لا يتوقَّف نفع الخشوع للمسلم عند مغفرة الذنوب ومحو الخطايا الذي ذكرنا طرفًا منه في مقال خشوع ومغفرة، بل يتجاوز ذلك إلى الترقِّي بالمسلم في الجنة إلى درجات لا يبلغها عامَّة الناس! فالخاشعون في صلاتهم لهم مكانة خاصَّة في الجنة لا تصلح لغيرهم! قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون: 1، 2]، فالله أثبت هنا الفلاح للخاشعين فقط، وليس لعامَّة المُصَلِّين، ووعدهم في نهاية الآيات بميراث الفردوس، والخلود فيها، فما أروعه من جزاء! قال تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[المؤمنون: 10، 11]. والخلود في الفردوس ليس كالخلود في أي مكان في الجنة! ولا يقولنَّ أحد: يكفيني دخول الجنَّة في أي مكان! فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَّمنا أن نرتقي بطموحنا إلى العلا، فقال: «.. فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ، وَأَعْلَى الجَنَّةِ، أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ»[1]. فهل أدركتَ الآن معنى الفردوس؟ وهل تتخيَّل هذه المكانة؟! إنها للخاشعين في صلاتهم!

وليست ثمرات الخشوع في الصلاة أخروية فقط!

إنما نشعر بآثارها العظيمة في الدنيا كذلك، ومن أبرز هذه الآثار أنها تُساعدنا على المحافظة على الصلاة نفسها! فالمُصَلِّي الذي لا يشعر بالخشوع في صلاته يستثقل هذه الصلاة، ويرى أنها عبء على كاهله، وكثيرًا ما يُؤَخِّرها إلى آخر وقتها، وقد يفوت وقتها بالكليَّة، ولا يخفى على أحد خطورة هذا السلوك، وهي صفة من صفات المنافقين؛ فقد قال أنس بن مالك رضي الله عنه: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تِلْكَ صَلَاةُ المُنَافِقِ يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا»[2]. أمَّا الخاشعون في صلاتهم فإنهم لا يمرُّون بهذه التجارب السلبية؛ بل ينجحون في الامتحان الصعب، وهو امتحان المحافظة على الصلوات في أوقاتها، وبالطريقة التي شرعها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو امتحان وصفه الله عز وجل بأنه «كبير»! قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الخَاشِعِينَ}[البقرة: 45]، فالاستعانة بالصلاة أمر كبير وشاقٌّ على عموم الناس، ويُستثنى «الخاشعون» من هذه المشقَّة؛ فهم يجدون الأمر سهلًا عليهم، مُيَسَّرًا محببًّا، فتكثر استعانتهم لذلك بالصلاة.

وفوق ذلك فالخشوع يُساعد المسلم على الخروج من أزماته الدنيوية التي تعترض طريق حياته، وما أكثر هذه الأزمات! وقد قال الله -سبحانه وتعالى- وهو يصف حال الإنسان في الأرض: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد: 4]، وكثيرًا ما يرفع الناس أيديهم بالدعاء لفكِّ الكُرَب، وحلِّ الأزمات، فلا تتحقَّق الإجابة! أمَّا الخاشعون فأمرهم مختلف!

هل تُريد دعوة مجابة؟!

هل تُريد ولدًا طيبًا؟!

هل تُريد زوجة صالحة؟!

انظر إلى المنهج الإلهي في الحصول على هذه النعم:

قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}[الأنبياء: 90]!

لقد ذكر لنا الله عز وجل قصَّة هذا النبي الكريم زكريا عليه السلام لنعتبر بها، فهو قد بلغ من الكِبَرِ عتيًّا، وكانت امرأته عاقرًا، وكلُّ الأحوال الدنيوية تقضي باستحالة الحمل والولادة، لكن ما رأيناه أن الله عز وجل هيَّأ المرأة العاقر، ورزقهم الولد الصالح.. نعم هذه معجزة خاصَّة بالأنبياء، لكن الله عز وجل لم يكتفِ بذكر المعجزة، إنما ذكر في الآية المبرِّرَات التي من أجلها استجاب الله عز وجل لزكريا عليه السلام؛ لكي لا تتوقَّف مسيرة الخير إلى يوم القيامة، فكلَّما احتاج الإنسان إلى الخروج من أزمة، أو إلى حلِّ مشكلة، لجأ إلى المنهج الرباني الواضح..

