمل:
إنَّ الشعوب متشابهة إلى حدٍّ متشابك جدًّا؛ فالياباني الذي يعمل بجدٍّ واجتهاد فكأنَّه الآلة التي صنعها، يُعطي الصورة نفسها الألماني الذي يعمل مثل الآلة التي صنعها، أو ذلك الفنلندي الصارم في العمل، في حين أنَّ الياباني من بعد أوقات العمل يتحوَّل إلى الرومانسيَّة الممتعة في حياته الأسريَّة بما تحمله من تهذُّبٍ وذوقٍ رفيعٍ يُذكِّر بالفرنسيِّين حيث "الإتيكيت" والذوق والأجواء العاطفيَّة، فها نحن أمام شعبٍ يتلاقى في النهار مع آخر، ثُمَّ يتلاقى في الليل مع ثالث[39].
الهديَّة:
وفي اليابان[40] و-أيضًا- في كوريا ينتشر الإهداء في المناسبات؛ إلَّا أنَّ الهديَّة لا تُفتح في حضور الذي أهداها؛ لئلَّا يُمَثِّل هذا حرجًا له، كما أنَّ فتحها في حضوره يُشير إلى الطمع، وينبغي أن تكون الهديَّة في سعرٍ معقول؛ لكي يستطيع الذي أُهديت له أن يرُدَّها بالمثل، وإلَّا فإنَّه يعتذر عن قبولها مع الترديد المـُلِحِّ لكلمات الشعور والامتنان والتقدير[41]، وهذا التقليد نفسه الخاص بالهديَّة نجده لدى الشعب الروسي[42].
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] أديب أبي ضاهر: عادات الشعوب وتقاليدها، ص39-41.
[2] المرجع السابق، ص83-85.
[3] عبد الفتاح شبانة: اليابان.. العادات والتقاليد وإدمان التفوق، ص13.
[4] كيفين كيتنج: كوريا.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص109.
[5] عبد الفتاح شبانة: اليابان.. العادات والتقاليد وإدمان التفوق، ص26، وكيفين كيتنج: كوريا.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص112، 113.
[6] عبد الوهاب مطاوع: سائح في دنيا الله، ص75.
[7] قائمة الدول حسب استهلاك الفرد للشاي، من الموسوعة الحرة ويكيبديا.
[8] المورمون: عبارة عن مصطلح يُطلق على أتباع كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة، وهي كنيسة لها أكثر من 12 مليون عضو في العالم.
[9] مقال "لماذا لا يشرب المورمونيون القهوة".
[10] عبد الفتاح شبانة: اليابان.. العادات والتقاليد وإدمان التفوق، ص93.
[11] كيفين كيتنج: كوريا.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص97.
[12] تشارلز ميتشل: روسيا.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص111.
[13] جيني لي: الصين.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص101.
[14] عبد الفتاح شبانة: اليابان.. العادات والتقاليد وإدمان التفوق، ص93، وكيفين كيتنج: كوريا.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص103، 104.
[15] تيموثي هاربر: المملكة المتحدة.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص101.
[16] تشارلز ميتشل: روسيا.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص136.
[17] عبد الفتاح شبانة: اليابان.. العادات والتقاليد وإدمان التفوق، ص89.
[18] عبد الفتاح شبانة: اليابان.. العادات والتقاليد وإدمان التفوق، ص39، 40، وكيفين كيتنج: كوريا.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص103، 104، وجيني لي: الصين.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص123.
[19] تشارلز ميتشل: روسيا.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص120.
[20] عبد الفتاح شبانة: اليابان.. العادات والتقاليد وإدمان التفوق، ص39، 40، وكيفين كيتنج: كوريا.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص103، 104.
[21] جيني لي: الصين.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص105، 106.
[22] عبد الفتاح شبانة: اليابان.. العادات والتقاليد وإدمان التفوق، ص19، 92.
[23] عبد الوهاب مطاوع: سائح في دنيا الله، ص76.
[24] ول ديورانت: قصة الحضارة 1/94.
[25] أنيس منصور: حول العالم في 200 يوم، ص295.
[26] كيفين كيتنج: كوريا.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص105.
[27] ول ديورانت: قصة الحضارة 5/179.
[28] أنيس منصور: حول العالم في 200 يوم، ص429.
[29] كيفين كيتنج: كوريا.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص107.
[30] تيموثي هاربر: المملكة المتحدة.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص102.
[31] جيني لي: الصين.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص123.
[32] كيفين كيتنج: كوريا.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص124.
[33] عبد الفتاح شبانة: اليابان.. العادات والتقاليد وإدمان التفوق، ص87، 88.
[34] كيفين كيتنج: كوريا.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص105، 106.
[35] تيموثي هاربر: المملكة المتحدة.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص101.
[36] جيني لي: الصين.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص104.
[37] أبو داود: كتاب الأدب، باب في المصافحة (5212)، والترمذي (2727) وقال: هذا حديث حسن غريب. وابن ماجه (3703)، وصححه الألباني في التعليق على أصحاب السنن.
[38] تشارلز ميتشل: روسيا.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص111، 117.
[39] من العبارات الشائعة في علم الاجتماع أن الإنجليز باردون هادئون محافظون، بينما الفرنسيُّون عاطفيُّون رومانسيُّون يتذوَّقون الحياة باستمتاع، ويُغرمون بالعطور والفنون والأكلات، بينما الألمان صارمون متجهِّمون يعملون كالآلات. عبد الوهاب مطاوع: سائح في دنيا الله، ص102، وميلاد حنا: قبول الآخر، ص20.
[40] عبد الفتاح شبانة: اليابان.. العادات والتقاليد وإدمان التفوق، ص90.
[41] كيفين كيتنج: كوريا.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص110، 111.
[42] تشارلز ميتشل: روسيا.. دليلك إلى المعاملات التجارية والعادات وقواعد السلوك، ص137.