جاءتك دعوة من ملك البلاد لحضور حفل كبير، والدعوة خاصة، فلن يحضر الشعب كله.. إنما هي مجموعة منتقاة فقط! وأنت منهم!
ما شعورك؟
فرح!
رهبة!
خشية!
قلق!
أبْشِرْ..!
قد جاءتك الدعوة فعلًا!
لكنها ليست من ملك البلاد!
إنما من ملك السموات والأرض!
ما شعورك؟!
....
....
أقول لك:
لو لم نشعر بالفرح.. بالرهبة.. بالخشية.. بالقلق.. فنحن لا نعرف الله تعالى!
الصلاة دعوة خاصة للقاء ملك السموات والأرض..
ليس كل الشعب معك..
كثير غافلون..
لاهون..
بعيدون.. بعيدون..
بلا عنوان..
قد جاءتك الدعوة..
فلْتَعْرِف الملك قبل أن تدخل عليه!
فإنَّ مَنْ رضي عنه الملك سَعِد..
ومَنْ سَخِط عليه الملك فلن يسعد.. أبدًا!.. أبدًا!
هل تعرف مَنْ هو الله سبحانه؟!
قد يعتقد المسلم المُصَلِّي أن هذا السؤال لا معنى له بالنسبة إليه، فكلنا -ما دمنا نصلِّي- فإننا لا شكَّ نعرف الله تعالى الذي نُصَلِّي له! لكن واقع الأمر أننا لا نعرفه حقَّ المعرفة.. وإلَّا فكيف لا تخشع قلوبنا عند لقائه، بينما تخشع قلوبنا عند لقاء الملوك والزعماء والقادة؟!
إننا نحتاج أن نقف مع أنفسنا وقفات لنُجيب عن هذا السؤال بطلاقة..
ولنذكر أن هذا هو أحد الأسئلة التي ستسألها لنا الملائكة في قبورنا! مَنْ ربك؟!
إنها قضية المحيا والممات.. قضية الدنيا والآخرة..
قضية الإنسان.. كل إنسان..
الله هو رب العالمين..
هكذا عَرَّف نفسه سبحانه في فاتحة الكتاب، التي لا تصحُّ الصلاة دونها.. فنحن عندما نقرأ هذه الآية نُعلن أننا قد عرفناه بهذه الصفة العظمى: ربّ العالمين..
وكلمة العالمين تشمل كل ما سوى الله تعالى[1]؛ ومن ثَمَّ فهي تشمل جميع الإنس والجنِّ والملائكة، وتشمل عوالم الحيوان والطير والأسماك والحشرات والنباتات، وتشمل الكائنات الدقيقة التي لا حصر لها، وتشمل الأجرام والأفلاك، والنجوم والكواكب، وتشمل الجبال والبحار والسهول والقفار.. وتشمل أهل الأرض وأهل السماء، وتشمل ما نعرف وما لا نعرف!
ذلك ربُّ العالمين!
المتصرِّف في كل ذلك بما يُريد، الذي يحكم ولا مُعَقِّب لحُكمه، الذي له الخلق والأمر، الذي بيده ملكوت السموات والأرض، الذي يُجير ولا يُجار عليه..
ربُّ العالمين..
عالِم الغيب والشهادة..
فاطر السموات والأرض..
ربُّ كلِّ شيء ومليكه..
لو قدرنا لله قَدْره ما شُغِلْنا إلَّا بعبادته، ولهذا خَلَقَنا سبحانه..
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56].
عندما نفهم هذا المعنى ستتحوَّل كلُّ لحظة من لحظات حياتنا إلى عبادة ربِّ العالمين، وسيشمل الخشوعُ له سبحانه كلَّ أوقاتنا وأعمالنا، وسنراقبه في سرِّنا وعلننا، وفي عباداتنا ومعاملاتنا، وسيشمل ذلك الصلاة وغيرها؛ بل ستُصبح الصلاة دُرَّةَ هذا الخضوع والخشوع لله ربِّ العالمين.
إننا نحتاج أن نعرف ربَّ العالمين!
ولو عرفناه.. لخشعت قلوبنا وعقولنا وجوارحنا، وكل ذَرَّة في كياننا..
كيف نعرفه حقَّ المعرفة؟
إن لهذا الأمر طرقًا عدَّة، وأساليب شتى، ولكنني في هذا المقام لن أتحدَّث إلَّا عن أمرٍ له أبلغ الأثر في معرفة الله تعالى، وفي تقديره قَدْرَه؛ ومن ثَمَّ فله أكبر الأثر في الوصول إلى درجة الخشوع التي نُريدها.. قراءة القرآن الكريم:
من أوثق الطرق لمعرفة ربِّ العالمين أن نقرأ رسالاته إلى البشر، وفيها عرَّفهم بنفسه، وذكر لهم فيها ما يُريده منهم ويحبُّه لهم.. وقد جعل الله تعالى هذه الرسالات دليلًا عليه سبحانه؛ ومن ثمَّ فهي أقرب الطرق لتقديره وتوقيره؛ لذلك قال سبحانه: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[الأنعام: 91، 92]، فذكر سبحانه حال الكفار، وأنهم لا يقدرون لله قدْرَه، وذكر ردًّا عليهم أنه هو سبحانه الذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام، ثم أنزل الإنجيل، فالقرآن، وحيث إن التوراة والإنجيل تم تحريفهما، فإنه لم يَعُدْ هناك طريق سليم من هذه الرسالات لمعرفة الله تعالى إلَّا القرآن الكريم، والذي تكفَّل الله بحفظه.. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحَافِظُونَ}[الحجر: 9]، وذكر سبحانه أن هذا الكتاب مبارك، وأنه جمع ما جاء في الكتب السابقة، وأنه أبلغ وسيلة لإنذار القرى والناس، كما ذكر أمرًا مهمًّا يخصُّنا في موضوعنا، وهو أن الذين يعتبرون بهذا الكتاب يُحافظون على صلاتهم؛ فالعلاقة وثيقة بين قراءة القرآن وبين تقدير الله تعالى والصلاةِ؛ ومن ثَمَّ فهي دعوة مباشرة لمَنْ يُريد أن يخشع في صلاته أن يقرأ القرآن الكريم، ويتدبَّر فيه.