إنه منهج لتحقيق نِعَم الدنيا، وبعدها نِعَم الآخرة:

المسارعة في الخيرات.

الدعاء راغبين في عطاء الله -سبحانه وتعالى- وجنَّته، وراهبين من منعه وناره.

ثم ختم بالخشوع!

ومَنْ أراد حلَّ أزماته بغير هذا الطريق فلن يزيدها في الواقع إلَّا تعقيدًا! لذلك كان هذا الخشوع هو المنهج العملي لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرَّ بأزمة أو ضائقة؛ فقد كان يُسرع حينها إلى الصلاة، فيطمئن فيها، فيجد الفَرَجَ، وييسر له ربُّنا بها أمورَه، وهذا ما عناه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حين قال: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى»[3].

إن الخاشعين قومٌ فَرَّغوا قلوبهم لله عز وجل، فألقى الله سبحانه عليهم جلالًا من جلاله، وهيبة من هيبته، ونورًا من نوره، فلا يراهم أحد إلَّا وأحسَّ بخشوعهم، ولا يتعامل معهم إنسان إلَّا رقَّ لهم، واطمأنَّ إليهم، بل يرى الناسُ على وجوههم ما يكشف عن قلوبهم النقية، وأرواحهم الزكيَّة.. إن هذا ليس وهمًا أو خيالًا؛ بل هو حقيقة مشاهَدَة، وأمر محسوس ملموس! وانظر إلى قيس بن عُبَادٍ[4] رضي الله عنه، وهو من كبار التابعين، وهو يحكي عن رؤيته لرجل خاشع!

يقول قيس بن عباد: كُنْتُ جَالِسًا في مسجد المدينة فدخل رَجُلٌ عَلَى وَجْهِهِ أَثَرُ الخُشُوعِ، فقالوا: هذا رجلٌ من أهل الجنَّة. فصلَّى ركعتين تجوَّز فيهما ثمَّ خرج، وَتَبِعْتُهُ فَقُلْتُ: إنَّك حين دخلتَ المسجد قالوا: هذا رجلٌ من أهل الجنَّة. قال: والله! ما ينبغي لأحدٍ أن يقول ما لا يعلم، وَسَأُحَدِّثُكَ لِمَ ذَاكَ، رأيتُ رُؤيا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقصصتُها عليه، ورأيتُ كأنِّي في رَوْضَةٍ -ذَكَرَ من سَعَتِهَا وَخُضْرَتِهَا- وَسْطَهَا عَمُودٌ من حديدٍ؛ أسفلُه في الأرض، وأعلاه في السماء، في أعلاه عُرْوَةٌ، فقيل: لي ارْقَ. قلتُ: لا أستطيع. فأتاني مِنْصَفٌ[5] فرفع ثيابي من خَلْفِي فَرَقِيتُ، حتى كنتُ في أعلاها، فأخذتُ بالعُرْوة. فقيل له: استمسكْ. فَاسْتَيْقَظْتُ وإنَّها لَفِي يدي، فقصصتُها على النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «تِلْكَ الرَّوْضَةُ الإِسْلَامُ، وَذَلِكَ الْعَمُودُ عَمُودُ الإِسْلَامِ، وَتِلْكَ الْعُرْوَةُ عُرْوَةُ الْوُثْقَى، فَأَنْتَ عَلَى الإِسْلَامِ حَتَّى تَمُوتَ»[6]!

وهذا الرَّجُلُ الذي تحدَّث عنه قيس هو الصحابي الجليل عبد الله بن سلام رضي الله عنه، والشاهد من الموقف أن قيسَ بن عُبَاد رضي الله عنه رأى أثر الخشوع على وجه الصحابي الجليل عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وأدرك ذلك دون أن يُخبره بذلك أحد! وهذا لون من الإكرام الذي يرزقه الله عز وجل لعباده الصالحين الخاشعين؛ بل قد يراهم الإنسان فيقع في قلبه حبُّهم قبل أن يتعرَّف عليهم، أو يتكلَّم معهم! وهو ما حدث -مثلًا- مع الصحابي الخاشع العالِم معاذ بن جبل رضي الله عنه، حيث رآه التابعيُّ الجليل أبو مسلم الخولاني[7] فأحبَّه قبل أن يتكلَّم معه، أو يتعامل معه! يقول أبو مسلم رضي الله عنه: «دخلتُ مسجد حِمْصَ، فإذا فيه نحوٌ من ثلاثين كهلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيهم شابٌّ أكْحَلُ العينين، بَرَّاقُ الثَّنَايَا، ساكتٌ، فإذا امْتَرَى الْقَوْمُ في شيءٍ أقْبَلُوا عليه فسألوه، فقلتُ لجليسٍ لي: مَنْ هذا؟ قال: هذا معاذ بن جَبَلٍ. فوَقَعَ له في نفسي حُبٌّ!»[8].

