واحدة من المعاناة التي قاسيتها في سنواتي السابقة هي طبيعة عملي، كنت عامل بناء، واسم هذه المهنة في اللهجة الدارجة ( عَمّالة) بفتح العين وتشديد الميم، هذا للعرب.
لم أختر هذه المهنة، ولو خيرت لاخترت اي مهنة اخرى عليها، مهنة مارستها منذ كنت في الصف السادس الابتدائي في عام 2009، واستمر عملي فيها حتى عام 2011، ليس كل يوم طبعا، لكن كل عطلة ربيعية، وكل عطلة صيفية، وكل جمعة، وكل عطلة غير رسمية للمدارس، وكلما امرني جلادي ايضا، حتى لو كان يوم دوام رسمي في المدارس، فكنت أغيب.
فيما بعد، حين قرأت واطلعت، عرفت ان هذه المهنة هي في الحقيقة أعمال شاقة، تفرض على المساجين، مهنة متعبة ومهلكة، وتترك اثارا صحية مدمرة، وتورث امراضا في المفاصل.
لم أخترها، وإنما اختارها لي جلادي ( علي حسن علي الجداح البريچي) الذي تسميه مستمسكاتي بأبي، هو اسطة بناء ( خلفة)، ولا غرابة ان الخلفة يأخذ ابنه معه الى العمل، شأن الخلفة في هذا كشأن بقية اصحاب الحرف من النجارين والحدادين وغيرهم.
عملت في كل اختصاصات هذه المهنة، فقد كنت انقل الاسمنت الى الخلفة (طواس)، وكنت اناول الطابوق للخلفة (امناوشچي)، واناول البلوك، وكنت أعد الجص (جَبّان)، وكنت اناول الجص لأسطة البياض، وكنت أعمل مزيج الاسمنت والرمل والحصى (خباط)، وكنت اقطع السيراميك والكاشي بماكنة تدعى هنا كوسرة (كوسرچي)، وكنت انشر الاسمنت على صفوف البناء (ناشور)، وكنت أعد مزيجا من الرمل والاسمنت الابيض يستعمل في (النثر)، وكنت أقلع ( اللبخ ) القديم من الجدران لغرض اكسائها بإسمنت جديد، وكنت اهدم كتل الخرسان القديمة والجدران المتهرئة المراد بناؤها من جديد (مرار).
هذه تقريبا ابرز الاعمال الدورية في هذه المهنة، يعمل فيها العامل منذ الصباح حتى انتهاء اليوم، لكن ايضا، كان العمل يتطلب مني في كثير الايام أن ازاول اعمالا اخرى وقتية لا تدوم اكثر من ساعة، مثل التنظيف، وتنقيع السيراميك بمزيج خفيف من الاسمنت والاسود (اتشربت)، وإنزال الانقاض من السطوح الاولى والثانية الى الارض، ورفع مواد البناء على الظهر من الطابق الارض الى الاعلى. واعمال اخرى يضيق عنها الوصف.
كان التنظيف اخس اعمال هذه المهنة، كنا ننظف مرافقات قديمة، ننظفها من بقايا فضلات الاخرين، لغرض بناء مقعد جديد ومد انابيب المجاري ثم اكساء المرافق بالبلاط.
لم يكن جلادي يسمح لي بالتأفف من الروائح النتنة، كان يزجرني كلما وضعت مقدمة قميصي على انفي لأتقي بخار الفضلات البشرية القديمة، التي لم تفقد رائحتها القاتلة رغم تحولها من الحالة السائلة الى الحالة الصلبة.
وفي الايام التي كان العمل الدوري المعتاد ينقطع عنا، لم أكن أتأخر عن البحث عن الاعمال غير الدورية.
في هذه المهنة، توجد اعمال غير دورية، وهي تجهيز مواد البناء، ويتولى العامل هذا العمل مقابل اجر اعلى من أجرة العامل اليومي، على ان ينهي العمل خلال ساعة او ساعتين، وهي (الگبالة).
القاموس اللغوي المخزون في مخي يحتوي على عشرات المفردات الخاصة بهذه المهنة، (اتليثي، تنگير، تبوير، ايشيگ، على طولة، امصخرچ، حل وشد، خبط لين، خبط شد، زَيّر، شاهود، زردة، تربيع، .... إلخ).
