تعرف الاسطورة عادة بانها وسيلة للهروب من مواجهة واقع مرير ودعوة لالغاء العقل وافساح المجال لسيادة الظلم. وفي الشعر تعرف بانها "اٍحكام دقيق لعمليات التوليد الذهنية بوقائع تتمثل في الوصف لبنية القصيدة عبر الاجابة على اسئلة تقتضي التمييز بين هذه التصورات المختلفة للبنية الاسطورية"
وحتى لو كانت الاسطورة احد اهم منجزات الروح الانسانية التي عجز العلم تحليل كنهها وتفسيرها كما يقول صمويل نوح كريمر في كتابه "اساطير العالم القديم", فانها تبقى خارج اطر الاسس العقلية والمنطقية.
وبالرغم من انها عادة ما تكون مستمدة من واقع خيالي الا انها كانت الوسيلة الوحيدة لخلق صورة اكثر اشراقا تخلد للاجيال اللاحقة. وكانت وسيلة لتضليل العامة والتغطية على الانظمة المستبدة. ومع التقادم وكثرة التداول تتحول الاسطورة وكأنها حقيقة.
وليس هذا فحسب, بل ان الانظمة المستبدة كانت تلجأ الى شخصيات تاريخية او مقدسات المجتمع لتحورها وتنسج من خلالها الاساطير لتخدير المجتمع واضفاء جو من القداسة على كل ما تقوم به. وكانت للشخصيات الدينية المقدسة الدور الابرز في هذه اللعبة. فالكنيسة في العصور الوسطى المظلمة استغلت اسم السيد المسيح عليه السلام للسيطرة والتحكم في المجتمعات الاوربية والمجتمعات المسيحية. ولم يكن الاسلام ببعيد عن ذلك, اذ وضفت الخلافات المتعاقبة على الحكم الاسلامي النص الديني لمصالحها الشخصية ولارساء دعائم ملكها وخلافتها. فالدولة الاموية كانت ترى في نفسها ـ ومن خلال نصوص دينية تروى عن الرسول وتأويلات للايات القرانية ـ انها السلطة الوحيدة الشرعية لادارة شؤون الاسلام والمسلمين. وكذلك الحال بالنسبة للخلافة العباسية والخلافات اللاحقة. وقد وصل الامر بقداسة مصطلح "الخليفة " الى حد فاق معه قداسة "الرسول" واصبح مجرد الانتقاد لمنصب الخليفة جريمة تفوق جريرتها الاعتداء على الاسلام ذاته.
وهذا ما دعى المفكرين والكتاب والمثقفين بما فيهم الادباء الى رفض الدين "الاسطوري" والدين المسيس لاغراض شخصية. فالدكتور علي شريعتي وفي حالة نقد ذاتي في كتابه المسمى بـ "الامام علي" ينتقد التشيع لعلي الاسطوري الخرافي الذي بامكانه ـ وهو طفل رضيع ـ ان يخرج يديه من القماط ليقتل افعى ارعبت كل قريش ولم يستطع عليها احد سواه!
وكذلك عندما يقول ادونيس "لا الله اختار ولا الشيطان" انما هو يرفض الله المتعدد الذي لا وجود له ولا يظهر الا عندما تكون هناك مصلحة ما. فهو يرفض الدين الذي يسخر لخدمة ناس دون اخرين ولسيطرة طبقة معينة على الاخرين.
ولم يقتصر استخدام الاساطير على الطبقة الحاكمة والمسيطرة على زمام الامور. بل حتى الانسان المضطهد كان يجد في الاسطورة والخيال وسيلة للتنفيس عن نفسه مما يعانيه من خيبة وحرمان وظلم. فكانت وما زالت البطولات ـ وبنوع من الخيال ـ حاضرة وبقوة في مختلف مجالات الادب لدى الشعوب. فحرب اكتوبر في مصر مثلا, وبالرغم من انني لا اراها قد حقققت شيئا تستحق به كل هذا التخليد ما زال حتى اليوم تتفاخر بها الاجيال من كل طبقات المجتمع المصري. والسبب انهم رأوا في هذه الحرب المتنفس الوحيد لكل الهزائم الذي تعرض لها المصريون ـ بل والعرب جيمعا ـ على يد اسرائيل وليدة البارحة.
