مثَّلت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة نقطة البداية في تاريخ العمارة الإسلاميَّة؛ إذ كان لممارسته مهامَّ القيادة في دولة المدينة أثرٌ في التركيب الداخلي لعمران المدينة؛ إذ استُحدثت وظائف جديدة داخل المدينة لكي تتلائم مع كونها عاصمةً للدولة الإسلامية الناشئة، التي تتَّخذ الإسلام منهجًا، ومنذ ذلك التاريخ بدأ يتبلور فقه البنيان في الحضارة الإسلاميَّة.
المسجد النبوي
بعد دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة بركت ناقته عند موضع مسجده، وهو يومئذٍ مكانٌ يُصلِّي فيه رجالٌ من المسلمين، وكان مربدًا لسهل وسهيل، وهما غلامان يتيمان من الأنصار .. فسام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فقالا: نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير، وكان فيه شجر غرقد ونخل وقبور للمشركين، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبور فدرست، وبالنخيل والشجر فقُطعت، وصفت في قبلة المسجد، وجعل طوله ممَّا يلي القبلة إلى مؤخِّرته مائة ذراع، وفي الجانبين مثل ذلك أو دونه، وجعل أساسه قريبًا من ثلاثة أذرع، ثم بنوه باللبن، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني معهم، وينقل اللبن والحجارة بنفسه، ويقول: "اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ".
وذكر الحافظ الذهبي أنَّ القبلة كانت في شمال المسجد؛ لأنَّه عليه الصلاة والسلام صلَّى سبعة عشر شهرًا إلى بيت المقدس، فلمَّا حُوِّلت القبلة استخدم حائط القبلة الأوَّل مكانًا لأهل الصُّفَّة، وكان للمسجد ثلاثة أبواب؛ بابٌ في مؤخِّرته، وبابٌ يُقال له: باب الرحمة، والباب الذي يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجُعِلَت عمد المسجد من جذوع النخيل والشجر، وسقفه من الجريد.
ويُستخلص من ذلك أنَّ أوَّل وظيفةٍ أحياها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المكان: "وظيفة المسجد" الذي كان مركزًا للصلاة والعبادة، بالإضافة إلى كونه مركزًا سياسيًّا واجتماعيًّا وحضاريًّا، وملتقًى علميًّا .. هذه الوظائف التي كان يُؤدِّيها المسجد جعلت مكانته أكثر من كونه مكانًا للعبادة؛ فقد أصبح مركز الثقل في المدينة، وحوله تبلورت الأنشطة الاقتصاديَّة بها.
ونستطيع أن نرى في بناء مسجد المدينة دروسًا معماريَّةً مستوحاةً من هدي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:
الدرس الأول:
وهو قاعدةٌ مهمَّةٌ عند اختيار الأراضي التي تُبنى عليها المساجد، وتكون ذات ملكيَّةٍ خاصَّة، فيجب أن تُؤخذ موافقة أصحابها، وأن يتمَّ تقدير ثمنها، فالله طيِّبٌ لا يقبل إلَّا طيِّبًا.
والدرس الثاني:
في تجهيز الموقع وإعداد مواد البناء؛ فلقد كان بالأرض عند شرائها نخيلٌ وقبور، فأمر بالنخيل أن يُقطع، وبالقبور أن تُنقل، وأن يُغيِّبوا الطوب الذي سوف يُستخدم في بناء حوائط المسجد، وبذلك نجده لم ينتظر حتى يتمَّ إعداد الأرض ثم يأمر بتجهيز اللبن الذي يحتاج لبعض الوقت ليجفَّ ويُصبح صالحًا للبناء .. كلُّ ذلك من أجل كسب الوقت، وهذا شبيهٌ بالأسلوب المتَّبع في عصرنا الحديث عند وضع الجداول الزمنيَّة لتنفيذ عناصر أيِّ مشروعٍ معماري؛ حيث يُمكن عمل مرحلتين أو أكثر في وقتٍ واحدٍ إن أمكن ذلك، أو أن يشتركا في جزءٍ من الوقت، ممَّا يوفِّر في المدَّة الإجماليَّة لتنفيذ المشروع.