إن ما حدث مع عبد الله بن سلام ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما ليس أمرًا عجيبًا، أو حدثًا نادرًا، بل هو سُنَّة مُطَّرِدة، وقانون ثابت، فهذا يحدث مع كلِّ الصالحين الخاشعين، الذين فازوا بحبِّ الله عز وجل، فزرع الله حبَّهم في قلوب عباده، وهو ما حكاه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: «إِذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ. فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ. فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ»[9]!

حبٌّ من الله -سبحانه وتعالى-..

وحبٌّ من جبريل..

وحبٌّ من أهل السماء..

وحبٌّ من أهل الأرض..

إنها -والله- لنعمة جليلة..

نعمة الخشوع!

ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــ
[1] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله يقال: هذه سبيلي وهذا سبيلي، (2637) واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأحمد (22140)، وابن حبان (7390)، والبيهقي: السنن الكبرى، (17544).
[2] مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالعصر، (622)، والترمذي (160)، والنسائي (1497)، وأحمد (12018)، وأبو يعلى (3696).
[3] أبو داود: كتاب الصلاة، باب وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، (1319)، وأحمد (23347)، والبيهقي: شعب الإيمان، (3181)، وقال ابن حجر العسقلاني: أخرجه أبو داود بإسناد حسن. انظر: فتح الباري، 3/172، وحسنه الألباني، انظر: صحيح أبي داود، 5/65.
[4] هو: قيس بن عباد، أبو عبد الله، القيسي، الضبعي، البصري، من كبار التابعين، قال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وذكره العجلي في التابعين، وقال: ثقة من كبار الصالحين. ووثقه النسائي وغيره، وذكره ابن قانع في معجم الصحابة، وأورد له حديثًا مرسلًا، وقيل: خرج مع ابن الأشعث فشهد معه مواطنه كلها يُحَرِّض الناس، حتى إذا أهلكهم الله جلس في بيته، فبعث إليه الحجاج فضرب عنقه. توفي بعد سنة 80هـ. ابن حجر: الإصابة، 5/535 (7307)، والمزي: تهذيب الكمال، 24/64-69.
[5] المنصف: الخادم، وقيل: هو الوصيف الصغير المدرك للخدمة. ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 7/131، والنووي: المنهاج 16/42.
[6] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عبد الله بن سلام رضي الله عنه، (3602)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب من فضائل عبد الله بن سلام رضي الله عنه، (2484).
[7] هو: أبو مسلم الخولاني، عبد الله بن أثوب، الزاهد، اليماني، الشامي، ثقة عابد من كبار التابعين، أدرك الجاهلية، أسلم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره، وقدم المدينة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وله كرامات وفضائل؛ قيل: لما تنبأ الأسود باليمن بعث إلى أبي مسلم، فقال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: ما أسمع. قال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم. فأمر بنار عظيمة، وألقاه فيها فلم يضره ذلك، فأمره بالرحيل حتى لا يُفسد عليه من اتبعه. توفي سنة 62هـ. ابن عبد البر: الاستيعاب، 3/876، 4/1757-1759، وابن الأثير: أسد الغابة، 3/192، والذهبي: سير أعلام النبلاء، 4/7-14، والصفدي: الوافي بالوفيات 17/55، 56.
[8] وقوله هذا في حديث: «المُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ». رواه أحمد (22133) واللفظ له، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الصحيح غير حبيب بن أبي مرزوق فقد روى له الترمذي والنسائي وهو ثقة. والموطأ – رواية يحيى الليثي (1711)، وابن حبان (575)، والحاكم (7314)، والطبراني: المعجم الكبير، (16907).
[9] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، (3037) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبدًا حببه إلى عباده، (2637).
من كتاب كيف تخشع في صلاتك للدكتور راغب السرجاني