الــذوق:

ربَّما يكون الذوق أبرز الأخلاق السامية؛ فهو السلوك الذي لا هدف له إلَّا أن يُرَقِّق الطبع الإنساني، ويُضفي لمسة الجمال على الحياة، والذوق مرتبطٌ بالرقيِّ الحضاري دائمًا؛ ذلك أنَّ الرقي في الحضارة هو مرحلةٌ تلي مرحلة التأسيس والبناء، إنَّها مرحلة البحث عن تجميل الحياة وتحسينها في الفنِّ والأدب والبناء، حتى في شكل المنتجات الصناعيَّة، ولا بُدَّ أن تشمل هذه اللمسة مجال السلوك الإنساني، وبإمكاننا أن نرى مستوًى عاليًا من التهذيب في المعاملات، مهما بلغ جوهر هذه الحضارة من الجديَّة والعنف واعتصار الإنسان، كما في الرأسماليَّة الحديثة.

وفي نصيحةٍ من تراث المصريِّين القدماء نقرأ كثيرًا من مظاهر الذوق واللطف؛ مثل: "إذا وجدتَ رجلًا يتكلَّم، وكان أكبر منك وأشدَّ حكمة، فأصغِ إليه، واحْنِ ظهرك أمامه... وإذا وجدتَ رجلًا مساويًا لك يتجادل، وأثار حديث السوء فلا تسكت، بل أظهر حكمتك وحُسن أدبك؛ فإن الكلَّ سيُثْنُون عليك، وسيحسن ذكرك عند العظماء. إذا وجدتَ رجلًا يتكلَّم وكان فقيرًا؛ أي: ليس مساويًا لك، فلا تحتقره لأنَّه أقلُّ منك، بل دَعْه وشأنه، ولا تحرجه لتُسِرَّ قلبك، ولا تصبَّ عليه جامَّ[1] غضبك... عندما تجلس إلى مائدة أحد الكبراء فخُذْ -إذا أعطاك- ممَّا هو موجودٌ أمامك، ولا تنظر إلى ما وُضع أمامه، بل انظر إلى ما وُضع أمامك أنت، ولا تصوِّب إليه نظراتك الكثيرة؛ لأنَّ النفس تشمئزُّ عندما يصطدم المرء بها، وغضَّ من بصرك حتى يُحَيِّيَك، ولا تتكلَّم إلَّا إذا حيَّاك، اضحك عندما يضحك؛ فإنَّ هذا يُبهج قلبه، ويجعل ما تفعله مقبولًا لديه؛ لأنَّ الإنسان لا يعلم ما في القلب"[2].

ولقد كان الفرس يتحلَّوْنَ بالصراحة والكرم وحفظ الودِّ وسخاء اليد، يُراعون آداب المجالس ويحرصون عليها حرصًا لا يكاد يقلُّ عن حرص الصينيِّين، وكانوا إذا تقابل منهم شخصان متساويان في المرتبة تعانقا وقَبَّل كلٌّ منهما الآخر في شفتيه؛ فإذا قابل الواحد منهم مَنْ هو أعلى منه منزلةً انحنى له انحناءةً كبيرةً تُشعر بالخضوع والاحترام، وإذا التقى بمَنْ هو أقلَّ منه قدَّم له خدَّه ليُقَبِّله، فإذا قابل أحد السوقة اكتفى بإحناء رأسه، وكانوا يستنكرون تناول شيءٍ من الطعام أو الشراب على قارعة الطريق، كما يسوءهم أن يبصق الإنسان أو يتمخَّط أمام الناس[3].

واليابانيُّون حتى الآن نموذجٌ مثاليٌّ في أخلاق الذوق، حتى اللغة اليابانيَّة قلَّ أن يدخلها لفظٌ فاحش، وتَرَاهم يُكْسَوْن بغطاء ظاهري من التواضع احترامًا للنفس يبلغ -في رأي ديورانت- "حدَّ التوحُّش"، وآداب السلوك قد تبلغ من رقَّتها حدًّا يلطف من حدَّة العداوة مهما بلغت من استيلائها على النفوس[4].