والدرس الثالث:
يُعطيه لنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم وهم يُشاركون بأنفسهم في بناء المسجد، باستخدام الموادِّ المتوافرة في بيئة المدينة المنورة؛ فاللبن للحوائط، وجذوع النخل للأعمدة، وجريد النخل لسقف المسجد، ممَّا يُعطي درسًا هامًّا في أهميَّة استعمال موادِّ البيئة، وتحقيق المشاركة الشعبيَّة في بناء المشروعات العامَّة في البيئات الفقيرة.
وقد وصف الشيخ عبد الحي الكتاني في كتابه: "نظام الحكومة النبويَّة، المسمَّى بالتراتيب الإداريَّة والولايات الدينيَّة"، طريقة بناء اللبن في حوائط المسجد النبوي، مشيرًا إلى أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بناه ثلاث مرَّات، الأولى بالسميط: وهو لبنة أمام لبنة، والثانية بالضفرة: وهي لبنة ونصف في عرض الحائط، والثالثة بالأنثى والذكر: وهي لبنتان تعرض عليهما لبنتان. وبذلك نرى اختلاف أسلوب البناء؛ لمـَّا كثر عدد المسلمين، وتمَّت زيادة مساحة المسجد، ممَّا يدلُّ على أهميَّة تطويع أسلوب البناء ليخدم وظيفة المسجد أو أيِّ مبنًى آخر، فكلَّما كثر عدد المستعملين زاد الاهتمام بمتانة البناء.
والدرس الرابع:
يُعطيه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أن أقرَّ فعل تميم الداري حينما أسرج المسجد النبوي بالقناديل .. وبذلك يُمكن القول: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُشجِّع أيَّ عنصرٍ معماريٍّ جديد يُمكن أن يُضاف إلى المسجد، ويُسهِّل من أداء وظيفته وأمر استخدامه.
وهذا النموذج يُبيِّن لنا أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عند عمارته لمسجده ترك حريَّة الابتكار والإبداع للمسلمين، حسب الزمان والمكان، ولكن في حدود ضوابط الشرع.
المسكن
ثُمَّ باشر الرسول صلى الله عليه وسلم تحديد وظائف المدينة من الداخل؛ فبنى مساكنه إلى جوار المسجد، قال الكتاني في التراتيب: "ثُمَّ بنى صلى الله عليه وسلم مساكنه إلى جنب المسجد باللبن، وسقَّفها بجذوع النخل والجريد، وكان محيطها مبنيًّا باللبن، وقواطعها الداخلة من الجريد المكسوِّ بالطين والمسوح الصوفيَّة، وجعل لها أبواب ونوافذ متقنة للتهوية، داعية إلى السهول في الدخول والخروج وخفة الحركة، مع وفر الزمن والسرعة إلى المقصد".
وعن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في تدبيره لأمر المسكن يقول ابن قيم الجوزية: "لمـَّا عَلِمَ صلى الله عليه وسلم أنَّه على ظهر سير، وأنَّ الدنيا مرحلة مسافر ينزل فيها مدَّة عمره ثم ينتقل عنها إلى الآخرة، لم يكن من هديه ولا هدي أصحابه ومن تبعه الاعتناء بالمساكن وتشييدها وتعليتها وزخرفتها وتوسيعها؛ بل كانت من أحسن منازل المسافر؛ تقي الحر والبرد، وتستر عن العيون، وتمنع من ولوج الدواب، ولا يُخاف سقوطها لفرط ثقلها، ولا تُعشِّش فيها الهوامُّ لِسِعَتِها، ولا تعتور عليها الأهوية والرياح المؤذية لارتفاعها، وليست تحت الأرض فتُؤذِي ساكنها، ولا في غاية الارتفاع عليه بل وسط، وتلك أعدل المساكن وأنفعها، وأقلُّها حرًّا وبردًا، ولا تضيق عن ساكنها فينحصر، ولا تفضل عنه بغير منفعةٍ ولا فائدةٍ فتأوي الهوامَّ في خلوِّها، ولم يكن فيها كنفٌ فتُؤذي ساكنها برائحتها؛ بل رائحتها من أطيب الروائح، لأنَّه كان يُحبُّ الطيب، ولا يزال عنده، وريحه هو من أطيب الرائحة، وعرقه من أطيب الطيب، ولم يكن في الدار كنيف تظهر رائحته، ولا ريب أنَّ هذه من أعدل المساكن وأنفعها، وأوفقها للبدن، وحفظ صحَّته".
