السياحة.. للتعارف:
بنظرة سريعة إلى الدول التي تحتلُّ المقام الأوَّل في حركة السياحة، سنجد أنَّ هذه الدول هي نفسها الدول الأكثر تسويقًا لنفسها وقِيَمِها وحضارتها وخصوصيَّاتها، وسنرى في كثيرٍ من التجارِب نماذج إبداعيَّة في صُنْع معالم سياحية، ثُمَّ تسويقها وجذب الناس إليها.
وليس أدل على ذلك من النظر إلى ترتيب أشهر المعالم السياحيَّة في العالم، وسنرى أنَّها ليست آثارًا تاريخيَّة، بل معالم حديثة، أو مناطق طبيعيَّة تمَّت تهيئتها ثُمَّ تسويقها لتكون منطقة جذبٍ سياحيَّة، فطبقًا لإحصائيَّة عام 2007م تأتي ساحة التايمز في نيويورك في المركز الأوَّل، يتلوها المنتزه القومي في واشنطن، ثُمَّ منتجع والت ديزني في ولاية أورلاندو، وكلُّ هذه الأماكن تقع في أميركا، التي لا تحوي أيَّة آثار أو معالم تاريخيَّة، ثُمَّ تأتي ساحة ترافلجار في لندن، ثُمَّ ديزني لاند في كاليفورنيا بأميركا، ثُمَّ شلالات نيكاراجوا في كندا، ثُمَّ جسر البوابة الذهبية في سان فرانسيسكو بأميركا، ثُمَّ ديزني لاند طوكيو في اليابان، ثُمَّ كاتدرائية نوتردام ويورو ديزني وكلاهما في باريس بفرنسا[1].
فقط مكانٌ واحدٌ من التاريخ يأتي في العشرة أماكن السياحية الأولى في العالم، يأتي في المركز التاسع، وهو كاتدرائيَّة نوتردام في باريس، وهذا ما يُؤَكِّد أنَّ الدول التي اهتمَّت لتسويق حضارتها وقيمها وإثراء اقتصادها قد تجاوزت التحدِّي التاريخي، الذي حرمها من تاريخ ومن معالم أثريَّة ومزارات دينيَّة، فصنعت بنفسها ما يكون بديلًا عن كلِّ هذا، ونجحت بالفعل.
غير أنَّ المعالم التاريخيَّة والمزارات الدينيَّة ما زالت تضع البلاد التي تحتويها في مصافِّ الدول السياحيَّة الأكثر زيارة على مستوى العالم، وفي إحصائيَّة منظمة السياحة العالميَّة الصادرة في 2008م تأتي فرنسا في المركز الأوَّل تليها إسبانيا، ثُمَّ أميركا، ثُمَّ الصين، ثُمَّ إيطاليا، ثُمَّ بريطانيا، ثُمَّ ألمانيا، ثُمَّ أوكرانيا، ثُمَّ تركيا، ثُمَّ المكسيك[2].
وفي هذا التصنيف السابق نرى أميركا كشذوذ بين الدول الأكثر زيارة؛ حيث إنَّها الوحيدة التي لا تحتوي آثارًا تاريخيَّة قديمة، أو مزارات دينيَّة، فيما تأتي بقيَّة الدول لتُعيد عرض تاريخها ومعالمها الحضاريَّة القديمة، ففرنسا أهمُّ البلاد الكاثوليكيَّة في أوربا، وإسبانيا جمعت بين الحضارتين الرومانيَّة ثُمَّ الإسلاميَّة، وتزخر أرضها بالقصور والحصون الحافلة بفنِّ العمارة القوطي والإسلامي، والصين هي قلب الحضارة الصينيَّة العريقة، وإيطاليا هي المتحف الروماني الكبير المفتوح في الميادين والشوارع، وهي التي بدأ منها فجر النهضة الأوربيَّة الحديثة، وأخرجت أهم النحاتين والرسامين في هذا العصر.