الاسطورة والشعر
من هنا كانت الحاجة ملحة الى توظيف الاساطير كمادة اولى للشعراء. ومنذ انطلاقة الشعر كانت الاساطير في النسغ في كتابة وبلورة القصيدة الشعرية. وبحسب الدكتور ابراهيم عبد الله العتيق فان الشاعر يجد في الاسطورة ما يعينه على التعبير عن رأيه وموقفه الديني والسياسي ومجابهة واقعه. فالاسطورة بمثابة الدم الذي يروي عروق الشعر ويبث فيه الحياة.
وبحسب العتيق فان دخول الاسطورة في الشعر انطلق من كتاب "الغصن الذهبي" للسير جيمس فريزر الذي يعتبره المصدر الاول في الادب المعاصر. الا ان هذا الكلام ليس دقيقا بما فيه كفاية, اذ انه حتى السير فريزر لم يتمكن من جمع الاساطير في كتابه المذكور وشرح معانيها دون اللجوء الى الشعر القديم. فلا يمكن ان نتغافل عن ان الاسطورة كانت بداياتها من الملاحم ـ وهي اللبنة الاولى في بناء الادب والخطوة الاولى في المسيرة الشعرية ـ و التي كانت تكتب لتخليد وتمجيد الهة الحضارات الغابرة.
نعم, يمكن ان يكون كلام الدكتور العتيق مقبولا فيما لو كان يعني الادب والشعر العربي. فالاسطورة لم تستخدم في الشعر العربي الا في مرحلة متأخرة نوعا ما. والسبب في ذلك يرجع الى امرين:
الاول: ان التاريخ العربي حافل بالاحداث والتغييرات التي استعملت لتكون المادة الاولى للشعر العربي. وليس هذا فحسب فمدح الافراد ـ وخصوصا اصحاب المقامات الرفيعة في المجتمع ـ او هجاؤهم يعد من اهم موارد الدخل للشعراء. لذلك كان للشعراء ما يغنيهم عن استخدام الاساطير في قصائدهم.
الثاني: ان منشأ الاساطير هي الحضارات غير العربية كاليونانية والرومانية. والمعرفة بتاريخ تلك الحضارات كانت شبه معدومة عند العرب, فلم يكن ـ تقريبا ـ هناك اي نوع من الاتصال بين العرب وبين تلك الحضارات.
ويعد فتح مصر من قبل المسلمين النواة الاولى لتعرف العرب على ما تخفيه تلك الحضارات من علوم ومعارف واسرار. ومع هذا فقد تأخر نقل تلك العلوم من تلك الحضارات الى العالم العربي حتى الخلافة العباسية التي ساهمت وشجعت على ترجمة الكثير من الاعمال ومن شتى العلوم ـ بما فيها العلوم الادبية والفلسفية ـ ونقلها الى العربية.
وبالرغم من ذلك فلم تخالج الاساطير الشعر العربي الا من خلال بعض محاولات ليست بذات اهمية حتى بزوغ نجم الشعر الحر. والفضل في تطور استخدام الاساطير في الشعر يرجع في الواقع الى علمي ورائدي الشعر العربي الحر من بلاد الرافدين بدر شاكر السياب وادونيس من بلاد الشام. ويعد كل من العراق وسوريا مسرحا للكثير من الاساطير. فاسطورة الاله تموز والالهة عشتار من اساطير العصر البابلي لعبت دورا هاما في قصائد السياب حتى قيل ان قصيدته الشهيرة "انشودة المطر" تدور احداثها ضمن اطار اسطورة تموز وعشتار.
