التأثير الشبحي عن بعد (الجزء الأول)
التأثير الشبحي عن بعد (الجزء الأول)
صُندوق مغلق وضعنا بداخله جسيمًا وليكن إلكترون مثلًا، الفراغ دَاخل الصندوق مقسمٌ لمناطق محددة.
طبقًا لميكانيكا الكم، فلن يكون للإلكترون وجود محدد في أي من المَناطق دَاخل الصندوق، ما بداخل الصندوق مجرد دالة موجية تشغل حيّز فَراغ الصّندوق كله، أي أنّ الإلكترون عبارة عن هذه الدالة الموجية، نعرف من هذه الدالة الموجية احتمالية وجود الإلكترون في كل منطقة في الصندوق، لكن لا يتحقق احتمال ما من دالة الاحتمالات إلا أثناء فتح الصّندوق أو مُحاولة رصد الإلكترون لقياس أيّ شيء عنه، وبمعنى أدق:
لا مكان محدد للإلكترون قبل فتح الصندوق، عند فتح الصندوق تنهار الدالة الموجية ويأخذ الإلكترون مكانًا داخل الصندوق، وبشكل عام تحدد الدالة الموجية دالة اخرى من الاحتمالات، تحدد دالة الاحتمالات القيمة الاحتمالية لوجود الإلكترون في كل منطقة داخل الصندوق، نعرف من دالة الاحتمالات أنه توجد منطقة في منتصف الصندوق تكون احتمالية وجود الالكترون فيها 50% وذلك فقط عند مستوى الطاقة الأخفض للالكترون، عند فتح الصّندوق تَنهار الدالة الموجية آنيًا ويَظهر الإلكترون في أيّ منطقة عشوائيًا في الصندوق، أي أنّ الإلكترون عند فتح الصندوق قد يتخذ منطقة المنتصف تلك أَو منطقة غيرها، لكن عند تكرار التجْربة 100 مرة مثلاً، سنجد أنّ الإلكترون قد اتّخذ منطقة المنتصف في 50 مرة تقريبًا من المَائة مرّة، وهذا مَا يعنيه قول الدالة بأنّ احتمالية وُجود الإلكترون في منطقة المنتصف 50%.
قدم أينشتاين وبوريس بودولسكي وناثان روزين عام 1935، ورقة علمية مثيرة للجدل ومصحوبة بكثير من سوء الفهم، مشهورة بـ “EPR” اختصارًا يمثّل الأحرف الأولى من أسماء المُشاركين فيها، وكان مضمونها كالتالي:
صناديق أينشتاين:
سنَقوم بتقسيم صندوقنا الكبير نصفيْن، كما بالصّورة، الآن لدينا صندوقين صغيرين، كل صندوق منهما هو نصف الصندوق الكبير، سنضع أحدهما بعيدًا على القمر:
طبقًا لميكانيكا الكم فإنّ الإلكترون لم يكن له وجود محدد في الصندوق قبل تقسيمه، وبالتالي ما كان موجودًا قبل التقسيم هو ما سيكون موجودًا بعد التقسيم، وهي الدالة الموجية، وبالتالي سيكون لدينا في كل صندوق صغير نصف الدالة الموجية:
طبقًا لميكانيكا الكم، وبخاصة تفسير كوبنهاجن، فإنّ الإلكترون هُو حاصل جمع نصفيّ الدالة الموجية، وهذَا يَعني أنّه عند فتح أحد الصناديق، سينهار نصفَا الدالة الموجية كلها آنيًا في كلٍ من الصندوقين معَا، حتى لو كَان أحد الصناديق بعيدًا جدًا على القمر! وذلك ليَظهر الإلكترون في أحد الصناديق كنتيجة لفتحه، وهذا يعني أنه عند فتح الصندوق الذي على الأرض يوجد احتمالان:
الأوّل: ينهار نصفا الدالة الموجية ونجد الإلكترون في الصندوق الذي على الأرض.