السياحة في العالم العربي والإسلامي:
ومن كلِّ ما سبق نستطيع أن نُضيف إلى أسباب الجهل العالمي بالعالم العربي والإسلامي، تقصير هذه البلاد في استثمار مناطقها السياحيَّة، حتى فيما يخصُّ السياحة الداخليَّة أحيانًا، فكثيرٌ من المعالم الإسلاميَّة تُعاني من الإهمال، بل كثيرٌ منها مهدَّدٌ بالسقوط والانهيار؛ وعلى سبيل المثال فإنَّ مسجد أولو ديفري الذي بناه السلاجقة في تركيا على الرغم من أنَّه مسجَّلٌ في قائمة الآثار العالميَّة في منظمة اليونسكو فإنَّه يُعاني من التشقُّقَات والإهمال، هذا مع أنَّه يتميَّز ببعض سماتٍ فريدة؛ إذ بُنِي الباب الغربي فيه بطريقةٍ تجعل الظلَّ المتشكِّل من سقوط أشعة الشمس عليه تكون على هيئة رجلٍ يقرأ القرآن، يتشكَّل هذا الظلُّ قبل صلاة العصر من كلِّ يوم، ولمدَّة ربع ساعة طوال فصل الصيف، والمسجد هو في الأساس مسجد ومستشفى للأمراض العقليَّة، ومن العجيب أنَّ زخارفه الكثيرة جدًّا صُمِّمَتْ بطريقةٍ تُداعب الخيال البصري، فمن بَعِيدٍ تشعر أنَّ الزخارف متناظرة، حتى إذا دقَّقتَ فيها وجدتَ أنَّه لا تُوجد زخرفةٌ تُشبه الأخرى في كلِّ المسجد[3].
وأسوأ من هذا حالًا ما يكون من تجاهل الأثر؛ فالمدرسة العامريَّة في اليمن التي بناها السلطان عامر الطاهري عام 910هـ تُمَثِّل مَعْلَمًا مهمًّا جمع في فنونه المعماريَّة بين الطراز العثماني والمغربي والفارسي، وكانت المدرسة معلمًا حضاريًّا ومركز إشعاعٍ دينيٍّ وثقافي، وكانت مقرَّ حكم السلطان عامر، وعلى الرغم من هذا التاريخ والتأثير ظلَّ هذا الأثر قرونًا يُعاني من التجاهل، حتى اكتُشف في عام 1983م، فبدأت أعمال ترميم استغرقت 22 عامًا، وانتهت في 2005م، ثُمَّ فازت بجائزة مؤسَّسة الأغاخان العالميَّة في العمارة الإسلاميَّة[4].
مثل هذه المعالم الفريدة والمجهولة للعالم؛ بل لكثيرٍ من المسلمين أنفسهم، تُسهم إذا أُحسن استغلالها في حركة النشاط السياحي التي تُمَثِّل بدورها أسلوبًا ممتازًا للتعارف بين البشر متعدِّدِي الثقافات والحضارات والأذواق، فيُشاهدوا نمطًا آخر من السياقات والخصوصيَّات الحضاريَّة والتاريخيَّة، وقد تكون زيارات لها ما بعدها؛ فتحكي ليلى قنديل -النقيبة السابقة للمرشدين السياحيِّين بمصر- عن أستاذٍ جامعيٍّ بلجيكي أسلم بعد زيارةٍ قام بها إلى مساجد القاهرة، وحصوله على نسخةٍ مترجمةٍ لمعاني القرآن الكريم[5]، وأسلمت سائحة كنديَّة بعد مشاهدتها لعمَّال مسلمين في الفندق السعودي يُصَلُّون، ثُمَّ أثار هذا المشهد فضولها المعرفي فقرأت حتى أسلمت[6].
وأهمُّ الكتب المنصفة التي كتبها غير المسلمين كانت بعد سياحةٍ ومشاهداتٍ في العالم الإسلامي، ومعايشةٍ لهذه الشعوب المسلمة، ومن أشهر هؤلاء محمَّد أسد (ليوبولد فايس سابقًا) بعد حياةٍ في جزيرة العرب ثُمَّ في المغرب العربي، فأسلم ثُمَّ كتب (الطريق إلى مكَّة) و(الإسلام على مفترق الطرق)، وكذلك مراد هوفمان السفير الألماني في المغرب وغيره من البلاد الإسلاميَّة أسلم -أيضًا- وكتب: (الإسلام كبديل) و(الرحلة إلى مكَّة) وغيرها، ومنهم مَنْ لَمْ يُسلم، لكنَّه لَمَّا تعارف وتعايش في البيئة الإسلاميَّة اكتسب نظرةً جديدة؛ منهم -مثلًا- رونالد فيكتور بودلي الذي تأثَّر بحياة البدويِّين وكتب (الرسول، حياة محمَّد)، وكذلك الكاتبة البريطانيَّة الشهيرة كارين أرمسترونج التي بعدما زارت سمرقند وشاهدت روحانيَّات المباني الإسلاميَّة في آسيا الوسطى، تغيَّرت نظرتها إلى المسلمين، ثُمَّ كتبت (سيرة النبي محمَّد)، والنماذج كثيرة جدًّا لا يستوعبها المقام، ولكن الشاهد المقصود هو أنَّ السياحة كانت البداية للتعارف على الإسلام وحضارته وأبنائه.
