المجاملة
الكل يعرف معنى المجاملة تطبقاً او تعريفاً، وما اكثرها في هذا الزمان، ومن يدخل مواقع التواصل يرى ذلك بوجه جلي، حيث ترانا نجامل من نعرفه ومن لا نعرفه الا باسمٍ مستعار او من خلال صورة جميلة لا تمثله.
والمجاملة من العادات الاجتماعية العامة والتي لا يخلو منها أيٍ من المجتمعات على تفاوت في درجات استخدامها.
وقد عَرّف اهل الاختصاص المجاملة بأنها: مسايرة وملاينة المقابل في كلامه او فعله تأدباً لا عن قناعة وتسليم.
ولكي نسلط الضوء على هذه الحالة الاجتماعية من زاوية أخلاقية، فلنا أن نسأل: هل هي حالة صحية أم سقمية؟ وهل من الممكن ان تنقلب الى ضدها في مرحلة ما او وضع ما؟ وما هي المحركات لهذا التصرف؟.
من النظرة الابتدائية نرى ان ظاهرة المجاملات هي من الأساليب التي تقوي أواصر العلاقات بين الافراد وتذيب عقبات التقارب بينهم، وكذلك هي طريقة لإدخال السرور والاستقرار الى قلب المقابل، وايضا هي جسر للعبور الى كيان المقابل.
ولو كانت المجاملات من الأساليب خالصة الافساد لتجنبها الافراد منذ ظهور نتائجها الأولى، انما الاستمرار عليها يدل على ان المجتمع قد حصد من نتائجها الإيجابية.
أما المحركات الخارجية لهذا التصرف فعادة تنشأ من فعل او قول يصدر من الفاعل يخلف أثراً في نفس او قلب السامع او المشاهد؛ فيقابله بأثر مترتب عليه، وهذا الأثر أما أن يكون من منطلق الامتنان او الاعجاب، او يكون جزاءاً لصاحب الكلمة او الفعل، او تشجيعاً له للاستمرار على ما يقوم به من تصرفات، او غيرها من ردود الأفعال الجزئية، وتارة تكون المجاملة بالقول وأخرى بالفعل كالهدايا والهبات.
وعلى ذلك تكون المجاملة حالة صحية ونافعة اجتماعياً ان توقفنا عند هذه المرتبة.
لكن ان تحركنا قليلا فسوف يواجهنا سؤال وهو: هل أن تحريك الفاعل بفعله للمجامل هو السبب الأوحد لصدور المجاملة ام أن هناك أسباب مساهمة مع المحرك الظاهر؟ وقد تكون هي المحرك الأساس لا سواها؟.
نقول: ان الفعل او القول المؤثر لا يخلق لدينا ردة فعل تجاهه وانما يحرك لدينا ما يُكّون ردة فعل، أعني انه حرك شيئاً في دواخلنا له وجود قائم لكنه مفتقر للمحفز، فان وجِد المحفز ظهر الى مرتبة الفعلية.
حين التتبع نرى ان هناك دوافع مساهمة في تحريك الفرد نحو اصدار المجاملة، وقد تكون لها اليد الطولى في تحديد حجم وقوة المجاملة.
ومن هذه الدوافع او المولدات المساهمة في تحريك الفرد نحو اصدار المجاملة القولية او الفعلية هي:
أولاً: الطمع. فكثير من دوافع المجاملات ليس هو فِعلُ او قول المقابل، انما فعله هو الموضوع الحامل للمجاملة، واما الدافع الحقيقي فهو الطمع، لذلك يرى أصحاب الذوق ان بعض المجاملات تضيق لها الصدور بل لا تُحتمل على الرغم من حسن ظاهرها.
ثانياً: الخوف. فالخوف من الدوافع المساهمة في صدور المجاملة وصياغتها بالعبارات والافعال التي يرى صاحبها انها السبب الأمثل لإزالة شعور الخوف من قلبه، ومن أوضح مصاديق ذلك مجاملة الشعوب لحكامها.