وادونيس الاخر اختار هذا الاسم تشبها بالاله تموز الذي يسمى ادونيس في اليونانية, في مقابل عشتار التي تسمى بدنيس فينوس. فاعتبر نفسه ادونيس واعتبر احدى الجرائد التي رفضت نشر شعره انذاك بالخنزير البري الذي قتله. وقد كتب قصيدة بهذا المعنى وارسلها الى الجريدة ذاتها موقعة باسم "ادونيس" وليس باسمه الحقيقي, علي احمد سعيد, لتنشر القصيدة ويليلها نشر خطاب من الجريدة تطلب من الشاعر الاتصال بها. وقد تكرر بعدها, وبعد ان نال ادونيس الشاعر شهرة عالمية, ذكر قصة الاله ادونيس اكثر من مرة في قصائده. الا انه في كل يستخدم اسلوبا تعبيرا مختلفا تماما عن سابقه.
وفي قصيدته المعروفة باسم "المسيح بعد الصلب" يتقمص بدر شاكر السياب شخصية السيد المسيح عليه السلام. فيقول السياب في مطلع القصيدة:
والصليب الذي سمروني عليه طوال الاصيل
لم تمتني. وانصتًّ, كان العويل
يعبر السهل بيني وبين المدينة
مثل حبل يشد السفينة
وقصة المسيح التي اندمج الواقع فيها بالخيال والحقيقة بالاسطورة انما دارت احداثها على ارض فلسطين التي كانت جزءا من سوريا القديمة.
الاسطورة في شعر بدر شاكر السياب
منذ بزوغ نجم شعره راح السياب ينقب بين اساطير الماضي ليبسلها ثوب الحاضر وليجد فيها الاسلوب الذي يشد اليه ذهن القارئ انبهارا بما تجود به قريحة السياب الشعربية. وما يميز شعر السياب انه يترك القارئ في حالة من الحيرة والغموض ويترك الباب مفتوحا على مصراعيه لكل الاحتمالات والتخيلات. ولو اخذنا مثلا قصيدة "انشودة المطر" والتي يبدأها بـ :
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
او شرفتان راح ينأى عنهما القمر
فمن الوهلة الاولى يتخيل القارئ ان الابيات للغزل. فقد يكون مراد الشاعر بتشبيه العينين بغابتي نخيل شدة سوادهما. الا انه ايضا قد يكون مراده الخوف والقلق. فالمعروف ان بستاين النخيل كثيرا ما نسجت حولها الاساطير المرعبة وانها مسكونة من قبل مخلوقات اسطورية لا تنشط ولا تظهر الا في الليل, خصوصا ما بين منتصف الليل وظهور الفجر.
ثم السؤال من هي صاحبة العينين هذه؟ ما علاقتها بالشاعر؟ وطبعا لا جواب من الشاعر ولا يتضح الجواب الا من خلال تكملة القصيدة. فالشاعر في حالة رثاء لوضع العراق انذاك ـ والذي يشابه الوضع القائم الان ـ. وضع مأساوي على كل الاصعدة سواء السياسية, الاقتصادية او الاجتماعية.
كما ابدع السياب في استغلال الشخصيات التاريخية وتحويلها الى اسطورية. فتقمص ـ كما مر انفا ـ شخصية السيد المسيح عليه السلام في "المسيح بعد الصلب". واذا ما اردنا تحليل هذه القصيدة فاننا نجد مشهدان متناقضان يصورهما لنا الشاعر في المقطع الاول من القصيدة والذي يقول فيه:
والصليب الذي سمروني عليه طوال الاصيل
لم تمتني. وانصتًّ, كان العويل
يعبر السهل بيني وبين المدينة
مثل حبل يشد السفينة
وهي تهوي الى القاع, كان النواح
مثل خيط من النور بين الصباح
والدجى في سماء الشتاء الحزينة
والمشهد الاول هو الذي يعكس الم الشاعر واحساسه بما تعرض له السيد المسيح من معاناة, سواء كانت معاناة بسبب التعذيب والتنكيل به او معاناة كان سببها رفض دعوته بهذه الصورة المزرية.