كنت أعاني من التعب في كل يوم عمل، عندما كان العمل يبدأ، أبدأ بترقب الساعة منتظرا فترة الاستراحة الصباحية المخصصة للافطار، لم يكن الطعام يسعدني بقدر سعادتي بخلاصي الوقتي من هذا التعب المنهك، وعندما ينتهي الافطار، وهو ينتهي بمجرد نهوض الخلفة من الارض، أبدأ برحلة جديدة مع الوقت، وعد الدقائق والساعات والترقب لحلول استراحة الظهر لتناول الغداء.
اسهل الانتظارات كانت بعد انتهاء الغداء، فهذه الاستراحة تنتهي في الساعة الثانية ظهرا، والعمل ينتهي في الساعة الثالثة، وكنت اهون على نفسي مشقة هذه الساعة بكونها الاخيرة وينتهي هذا التعذيب الجسدي.
لم تدم نعمة الانتظار الاخير كثيرا، فبعد سقوط النظام، طرأ تغيير على موعد انتهاء العمل في هذه المهنة، فأصبح في الساعة الرابعة عصرا.
الأمرّ من هذا، ان الخلفات ( جمع خلفة)، لم يعودوا يلتزمون بالساعة الرابعة كموعد ثابت لنهاية العمل، عملت مع خلفات كانوا يظلون يعملون للساعة الخامسة وأحيانا السادسة. وكان هذا جزءا من الانفلات الذي حل بالناس، في بلد غارق بحرب مع جيوش من الخارج، وحرب داخلية، وانهيار كل شيء كان ثابتا.
عملت في مناطق شتى من بغداد، شارع فلسطين، الكاظمية، النعيرية، بغداد الجديدة، التاجي، العبيدي، الكمالية، حي البنوك، الكرادة، منطقة التأميم جنوب العاصمة، وغيرها مما لا أذكر، ثم تجاوزت بغداد، فعملت في النجف، وكربلاء، والسليمانية.
أما آخر مكان عملت فيه، فكان في المعلمين، بجوار منطقة سكني وهي معسكر طيران الجيش سابقا وهو يقع بين ثلاث مناطق، المشتل والفضيلية والمعلمين، وتحول بعد سقوط صدام إلى منطقة سكن عشوائي للمتجاوزين، وصار اسمه مجمع فدك السكني، وفدك هو اسم لمنطقة تاريخية في السعودية، كان محل نزاع بخصوص ملكيتها بين شخصيات تاريخية.
بعد أن تمكنت من الحصول على عمل مكتبي في شهر تشرين الثاني من عام 2011، تنعمت بالراحة من هذا العمل الشاق، احتجت لعام كامل لتزول الانتفاخات الجلدية (البسامير) من كفيّ، نتيجة العمل المستمر بالمسحاة. أما السمرة الشديدة التي أصابتني نتيجة الحروق الشمسية في أيام العمل بتموز وآب، فما تزال.
بعد أن تم تثبيتي في عملي المكتبي الاول في حياتي، وكان بصفة مدقق لغوي في جريدة المدى، خصصت أحد أيام عطلتي للذهاب الى منطقة بغداد الجديدة، التي تحتوي على ساحة تجمع العمال (المسطر)، اعتبرته هو المكان الذي يرمز لكل سنوات شقائي تلك، ووفيت بوعدي لنفسي وبصقت عليه.
عادة البصق على الاماكن الكريهة اكتسبتها منذ مغادرتي منطقة المعوقين، هي بالنسبة الي معسكر لا يختلف كثيرا عن معسكر أوشويتز النازي في النمسا، وللأمانة لا يحتوي على غرف اعدام بالغاز، ولا افران لحرق البشر، اما بقية تفاصيل الجوع والاذلال فهي هي.
بصقت على أربعة أماكن في حياتي، المعوقين، الحوزة، مسطر بغداد الجديدة، وأخيرا معسكر طيران الجيش (مجمع فدك السكني روحي له الفداء).
بعد هذه السنوات الطويلة من الشقاء في هذه المهنة، أتفكر الان، لم يكن هنالك أي مبرر وداع لعملي في هذه المهنة، لكنه اختيار جلادي لي، الذي لا يمتلك القوة العقلية التي تؤهله ليختار لي عملا غير العمل الذي يعرفه هو، إنها الطريقة الخنزيرية في الحياة، الخنزير لا يرى الا ما أمامه، ولا يستطيع الالتفات الى اليمين او الشمال او الاستدارة الى الخلف.