وفي هذا النص الموجز عَرَضَ ابن القيِّم الشروط التي يجب توافرها في المنزل الإسلامي، مثل: البساطة، الخصوصيَّة، التوافق مع البيئة. وهي شروطٌ انعكست كثيرًا على عمارة المنازل عبر العصور الإسلامية.
فهي لم تكن شروطًا نظريَّة؛ بل دخلت حيِّز التطبيق، فنرى أنَّ المنازل في صدر الإسلام كانت تفي بالضرورات، ولا تمتدُّ إلى الكمالات ممَّا لا حاجة له .. أخرج البخاري في صحيحه أنَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "لقد رأيتني مع رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد بنيت بيتًا بيدي يكنني من المطر، ويظلني من الشمس، وما أعانني عليه أحدٌ من خلق الله".
وكان للأصول السكانية والقبلية شأنٌ كبيرٌ في توزيع السكَّان في أحياء المدينة؛ حيث إنَّ كلَّ حيٍّ كانت تقطنه أسرةٌ أو قبيلة، وكانت مسئولية توزيع الخطط في يد الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره الحاكم، وقد كان منهجه في ذلك يهدف إلى تجميع كلِّ قبيلةٍ في خطَّةٍ خاصَّةٍ بها، مع ترك حريَّة تقسيم الخطط للقبيلة، ووفقًا لظروفها وإمكاناتها في الإنشاء والتعمير، ومدى الحاجة إلى ذلك، فكأنَّما رُوعِيَت النظرة المستقبليَّة لامتداد العمران، كما حدث في إقطاع الزبير، وعلى هذا الأساس سار إقطاع الخطط في المدن الإسلامية الناشئة، ومن أمثلة ذلك ما حدث في البصرة (14هـ=635م)، والكوفة (17هـ=638م)، والفسطاط (21هـ=641م)، والقيروان (45هـ=665م).
السوق
كما حدَّد صلى الله عليه وسلم موضع السوق، لعلمه أنَّ الاستقرار لا يقوم إلَّا به؛ فهو مصدر التكسُّب والتجارة والحِرَف، روى الطبراني من طريق الحسن بن علي بن الحسن بن أبي الحسن أنَّ رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنِّي نظرت موضعًا للسوق أفلا تنظرون إليه؟ قال: "بَلَى"، فقام معه حتى موضع السوق، فلما رآه أعجبه وركضه برجله، وقال: «نِعْمَ سُوقُكُمْ هَذَا، فَلَا يُنْتَقَصَنَّ وَلَا يُضْرَبَنَّ عَلَيْهِ خَرَاجٌ».
كما أقرَّ الإسلام الأسواق التي تُبايع الناس بها في الجاهليَّة، فعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقًا في الجاهليَّة، فلمَّا كان الإسلام تأثَّموا من التجارة فيها، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 198].
مصلى العيد
كان لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أثرها الواضح في اشتمال المدينة على ساحة فضاء تُقام عليها صلاة العيد في الخلاء، عُرِفَت بـ "مصلَّى العيد"، يخرج إليها أهل المدينة لصلاة العيد.