واما المشهد الثاني والذي يتضح جليا من اول سطر في القصيدة "والصليب الذي سمروني عليه طوال الاصيل لم تمتي" هو في الواقع مشهد اجلال وتعظيم لبطولة وجلد وصبر السيد المسيح. فبالرغم من الصليب ومن كل انواع التعذيب الا ان المسيح بقي حيا خالدا حتى هذه الساعة. واما الذين وقفوا ضده وحاولوا اخماد صوته فلم يذكرهم التاريخ الا من خلال ما يُذكر به المسيح.
ويتكرر مشهد الاعجاب مرة اخرى وفي مقطع اخر عندما يقول الشاعر:
ثم فجرت نفسي كنوزا فعريتها كالثمار
الى قوله:
حطم السور بيني وبين الاله
ومع هذا, فالابيات لا تخلو من الابهام والتعقيد الذي اعتدنا عليه في قصائد السياب. فكيف احس السياب بمعاناة المسيح حتى صار يتكلم بلسانه وهو لم يعش يوما اي نوع من معاناة السيد المسيح؟! بل ان السياب في بعض ابيات القصيدة اعتبر نفسه المسيح. ويتضح ذلك عندما يذكر "جيكور" وهي القرية التي ولد فيها السياب.
ثم ما هي العلاقة بين النواح وهو الذي يعني الالم والنور الذي يرمز الى الامل حتى يصف السياب النواح بانه مثل خيط نور؟!
ويزداد التعقيد عندما يتعرض الشاعر ليهوذا, تلك الشخصية التي حملت وجهين. فيهوذا كان تلميذا للمسيح ومن النخبة المقربة له. الا انه لم يتوانى عن الخيانة وعن الوشاية بالمسيح ليسلمه الى اعدائه ويقضي على دعوته ورسالته. الا انه ندم بعد ذلك حتى قتل نفسه. ومع هذا فالسياب لا يرى ولا يصور ليهوذا الا وجها واحدا. الوجه السلبي المليئ بالغدر والخيانة. وفي المقابل يصور المسيح بالوجه النوراني الحامل لرسالة ملؤها الحب والانسانية. فقد اراد السياب من خلال ذلك تسليط الضوء على البعث والقيامة والتضحية من اجل القضية. كما اراد التركيز على الموت الروحي الذي اتصف به يهوذا.
وقد نجح السياب ـ وفي مقطعين من القصيدة ـ ان يرسم صورة لثورة امة من خلال قصة المسيح. فالثورة تبدأ بالاضطهاد والقهر, ليتحول ذلك الكبت الى ثورة تتفجر بوجه الطغاة. تبدأ من نفي للفرد ـ المسيح ـ ليكون رمزا يثور من اجله كل افراد المجتمع ـ المدينة ـ هاتفين باسمه ورافعين علم الطلب بثأره.
وكما استغل السياب الشخصيات السياسية وبنى منها اسطورة شعرية فقد استفاد ايضا من الاساطير القديمة لوصف الواقع المرير الذي عاشه السياب ونعيشه اليوم, وليعلن ثورته على ذلك الواقع. ولعل قصيدة "سوبروس" من اهم الامثلة على تمرد الشاعر العربي على الاحداث الجارية خصوصا بعد نكبة فلسطين, او كما يصفها الكاتب علاء هاشم مناف بانها "نسج اتصالي مفقود داخل هذه الوقائع في العراق".
وسوبروس ـ كما في الاسطورة اليونانية ـ هو كلب كان يحرس مملكة الموت في العالم السفلي بعد ان انتقل اليها عرش الهة الربيع عندما اختطفها اله الموت. وقد استعار الشاعر هذه الاسطورة اليونانية للتعبير عن حالة الشقاء والعناء التي تعيشها بابل باعتبارها تمثل العراق ككل.