كان بوسع جلادي ان يتوسط لي لدى أي من معارفه التجار، الذين كنا نعمل لهم مخازن ومنازل، ومنهم ابو رافد، تاجر بنينا له مخازن عملاقة في حي البنوك، وكانت بضائعه تتراكم على الارض وفي المخازن الارضية كالتلال.
كان بوسعه تشغيلي مع اي كهربائي (اسطة مد الاسلاك الكهربائي في المنازل حديثة الانشاء)، مع أي نجار (النجار في العمالة يمارس عملا غير العمل المعتاد لنجار غرف الاخشاب، النجار في العمالة يمد قوالب الخشب ليتم صب مزيج الاسمنت فيه). كل الاعمال هي اهون واخف من العمالة.
كان بوسعه لو كان أبا، لكنه كان جميع الاشياء الاخرى في هذا العالم الا الاب، كان بوسعه لو كانت لديه ادنى درجة من الحرص على ولده، لكن من أين يأتيه الحرص وقد هددني في أحد أمسياته المخمورة وهو يقول: ( والله الا اكتلك ابطلقة واكول عبالي حرامي طفر علينة بالليل) ومعنى التهديد بالفصحى: ( سأقتلك برصاصة وإذا سألني الناس سأقول لهم ظننت أنه لص دخل بيتي في الليل).
كان بوسعه أن يجد لي أي عمل آخر، وكثيرا ما فعل للاخرين، لكنها خنزيريته، التي كلفتي سنين طويلة من العناء والتعب المهلك للبدن، الذي لم يورثني سوى الشيخوخة المبكرة والوهن الجسدي، ولهاثي الحالي من ابسط الاعمال، لهاثي من المشي الطويل، ورفع الفراش من الارض.
انتبهت اسرة عمي لهذا اللهاث السريع، قبل شهر كنت بائتا عندهم، خرجت من المنزل لشراء بعض الحاجات، ولم يكن المنزل يبعد اكثر من مئتي متر، رجعت لاهثا ودخلت عليهم وأنا أتنفس الصعداء، قالت لي زوجة عمي : ( انتة شايب، شيبت وانتهيت، تلهث منا لهنا).
وفي الليل، عندما أردت افتراش الحصير في الصالة لأنام، لهثت ايضا، فقالت لي بنت عمي: ( حسين انتبهت عليك صايرة عندك حالة، من ابسط الاشياء اتكوم اتلاهث وتتنفس ابسرعة، انتة امراجع طبيب؟ خاف بيك خفقان بالقلب).
لم أملك الوقت او الطاقة لأشرح لها الاسباب، لكن الاسباب تراكمت في ذاكرتي على صورة عشرات الالاف من قطع الطابوق التي حملتها على ظهري، وعشرات الشيلمانات (جمع شيلمانة وهي قطعة من الصلب المسبوك ذي الحواف) اتعاون مع الاخرين لرفعها ووضعها على مكانها الصحيح فوق البناء لغرض (العگادة)، على صورة واحد وعشرين كيسا من الاسمنت، أي بزنة طن ومئة كيلو غرام من الاسمنت لوحده مزجته بالمسحاة مع اطنان اخرى من الرمل والحصى في واحد من ايام بطولاتي في هذه المهنة. وعندما انتهى العمل، أخبروا المقاول ( سيد معن) : (سيد دير بالك على حسين بالاكرامية، اليوم خبط واحد وعشرين چيس)، فحصلت على إكرامية مقدارها 5 آلاف دينار.
وعلى صورة عشرات الاطنان من مواد البناء التي رفعتها على مدى سنوات من الطابق الارضي الى السطوح، أطنان من الحصى والاسمنت والرمل (الزميج) الذي يستعمل في (تطبيگ) السطوح بـ (الشتايگر).
على صورة عشرات الاطنان من الانقاض التي انزلتها من السطوح الى الطابق الارضي.
جلسة سرية، هو عنوان مسرحية لسارتر، يقول في خاتمتها جملة تعبر عن الفكرة المحورية للمسرحية كلها: (الجحيم هو الآخرون).
#لن_أنسى