الثاني: ينهار نصفا الدالة الموجية ولا نجد الإلكترون في الصندوق الذي على الأرض، وفي هذا الاحتمال تكون المشكلة أكثر وضوحا:
عند تحقق الاحتمال الثاني، سنكون متأكدين أن الإلكترون كان في الصّندوق الذي على القَمر طول هذه المدّة التي انقضت قبل فتح الصندوق الذي على الأرض، لكن ميكانيكا الكم لا تخبرنا في أي صندوق كان الإلكترون قبل الفتح لأنها تؤكد أنه لا معنى للحديث عن مكان الإلكترون في أيّ من الصندوقين، لأنّ الموجود هو نصفا الدالة الموجية للإلكترون فقط، نصف في كل صندوق، لا تستطيع ميكانيكا الكم معرفة في أي الصندوقين كان الإلكترون طول المدّة التي انقضت مع أنّنا كنّا نَعلم، ولذلك اعتبر أينشتاين أنّ ميكانيكا الكم غير مكتملة، وأنّه لابد من وجود عَوامل أخرى لا توجد في الصياغة النظرية لميكانيكا الكم، هي ما تحدد أي الصناديق كان فيه الإلكترون، عامل إضافي غير الدالة الموجية، لكنّنا لا نعرف هذا العامل بعد.
التفسير:
اتخذ أينشتاين وروزن وبودولسكي موقفًا متحيزًا في تفسير الدالة الموجية حيث قرّروا أنّها لا بد وأن تكون معرفية، أي أنّها تمثل فقط قلة معرفتنا نحن عن مكان الإلكترون. وإذا كانت هذه المعرفة ناقصة أو مُمَثّلة باحتمالات فهذا لا يَعني أنّ الإلكترون ليس موجودًا في أحد الصناديق كما تقول ميكانيكا الكم، أي أن:
“الإلكترون موجودٌ في أحد الصناديق قبل الفتح، لكنّ ميكانيكا الكم لا تستطيع أن تخبرنا في أي من الصندوقين يوجد، وهذا يعني أنّه توجد عوامل أخرى لا نعرفها من المُفترض أن توجد في ميكانيكا الكم لتنجح النظرية في معرفة في أي من الصندوقين يوجد الإلكترون قبل فَتحه، أي أنّ “ميكانيكا الكم غير مكتملة”.
وكانت النسبية مصدر تحيزهم لأنها تحرّم أي تأثير سببي أسرع من الضوء، لأنه اذا لم تكن الدالة الموجية معرفية ستكون حقيقية، أو تمثل وجودًا فيزيائيًا حقيقيًا وأنّ الإلكترون غير موجود في أحد الصناديق فعلًا، كما تَفترض ميكانيكا الكم بالأساس، وعند فتح الصندوق الذي على الأرض يحدث انهيار آني للدالة الموجية في الصندوقين معًا، ويَظهر الإلكترون في الصندوق الذي على القمر كنتيجة لإنهيار نصف الدالة الموجية الحقيقية على الارض وذلك يحدث في نفس وَقت فَتح الصندوق على الأَرض، ومن المستحيل تفسير ذلك كله إلّا من خلال تأثير سببي فيزيائيّ آني أَسرع من الضوء، أو كما سمّاه أينشتاين “التأثير الشبحي عن بعد”،
ولأنّ نسبيّته الخاصة حينها قد امتدت جذورها بقوة في الفيزياء، فقد رفض أغلب الفيزيائيّين وبخاصة مدرسة كوبنهاجن إعتبار الدالة الموجية حقيقية، وذات تأثير فيزيائي حقيقي، حتى تبقى فروض النسبيّة الخاصة سليمة. وسنرى في الجزء الثاني لماذا تحرّم النسبية التأثير السببيّ الأسرع من الضوء أو التأثير الشبحي، ولكن ما يعنينا هنا أنّ الفيزيائيين قد وافقوا أينشتاين في فكرة ان الدالة الموجية معرفية وغير حقيقية، ولا يوجد تأثير آني بين الصندوقين لأنه محرم، ولكنهم في نفس الوقت اعتبروا أينشتاين مخطئًا ولم يوافقوه في جانب آخر وهو قوله أنّ “ميكانيكا الكم غير مُكتملة”، ولم يفهمُوا عُمق المُشكلة التي تعرضها الورقة، لأانه ان كانت الدالة الموجية معرفية، فميكانيكا الكم لا بد وان تكون غير مكتملة لانها لا تخبرنا في أي من الصناديق كان الالكترون.