والمدن الأوربيَّة في مجملها نموذجٌ من النظام والرقي وانتشار الابتسامة بين الجمهور، والحفاظ على هدوء المكان، والالتزام بالتعليمات والإرشادات البيئيَّة، والتجاوُز الظريف لما يُمكن أن يحدث من اصطدامٍ غير مقصودٍ بين شخصين أو سيَّارتين أو ما شابه، حتى حين يُريد صاحب العمل طرد أحد موظَّفيه فإنَّه يفعل هذا بكلِّ ما يُمكنه من تهذُّب، ما أجمل هذه الطباع الحضاريَّة! لولا قليلٌ من مظاهر عنصريَّةٍ حينًا، وغلبةٍ لتطرُّفِ مصطلحاتِ السوق الماليَّة على السلوك الأخلاقي حينًا آخر.

ونجد في الإسلام كَمًّا كبيرًا من التعاليم في جانب الذوق هذا؛ فمن الوصايا القرآنيَّة قوله سبحانه وتعالى: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان: 18، 19]. وإذا كان لا بُدَّ من الجلوس في الطرقات فلا بُدَّ من أداء "حقِّ الطريق"؛ وهو -كما بَيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم- "غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ"[5]. وكَانَ صلى الله عليه وسلم إِذَا عَطَسَ وَضَعَ يَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ عَلَى فِيهِ، وَخَفَضَ بِهَا صَوْتَهُ[6]. كما كان صلى الله عليه وسلم إذا صافح رجلًا لم يترك يده حتى يكون هو التارك ليدِ رسول الله[7]، ونهى صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل بين الرجلين إلَّا بإذنهما[8]. ومن وصاياه صلى الله عليه وسلم قوله: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا"[9]. وإننا لنقرأ في سُنَّتِه صلى الله عليه وسلم أنه "لا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لا يَشْكُرُ النَّاسَ"[10].

ونقرأ في القرآن الكريم: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114]، فمن اللافت للنظر أنَّ الآية أدانت ليس فعل الإفساد فحسب، بل أدانت الكلام في غير الإصلاح والمعروف، وأعلنت أنَّ الخير في الاجتماع والتداول والتباحث في هذه الأمور، ثُمَّ من اللافت للنظر أنَّ هذه الأمور مطروحةٌ لجميع الأمم ليس للمسلمين فقط؛ لأنَّ الآية تُعَقِّب بعد ذلك بالأجر والثواب العظيم لمن يفعلها ابتغاء مرضاة الله وحده، بما يعني أنَّ الخير في فعلها، ولو اختلفت النوايا لدى الفاعلين.

المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.

[1] الجام: إناء للشراب والطعام، ويقال: صب عليه جامه، غضب عليه واستفزه. المعجم الوسيط 1/149.
[2] كمال محرم: الحكم والأمثال والنصائح عند المصريين القدماء، ص29-31.
[3] ول ديورانت: قصة الحضارة 2/439.
[4] المرجع السابق 5/179.
[5] البخاري: كتاب المظالم، باب أفنية الدور والجلوس فيها والجلوس على الصعدات (2333) عن أبي سعيد الخدري، ومسلم: كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن الجلوس في الطرقات وإعطاء الطريق حقه (114).
[6] أبو داود: كتاب الأدب، باب في العطاس (5029) عن أبي هريرة، والترمذي (2745) وقال: حسن صحيح. وأحمد (9660)، والحاكم (7796)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4755).
[7] الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2490)، وابن ماجه (3716)، وابن حبان (6435)، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (2485).
[8] أبو داود: كتاب الأدب، باب في الرجل يجلس بين الرجلين بغير إذنهما (4844) عن عبد الله بن عمرو، والترمذي (2752)، وأحمد (6999)، وصححه الألباني. انظر: السلسلة الصحيحة (2385).
[9] أبو داود: كتاب الأدب، باب في الرحمة (4943)، والترمذي (1919) واللفظ له عن أنس بن مالك، وقال الترمذي: هذا حديث غريب. وأحمد (6733)، والحاكم (421).
[10] أبو داود: كتاب الأدب، باب في شكر المعروف (4811) عن أبي هريرة، والترمذي (1954)، وقال: حديث حسن صحيح. وأحمد (7495)، وابن حبان (3407)، وحسنه الألباني. انظر: صحيح الجامع (3014).