دور الضيافة
وخُصِّصت بالمدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دورٌ للضيافة واستقبال الوفود، كان من أهمِّها دار عبد الرحمن بن عوف الكبرى، وكانت تُسمَّى: "دار الضيفان"، أو "دار الأضياف"، ودار رملة بنت الحارث الأنصاريَّة التي نزلتها وفود غسَّان، وبني ثعلبة، وعبد القيس، وبني فزارة.
تحصين المدينة
حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحصين المدينة من أضعف الجهات، وهي الجهة الشماليَّة، وذلك قبل قدوم الأحزاب للمدينة، ولو بلغت هذه الأحزاب المحزَّبة والجنود المجنَّدة أسوار المدينة بغتةً لكان ذلك من أعظم الأخطار على كيان المسلمين، التي قد تصل إلى حدِّ استئصال شأفتهم، ولكنَّ يقظة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمدَّته عيونه بتحرُّك جيوش المشركين حالت دون ذلك.
وبعد أن استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أخذ برأي سلمان الفارسي رضي الله عنه، حيث قال: يا رسول الله! إنَّا كنَّا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا .. وكانت خطَّةً حكيمةً لم تكن تعرفها العرب قبل ذلك، وهذا درسٌ يُلقِّنه الرسول صلى الله عليه وسلم لنا، وهو أن نأخذ من الأمم التي سبقتنا في أطوار العلم ما يُفيدنا، ويرفع مقدرة المسلمين على مجابهة أعدائهم.
وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة، فلم يكن لهم عبيدٌ يعملون ذلك لهم، فلمَّا رأى ما بهم من النصب والجوع قال: "اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ". فقالوا مجيبين له: "نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدًا".
وقسَّم أصحابه إلى مجموعات، يتكوَّن كلٌّ منها من عشرة أشخاصٍ كُلِّفوا بحفر أربعين ذراعًا، ولمـَّا كان طول الخندق حوالي (1200 ذراع)، فإنَّه يكون قد اشترك في حفره ثلاثة آلاف مسلم، وخطَّ الرسول صلى الله عليه وسلم الخندق من حصن بني سلمة غرب مسجد الفتح.
وحَفْرُ هذا الخندق عملٌ معماريٌّ حربيٌّ ضخم، أُنجز في فترةٍ وجيزةٍ بلغت في أقصى تقديرٍ أربعةً وعشرين يومًا، وكان لحسن تنظيم العمل ومخافة هجوم الأعداء بسرعةٍ أثرَهُ في ذلك .. واستكمالًا لأعمال التحصين، حُصِّنت جدران المنازل القريبة من الخندق، التي بينها وبين العدوِّ مسافةٌ قصيرة.
واتَّخذ الرسول صلى الله عليه وسلم المعسكرات لجنده خارج المدينة على مسافةٍ منها، ومن أمثلة ذلك معسكر الجرف الذي يبعد عن المدينة ثلاثة أميال في اتِّجاه الشمال، وهو معسكر أسامة بن زيد عندما أُرسِل إلى الشام، وهو الذي عسكر به الجند عند ذهابهم إلى مؤتة.
رأينا فيما سبق العديد من الوحدات المعماريَّة التي أسَّسها الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة، وهو ما سيُؤسِّس فيما بعد مكوِّنات المدن الإسلاميَّة الأولى .. وهذه الوحدات: هي المسجد الجامع، وتمثَّل في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى جواره منازله التي مثَّلها فيما بعد دار الإمارة، والسُّوق الذي اختير موقعه بناءً على توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم، والخطط التي أُقطِعت للقبائل، وتحصين المدينة بالخندق، الذي مثَّلته فيما بعد الأسوار والأبراج.
_______________
المصدر: خالد عزب: تخطيط وعمارة المدن الإسلامية، الناشر: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - قطر، سلسلة كتاب الأمَّة (رقم 58)، ربيع الأول 1418هـ= أغسطس 1997م.