حاول أغلبهم موازنة الأمور ومسك العصا من منتصفها ولكن، حينما يثبت أحدهم أن تنبؤ ميكانيك الكم بأن “هناك تأثير سببي أسرع من الضوء” صحيح، فإن أينشتاين سيكون مخطئا؛ ليس في اعتباره أنّ ميكانيكا الكم غير مكتملة، بل في اعتباره أنه لا توجد تأثيرات سببيّة أسرع من الضوء، وهنا سيكون موافقة الفيزيائيين لأينشتاين بأنّ الدالة الموجية غير حقيقية، بل معرفية فقط لأنّه لا تُوجد تأثيرات سببية أسرع من الضوء، خطأ حقيقي.
هل أخطأ أَينشتاين؟
في الحقيقة أخطأ أينشتاين لكن ليس لذلك السبب الذي فهمه الفيزيائيون؛ أنّ “ميكانيكا الكم غير مُكتملة”. لقد أخطأ في شيء آخر تمامًا!
يمكن إعادة صياغَة ما تقوله ورقة الـ EPR بالشكل التالي: “إذَا كانت التأثيرات السببيّة الأسرع من الضوء مُحرمة، فإنّ ميكانيكا الكم غير مكتملة”.
هنا تَدَخّل جون ستيوارت بيل، ووضع اختبارًا تجريبيًّا دقيقًا للطبيعة، للإجابة على السؤال: هل تحرّم الطبيعة بالفعل التأثيرات السببيّة الأسرع من الضوء؟
يضع التجريبيّون حتى الآن الطبيعة في اختبار بيل، والنتيجة دائما: “تسمح الطبيعة بتأثيرات سببيّة أسرع من الضوء”. وسنرى في الجزء الثالث كيف أثبت بيل حقيقة التأثير الشبحي عن بعد من خلال مبادئ ميكانيكا الكم المعيارية.
بناءًا على ذلك، فإنّ أينشتاين كان مخطئًا في اعتباره أنّ التأثيرات السببيّة الأسرع من الضوء محرمة، وبالتالي فإنّ الدالة الموجية حقيقية وليست معرفيّة، بغض النظر عن اكتمال ميكانيكا الكم أم لا.
عمق المشكلة:
بالنسبة لأينشتاين فإنّ ورقة الـ EPR تقول أنّ ميكانيكا الكم غير مكتملة والدالة الموجية معرفية فقط وليست حقيقيّة. وبالنسبة للفيزيائييّن فإنّ الوَرقة أَخطأت في اعتبار أنّ “ميكانيكا الكم غير مكتملة لكنّها أثبتت أن الدالة الموجية معرفيّة وليست حقيقية”. لكن هذه الورقة بالنسبة لجون بيل كانت بداية لمصطلحات جديدة ولنظرة مختلفة تمامََا عن الطبيعة.
أي أنّه على الرّغم من أن أينشتاين كان مخطئًا في اعتباره أنّ ميكانيكا الكم غير مكتملة للأسباب التي وضّحها في ورقة الـ EPR (قد تكون ميكانيكا الكم غير مكتملة لكن ليس للأسباب التي وضحها أينشتاين)، فإنّه على أيّ حال نجح من خلال هذه الورقة في إظهار احتمالية وُجود خاصيّة جديدة ومختلفة تمامًا وصعبة على التخيل وهي وُجود تَأثير سببي أَسرع من الضوء في الطبيعة.
وهذا التأثير لا يُمكن تفسيره إلا باعتبار أن الدالة الموجيّة حقيقية وليست معرفية، وهذا ما لم يتصالح أينشتاين معه ولم يفهمه الفيزيائيون، بما فيهم أَصحاب الوَرقة نَفسهم، وهذا ما تمّ تَأكيده تجريبيََا على أيّ حال من خلال إختبار بيل، وبغض النّظر عن إكتمال ميكانيكا الكم أو لا فالتأثير السببي الأسرع من الضوء حقيقيّ.
سنعرف في الجزء الثاني لماذا رفض أينشتاين التأثير الشبحي عن بعد.