وكما هو اسلوب السياب الذي ينتابه الغموض والتعقيد فانه يستهل القصيدة بقوله "ليعو سربروس في الدروب", والمعروف ان العواء صوت الذئب وليس الكلب. ولعل السبب الذي من اجله استعار السياب بالعواء دون النباح هو بيان شدة الحزن والايحاء بجو كئيب وتخبط مفزع يعيشه العراق ـ او بابل ـ انذاك. والذي يؤكد ذلك انه استخدم الكلب سربروس ذا الصفات المفزعة والمرعبة. فهو كلب غريب الخلقة ويجمع عدة مخلوقات كالثعابين والتنانين, كما له القدرة على نفخ النار. والادهى من ذلك انه رمز للموت والفناء والدمار. ويتضح هذا المعنى من خلال الاسطر اللاحقة في القصيدة, حيث يقول:
في بابل الحزينة المهدمة
ويملأ الفضاء زمزه
يمزق الصغار بالنيوب, يقضم العظام
ويشرب القلوب
وسربروس الذي يختلف عن الذئب بانه لا يكتفي بالنيل من فريسته واصطيادها فحسب, وانما يحل الدمار والفناء اينما حلّ. وسربروس له القدرة على الرؤية حتى في الظلام. فعيناه كالنيزك الذي يشتد ضوءه وبريقه كلما ازدادت الظلمة وانعدم الضوء.
وينتقل الشاعر من الاسطورة اليونانية الى اسطورة تموز التي دارت احداثها على ارض بابل. فتموز ـ اله الخصب والربيع ـ الذي بموته يهدد العالم الفناء ويحل الموت على كل المخلوقات, تنقذه حبيبته الالهة عشتار وتعيده الى الحياة مرة اخرى. الا اننا لا نرى هذه الصورة في قصيدة السياب المذكرة. وانما نقف امام مشهدين متناقضين. ففي البداية نقف امام مشهد يطغى عليه واقع سربروس وعجز الاله تموز امامه. وفجأة يتخلى الشاعر عن سربوس ويبدأ بندب الاله تموز حنينا الى عودة الاله الفتيّ ليعود معه الربيع وتنبض الحياة من جديد في العراق المبدد. ولكن هذا الحلم سرعان ما يتلاشى عندما يفيق الشاعر على واقع العراق الاليم. الواقع الذي لا يعرف معه الاطفال معنىً للثمار والقمح على ارض بلاد خصبة ومنتجة لكل الخيرات. لا يعرفون معنىً للمياه في ارض وادي النهرين. بل حتى الانسانية والصفات السامية افتقدت في ارض العراق, فالاطفال هناك يتساؤلون "ما البشر"؟! ثم يبدأ السياب في تساؤلات استغرابية:
أكانت الحياة؟
أحب ان تعاش والصغار امنين؟
أكانت الحقول تزهر؟
أكانت النساء والرجال مؤمنين
بان في السماء قوة تدبر؟
ثم يتحول الى استعطاف عشتار علها تتمكن من ارجاع الحياة الى العراق كما فعلت مع تموز. الا انه يتدارك الامر ويذعن انه حتى عشتار لا قدرة لها على ذلك مع وجود "سربروس بابل" الذي يقضي على عشتار نفسها فضلا عما تحاول اصلاحه. فالاصلاح والقضاء على الدمار لا يتم من خلال الاتكال على شخص واحد, وانما يحتاج الى جهد امة ويحتاج الى التضحيات. فالارض التي لا تروى بالدماء هي ارض بور لا تنفع لشئ. والمجتمع الذي لا يسعى الى تغيير واقعه بنفسه لا تستطيع اي قوة مهما كانت سلطتها ان تغيره.