ولكن على الرغم من أنَّ العالم العربي -وخاصَّة قلبه الشرقي- كان أرض النبوَّات والأديان، كما كان أرض التاريخ العريق وأرض الحضارات الأولى في التاريخ البشري المعروف، وهو ما يعني امتلاءها بالمشاهد والمزارات والمعالم التي تستهوي الناس من مختلف مناطق العالم، إلَّا أنَّ الواقع لا يُؤَيِّد هذا الافتراض.
فحصَّة السياحة لهذه المنطقة بلغت في عام 2001م حوالي 22 مليون سائح فقط، بما يُمَثِّل 3% من حركة السياحة العالميَّة، وعند الحديث عن المدخولات السياحيَّة، نجد أنَّ -ومن أصل الرقم البالغ 462 مليار دولار، الذي يُمثل مجموع مدخولات السياحة في 2001م- مدخولات المنطقة بلغت 11 مليارًا فقط؛ أي: أقل من 2,5%، وذلك في الوقت الذي تتوقَّع فيه منظمة السياحة العالميَّة وجميع خبراء السياحة في العالم أن تكون منطقة الشرق العربي هي المنطقة الأكثر جذبًا للسياحة في العالم على الإطلاق، ويُمكن لنا بعد ذلك أن نُدرك حجم التقصير الذي نحن بصدده[7].
هذا التقصير يكشفه تقرير منظمة السياحة العالميَّة؛ ففي قائمة الدول الأكثر زيارة على مستوى العالم نجد اختفاء الدول التي تمثِّل قلب الحضارات من هذه القائمة، وتأتي السعوديَّة في المركز الأوَّل عربيًّا والحادي والعشرين عالميًّا؛ إذ يُقَدَّرُ عدد زائريها بأحد عشر مليونًا ونصف سنويًّا[8]، وهو عددٌ في غاية الضآلة، إذا ما وضعنا في الاعتبار أنَّها تحتوي على الأماكن المقدَّسة، التي يحجُّ إليها المسلمون ويعتمرون؛ أي: إنَّها لا تبذل مجهودًا في جذبهم أو الدعاية لها.
ثُمَّ تأتي مصر في المركز الثاني عربيًّا والثالث والعشرين عالميًّا، فزوَّارها 10,6 مليون سنويًّا[9]، وهو -أيضًا- عددٌ قليلٌ إذا وضعنا في الاعتبار أنَّها البلد الوحيد الذي يحتوي آثار حضارة الفراعنة القدماء، وهي من أعظم الحضارات في كلِّ العصور القديمة، ثُمَّ تحتوي بعضًا من حضارة اليونان والبطالمة، لا سيَّما في العاصمة القديمة الإسكندريَّة، ثُمَّ أكثر من ألف عام من الحضارة الإسلاميَّة التي كانت فيها القاهرة واحدة من أهم المدن الإسلامية كبغداد وقرطبة.
ثُمَّ تختفي الدول العربيَّة حينًا لتظهر المغرب في المركز 31، والإمارات في المركز 32، ثُمَّ تونس في المركز 34، وهكذا لا نجد سوى خمس دولٍ عربيَّةٍ فقط بين الدول الخمسين الأولى سياحيًّا، وبهذا فلا عجب أن ينتشر الجهل بالعالم العربي وحضارته وثقافته عالميًّا؛ ومن ثَمَّ فلا بُدَّ لنا أن نُفَكِّر في تنمية هذا المشترك الداعم؛ إذا أردنا أن ننشر قيمنا وحضارتنا وثقافتنا في أنحاء العالم فنُقَدِّم الصورة الصحيحة في مقابل الصورة المشوَّهة المترسِّخة.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] الموسوعة الحرة العالمية "ويكيبيديا".
[2] تقرير منظمة السياحة العالمية الصادر في يونيو 2008م، ص10.
[3] تقرير الجزيرة نت بتاريخ 7/9/2009م.
[4] جريدة المؤتمر اليمنية 20/6/2005م.
[5] تحقيق صحفي بعنوان: "في مصر.. المساجد الأثرية مراكز لدعوة السائحين"، منشور في موقع إسلام ويب بتاريخ 10/6/2002م.
[6] جريدة الرياض السعودية 5/12/2008م.
[7] طالب الرفاعي: البعد الاقتصادي والثقافي للسياحة في الأردن، منشور بكتاب: قواعد وآفاق التحديث في الأردن، مراجعة: منذر واصف المصري، ص175.
[8] تقرير منظمة السياحة العالمية الصادر في يونيو 2008م، ص10.
[9] المرجع السابق، الصفحة نفسها.