ثالثاً: رسم صورة وهمية في مخيلة المقابل لتحصيل غايات يرى المجامل انحصارها بهذه الطريقة، فيحاول رسم صورة غير واقعية في عقل او مخيلة المقابل.
رابعاً: إرضاء المقابل لأجل غايات محددة لدى المجامل، فتصدر المجاملة لأجل نوال رضى هذا الشخص سواء كان لها واقع او هي مختلقة كلياً. وغيرها من الدوافع الأخرى.
وهذا يُخرج أسلوب المجاملة من الفعل المحمود الى الفعل المذموم، بل يرتقي ليكون طريقاً من طرق الافساد والضرر، فعندما يطلعك صديقك على ملبسه الجديد او مشروعه الجيد وتبين له دهشتك واعجابك وتثني على ذوقه وعقله وانت في قرارة نفسك تجد ان اختياره سيئ ومشروعه فاشل، هنا تكون قد غششت صاحبك وادخلته في دائرةِ وهمٍ ربما يصعب عليه الخروج منها، والمشكلة الأكبر أنك ابقيته على نفس درجة ذوقه الهابط ولم ترفع لديه مستوى النظر في الاختيار، وقد شجعته على البقاء في الزاوية التي ينظر من خلالها ويُقيّم اختياراته منها وهنا يكمن الضرر الحقيقي.
نعم قد تقول انْ بينت له حقيقة رأيي سينزعج مني، ثم ان هذه رغبته وهو يميل لها، وانه قد اختار وانتهى الامر، فمسايرته ومجاملته هي الطريق الاسلم! نقول: فعلك هذا سيوقعه بخطأ الاختيار فيما هو آت، وستكون مجاملتك هذه من ضمن مرتكزات اختياراته المستقبلية، فأنت هنا أوقعت به ضرراً أكبر من ضرره من الانزعاج او خسارة حاجة واحدة. وان كان صاحب قرار فالضرر أدهى وأمر.
حينما نجامل من يكتب كلمة في مواقع التواصل دون ان نفهم معنى كلمته ام نلمس فائدة حقيقية من تلك الكلمة، فقد أبقينا صاحبنا على نفس المرتبة من الكتابة ونفس الأسلوب، حينها لن يقتصر الضرر عليه فحسب بل سيصل الينا نحن المجاملون، ليس من جهة بقائنا على نفس مرتبة الاستسقاء من صاحبنا انما من جهة أخرى وهي اننا بفعلنا هذا كتمنا افكارنا التصحيحية والتقويمية وأمتناها في صدورنا، حينئذ ـوحسب نظام النماء الفكري المعمول به في عالم العقول ـ سيُغلق باب هذه الأفكار ونصبح تلقائياً ننظر في دواخلنا لكلمة المجاملة المناسبة وكيفية صياغتها واطلاقها، فنُميت الأفكار البناءة ونفتح أول نافذة لتفعيل القوة الوهمية او مَلَكة الخداع، وان كانت ليس فيها مضار كثيرة لكنها ستوصل الى ذلك عاجلاً أم آجلاً.
عندما ندرك أن صديقنا الفلاني لا يجامل ترانا أكثر انضباطاً في افعالنا وأقوالنا ونحاول ان لا نعطي ثغرة علينا.
ان بيان الأشياء على ماهيتها لأي شخص ليس أمراً جارحاً الا إذا كان بأسلوب خارج عن حدود الادب أو كان المقابل ليس بعاقل. فليس الصواب وبيان الحق هو المؤلم لدى العاقل انما طريقة البيان هي المسؤولة عن ذلك.
غاية الكلام ان كان الدافع للمجاملة ناشئ عن صلاح فسيتبعها الأسلوب والطريقة بنفس درجة الصلاح تلقائيا دون عناء الصياغة والترتيب. فبيَد الانسان نفسه ان يجعل المجاملة طريقة للإصلاح او طريقة للإفساد.
وله المنة...منتظر الخفاجي