الاسطورة في شعر ادونيس
يعد ادونيس احد اهم رواد واعمدة الشعر العربي الحر. ويتميز اسلوبه بمنهاج ثوري يسعى من خلال الشعر الى تغيير كل المجتمع الذي يعتبره صورة تكرر باستمرار بكل ما تحمل من سلبيات واخطاء دون اي محاولة لتغييرها او تصحيح مسارها, ليستبدلها بمجتمع اخر نقي من كل تلك السلبيات. وحتى الشعر لم يسلم من ثورة ادونيس او افلاطون الشام الذي يسعى دون كلل او ملل لبناء المدينة الفاضلة. فقد اعترض اودنيس ـ وكغيره من عمالقة الشعر الحر كالسياب ـ على العرف السائد لدى الشعراء. فهو اول من نادى وحمل لواء "تغيير اللغة". فالتكرار سجل حضوره ـ وبقوة ـ في بناء قصائد ادونيس., حتى اننا نرى ابيات كاملة ومقاطع تتكرر باستمرار في قصيدة لا تتجاوز العدة ابيات. ففي قصيدة "البعث والرماد" من اغاني مهيار وتحديدا نشيد "الحلم" نجد ان عبارة "ألمح فيها امرأة" تكررت مرتين ولم يفصل بينهما سوى سطر واحد. وكذلك البيتان :
واحدة مغارة
والاخران صدأ
تكررا اكثر من مرة في نشيد "رماد عائشة" من نفس القصيدة.
وخالف عرف الشعراء ايضا في بناء الابيات. فيمكن للقارئ ان يجد في قصائد ادونيس ابيات مكونة من كلمة او كلمتين فقط. ففي قصيدة "حوار" من اغاني مهيار يجد القارئ "اين كنت؟" كبيت قائم بذاته. وقبلها في قصيدة "هاوية" يتألف احد الابيات من كلمة "خطيئة".
وكالسياب وغيره كان للاساطير حضورها وتأثيرها في شعر ادونيس. بل ان ادونيس وضف الاساطير وابطالها للتعبير عن مضمون شعره. ففي قصيدته التي اسماها "البعث والرماد" تكرر تواجد الفينيق في كل اناشيدها الاربعة. والفينيق الذي يحمل في مضمونه معنى البعث هو طائر اسطوري عندما يموت يقوم بالاحتراق ليخرج منه طائر فينيق اخر. ففكرة هذا الطائر تعطي الاولوية لادونيس لان يعبر به عن البعث الفكري والانساني التي تحتاجه الامة فيستخدمه كمادة اولى في القصيدة المذكورة. مع انه يجب الاشارة الى ان قصيدة البعث والرماد يندمج فيها الاسطورة مع التاريخ. ففي النشيد الاول "الحلم" يذكر الشاعر "بعلبك" في اشارة الى تاريخ تلك المدينة العريق والذي يعود الى الرومان. كما يذكر "قرطاجة" ذات الاصول الفينيقية. ثم يعرج على ذكر الفيفيق ووله الشاعر بموت ذاك الطائر. فهو يموت من اجل الحياة والانبعاث بهيئة جديدة.
وفي النشيد الثاني "الغربة" يتحد الشاعر مع الفينيق باعتبار ان كليهما قد تغرب عن كل حبيب. ويطرح الشاعر عدة تساؤلات خشية ان لا يكون هناك ان تغيير في الولادة الجديدة, خشية ان يتكرر القديم بكل جوانبه وبدون اي تصحيح لاخطاء الماضي. فالشاعر يرجو من تلك الغربة ان تأتي بشئ جديد يغير ذلك الواقع المرير. وحتى الموت الذي يتكلم عنه الشاعر في نهاية النشيد انما هو موت فينيقي, اي انه سبيل للحياة وليس موت وحدة او عزلة. وبعبارة اخرى هو موت الفداء. ولا يتحقق هذا الفداء الا بموت شخص معين يوصف بانه "حريقة من الضياء". فهناك موت لشخص ترمد ثم تأجج وبعدها توهج. كما يحمل ذلك الشخص سمات الريادة والقدرة القيادية حتى يكون موته مؤثرا في المجتمع ويكون الشرارة لنار التغيير. ولذا يقول ادونيس "له اجنحة بعدد الزهور في بلادنا" وختم النشيد بقوله "يا رائد الطريق".