والقرآن الكريم كلام الله سبحانه، وهو معجز غاية الإعجاز، ومؤثِّر غاية التأثير، وفيه أسرار عجيبة، ظهر لنا طرف يسير منها فأذهَلَنا، ولم تظهر لنا غالب أسراره، وكلُّ يوم يمرُّ علينا نكتشف فيه الجديد والجديد.. ونحن نقرأ هذا القرآن العظيم في صلاتنا، ولكن ليست هذه هي القراءة التي أقصدها في هذه النقطة؛ إنما أقصد المحافظة على وِرْد ثابت لقراءة القرآن الكريم أثناء اليوم والشهر خارج الصلاة المكتوبة، أو في صلاة الليل، وهذا الورد الثابت سيرفع من قَدْر الله تعالى في القلب، وهذا سيقود بدوره إلى الخشوع التلقائي في الصلاة، وأقلُّ وِرْد مناسب في رأيي هو قراءة جزء واحد من القرآن يوميًّا؛ فتختم القرآن كاملًا في شهر، وأخشى أن يكون ختم القرآن في أكثر من ذلك نوعًا من هجر القرآن! وأَنَّى لهاجر القرآن أن يخشع في صلاته؟! وقد نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يختم القرآن في شهر، فقال له: «اقْرَأ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ». قال: إنِّي أُطِيقُ أكثر. فَمَا زَالَ حَتَّى قَالَ: «فِي ثَلَاثٍ»[2].
فالرسول صلى الله عليه وسلم وضع المقياس في هذا الحديث، فجعل أعلاه أن تختم القرآن في ثلاثة أيام، وأدناه أن تختمه في شهر، ولنا فيه صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ونحن بمجرَّد طاعته نرشد ونهتدي؛ بل جعل الله تعالى اتَّباع رسول الله صلى الله عليه وسلم علامة على حبِّ العبد لله تعالى؛ فقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[آل عمران: 31]، وهذا اتِّبَاع في عمل من أشرف الأعمال وأجلِّها، وهو قراءة القرآن الكريم.. فحِرْصُنَا على هذا الهدي النبوي دليلٌ على حُبِّنا لله سبحانه وتقديرنا له، والذي يُحافظ على قراءة القرآن يصل إلى منزلة راقية قد لا يتخيَّلها أبدًا! وقد عَرَّفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه المنزلة العجيبة فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ للهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ». قالوا: يا رسول الله؛ مَنْ هُمْ؟ قال: «هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ»[3]. فانظر إلى الفضل الجليل، عندما تُصبح من أهل الله وخاصَّته! فكيف لهؤلاء أن يغيب عنهم الخشوع في الصلاة؟!
ثم إن الله تعالى ذكر لنا أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين قراءة القرآن والخشوع، فقال سبحانه: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}[الإسراء: 107-109]، فالآية تذكر بوضوح أن تلاوة القرآن تزيد الخشوع، وقال تعالى في موضع آخر وهو يصف حال المؤمنين: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}[الأنفال: 2]، وقال تعالى أيضًا: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[التوبة: 124]، ومثل ذلك كثير في القرآن الكريم؛ فالعلاقة متناسبة تناسبًا طرديًّا واضحًا؛ بل يتجاوز ربُّ العالمين حدود البشر ويذكر أن أثر القرآن الكريم يتعدَّى إلى الجمادات الصمَّاء!! فيقول سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ}[الحشر: 21]، فإذا كان هذا الجماد القاسي يخشع إذا تُلي عليه القرآن، فكيف بقلب المسلم؟!
مِنْ كل ما سبق نعلم أن مجرَّد قراءة القرآن يقود تدريجيًّا إلى أن نَقْدِرَ لله قَدْره، فإذا قرأناه بتدبُّر زاد تقديرنا لله تعالى، ويتبع ذلك بشكل تلقائي زيادة في الخشوع بشكل عامٍّ، وفي خشوع الصلاة بشكل خاصٍّ، فضلًا عن تحصيل الأجر العميم لقراءة القرآن الكريم، وهو أجر يفوق تخيلاتنا بكثير!
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــ
[1] انظر: ابن عجيبة: البحر المديد 1/24، ومحمد بن عبد الوهاب: تفسير آيات من القرآن الكريم ص11، والسعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ص39، والجزائري: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير 1/12.
[2] البخاري: كتاب الصوم، باب صوم يوم وإفطار يوم، (1877)، وعند مسلم: «فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ». مسلم: كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرَّر به أو فوَّت به حقًّا أو لم يفطر، (1159).
[3] ابن ماجه: افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب فضل مَنْ تعلَّم القرآن وعَلَّمه (215)، وأحمد (12301)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والدارمي (3326)، والحاكم (2046)، وصحَّحه الوادعي، انظر: الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين، 1/43، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع 1/432.
من كتاب كيف تخشع في صلاتك للدكتور راغب السرجاني