ثم يتحول ادونيس الى موضوع اكثر حساسية ليختار عنوان "رماد عائشة" لنشيده الثالث وليكون هذا النشيد هو المحور لكل قصيدة البعث والرماد. وعائشة بالرغم من كونه اسم مشهور عند العرب الا انه ايضا يمثل شخصية تاريخية دينية لها ثقلها ووزنها على الصعيد الديني. فهي زوجة الرسول واليها يرجع الفضل في نقل الكثير من التراث السني. كما انها طرف في صراع مذهبي قائم حتى يومنا هذا. فاستخدم ادونيس اسم هذه الشخصية ليعبر بها عن الدين بكل قيمه وابعاده. فقد استخدمها ادونيس في القصيدة المذكورة في اربعة مواضع:
الاول: عندما عبر عنها بانها اشبه ما تكون بقفص فارغ معلق تؤمن بتراكم العادات والتقاليد. نظرها دائما متجه الى النجوم او الى جهة العلو كعالم غيبي يدبر حياة الانسان وبالتالي يجب الايمان به حتى لو كنا لا نملك الاحساس به.
الثاني: عائشة لها وجهة نظر في الحياة الانسانية. فهي ترى الحياة مجرد سحابة عابرة لا قيمة لها ولا يجب الاهتمام بها. فدورنا في الحياة ـ على رأي عائشة ـ يقتصر على الصلاة والعبادة. وفي رأيها ايضا ان الانسان مجرد خطيئة, جاء من الخطيئة ووجد على ارض الخطيئة.
الثالث: عائشة هذه محبوبة من الجميع ويتبعها الكل. الجميع على رأيها ويحمل نفس قيمها. وليس هذا فحسب, وانما هي تمثل الواقع المتخلف في مجتماعتنا وبلادنا. فالقفص الفارغ المعلق اصبح الان ممتلئا واصبح مركزا, لكن للذباب...!
الرابع: وهي يختلف عن كل الصور السابقة, فعائشة التي كانت رمزا لكل قبيح تتحول الان الى فينيق يختطف القلوب والابصار لجمالها! وفي الواقع فان هذا التحول انما هو تتويج وتشييد لموقف اودنيس الرافض للتراث العربي المتوارث. ومع هذا فادونيس لا يرفض هذا التراث كرهها له, فهو يعتبره جزءا من حياته ويحبه الى درجة انه يريد حرقه حتى يجدده. فهذا الحرق من اجل البناء لا الهدم.
واما النشيد الرابع "ترتيلة البعث" يبدأ فيه الشاعر بالتغزل بالفينيق كتعبير رمزي عن الامة التي يسعى ادونيس لحرقها حرقا فينيقيا. وتتجلى في هذا المقطع فكرة البعث القومي والحضاري. فيلحّ ادونيس وباصرار على طلب الموت والاحتراق للفينيق ـ الامة ـ ليعود بثوب حضاري وبمستقبل زاهر ومنفتح. فالامة لا يمكن ان تنمو وتحيى حياة جديدة ما لم تتخلص من حاضرها المتخلف.
ويستخدم ادونيس مصطلحي "الشقائق" كرمز عن النمو والعطاء الذي يكون الركيزة الاساسية لقوة الامة الجديدة, ومصطلح "الحياة" النتيجة الحتمية بعد البعث.
وان كان ادونيس قد شابه السياب نوعا ما فيما يخص الاساطير, الا انه افترق عنه بان السياب استخدم الاساطير بشكل مباشر. وقد نظم السياب قصائد كاملة كاعادة قراءة للاساطير. اما ادونيس فاستخدامه للاساطير مقتصر فقط على استخدام رمزي وتعبيري عن محتوى القصيدة.
ملاحظة: هذا البحث قدمته للاستاذ البروفيسور في النقد الادبي كمال ابو ديب. وكان هذا جوابه:
المصادر التي اعتمدت عليها
- البناية الاسطورية عند السياب
- محاضرات الاستاذ ابو ديب
- بعض الكتب التي ذكرت في طيات البحث