عقد يرجع عهده إلى العصر الحجري
تابوت الأحشاء، توت عنخ آمون
إن مجموعات التحف الفنية المحفوظة في المتاحف والتي تمثل فن صوغ المعادن الثمينة orfèvrerie تدل على عراقة هذه الصياغة وعلى تنوعها عبر العصور منذ بداية ظهور المعدن، إذ كانت الحلي، قبل التاريخ، مقتصرة على العظام والحسك والأحجار والقواقع.
وبعد أن اكتشف الإنسان المعدن في عصر البرونز وعصر الحديد، ولاسيما معدن الذهب الذي عثر عليه في المناجم أو في قاع الأنهار ومجاري المياه، ظهرت صناعة صوغ المعدن عن طريق صهره وسكبه في قوالب آجرّية تعود إلى الألف الثالث والثاني قبل الميلاد، عثر عليها في منطقة الشرق الأوسط. أما في أوربا، فقد تأخر ظهور المعدن كما تأخر فن صوغه على شكل حلي ومتاع ثمين.
وعدا عن الذهب فإن مادة صوغ المعادن امتدت إلى الفضة والبرونز والنحاس والعاج والزجاج والصدف ثم اللؤلؤ. ويتم صوغ المعادن عن طريق السكب والسحب واللحام، إذ يُصهر المعدن، ذهباً كان أم فضة، في بواتق على حرارة عالية، ثم يسكب على شكل صفائح تُطرق لكي تزداد رقتها أو تسحب من خلال اسطوانتين. وللحصول على أشرطة وقضبان يسحب المعدن على لوح مثقب ويُمرر الشريط من خلال الثقوب لإنتاج السلك المطلوب.
ولصياغة قطعة ما، يستفاد من الألواح التي تزين بالنقش أو الضغط، كما يستفاد من الأسلاك على شكل لوالب أو زردات أو شبكات، ويتم لحام أجزاء القطعة بتسليط النار على رقائق المعدن مع مادة البورق في مكان الربط. ويقوم الصائغ بتكييف الألواح والأسلاك لتشكيل موضوعه بمهارة ودقة. ولاتزال طريقة صوغ المعادن يدوياً سائدة حتى اليوم، إضافة إلى الطريقة الآلية والقولبة التي تشتهر بها إيطاليا اليوم.
اهتمت المرأة غالباً، والرجل أحياناً، باقتناء المصوغات. وكانت أهميتها التجميلية والاجتماعية عالية عند النساء في جميع عصور التاريخ. وقد صنعت هذه المصوغات من المعادن الثمينة والأحجار الكريمة الغالية، ولذلك كان اقتناء الأثرياء والملوك لها دليلاً على امتلاك الثروة والتفوق. وتحتفظ متاحف درسدن (ألمانيا) والكرملين (روسيا) وطوب كابي (تركيا) بروائع الصياغة.
ومن أشهر المصوغات الملكية التيجان، ويحوي تاج الملكة فكتوريا (1838) أكبر حجر ماسي في العالم، وهو محفوظ في برج لندن.
وتحتفظ المصوغات المصرية القديمة بقيمتها غير المحدودة بسبب جمالها الرائع وقدمها وندرتها. ومن أبرز هذه المصوغات توابيت مدفن توت عنخ آمون المغلفة بالذهب المنقوش والمحلّى بالأحجار، وما تحتويه من متاع ومقاعد وأقنعة وحلي وأوان ذهبية بلغت قمة هذا الفن بجودتها ورفعة الإبداع فيها. ويقف إلى جانب هذه المصوغات القديمة كنز أور الذهبي الموجود في المتحف العراقي، وكنوز الحلي الذهبية التي عثر عليها في المكسيك.
وفي سورية عثر على مجموعات مهمة من التحف المصوغة التي تعود إلى بداية التاريخ، وقد وزِّعت على المتاحف الأثرية.
وعثر في إبلا (في سورية) في مدفن تحت الأرض على مجموعة من الحلي الذهبية تعود إلى الربع الأول من الألف الثاني ق.م، منها سوار ذهبي صنع من شريط سميك من الذهب مطرّق عند نهايته تطريقاً دائرياً، أضيفت إليه سلاسل من الكرات الذهبية الصغيرة حززت في نهايتها. وفي المكان نفسه عثر على دبوس ذهبي طويل مؤلف من قطعة واحدة، فتل القسم العلوي منه وصار ذا أضلاع، وحُزِّز الدبوس بخطوط رفيعة طويلة، وينتهي رأس الدبوس بنجمة ثُمانية الرؤوس. وثمة قرط ذهبي فريد من نوعه عثر عليه في المكان ذاته، صنع من طبقة سميكة من الذهب، ونقش عليه معين صنعت عليه حبيبات ذهبية صغيرة. ومن مصوغات هذا الكنز قلادة للعنق من الذهب، وحجر اللازورد والمرو البنفسجي تتألف من (21) درة كروية ذهبية على شكل رمانة.
وفي ماري (سورية) عثر على مصوغات مهمة، منها عقد يعود إلى القرن 14 ـ 13 ق.م، ويتألف من قطع ذهبية مضمومة بالتناوب مع أحجار كريمة من العقيق واللازورد والحجر الأزرق، وتتألف القطع الذهبية من شريط ذهبي على شكل دوائر أربع.كما عثر على خاتم ذهبي منقوش على شكل قوقعة حلزونية محشوة بالأسفلت تقليداً للحجر الكريم.
ومـن روائـع صوغ المعدن في العصر الروماني، قلادة لوزية الشكل من الذهب الخالص محلاة بعشرة أحجار بنفسجية تحيط بأحجار فيروزية وأحجار من العقيق، وفي وسطها نقش نافر يمثل ربة رومانية.
إبلا: قلادة ذهبية
بلغت الصياغة في مملكة تدمر مستوى عالياً من الدقة والجمال، تشهد على ذلك التماثيل النسائية التي حملت جميعها مظاهر الزينة الممثلة بالمجوهرات والحلي، ومن عقود وأقراط وأساور وخواتم، مما يدل على ازدهار فن صوغ المعادن والأحجار الكريمة في تدمر يفوق الفن الذي كان سارياً في روما. وفي متحفي دمشق وتدمر مجموعات من المصوغات تعود إلى ذلك العصر، ولعل القلادة الثمينة التي عثر عليها في دورا أوروبوس من أجمل الأمثلة على مصوغات ذلك العصر. وفي الرصافة عثر على كنز رائع من المصوغات الكنسية المؤلفة من كؤوس ذهبية وفضية مزخرفة.
ومن روائع فن صوغ المعادن في العصر الإسلامي، سوار عثر عليه في الرقة (سورية) يعود إلى القرن الحادي عشر، مصوغ من الذهب الخالص، ويلتف حول السوار لولبياً شريط زخرفي بشكل حراشف تحدد الكتابات المنقوشة على السوار بخط كوفي تحمل عبارات التبريك. وهذا السوار محفوظ في متحف دمشق، وله نظير يعود إلى العصر الفاطمي في متحف فرير واشنطن.
قناع مأتمي (توت عنخ آمون) 1340ق.م من الذهب المشغول بالمينا
مسند العرش لضريح توت عنخ آمون من الخشب المحفور
الموشى بالذهب والخزف الصيني (1355ـ1142ق.م)
برعت البلاد العربية بفن صوغ المعادن الثمينة عبر التاريخ الطويل. وكانت هذه المعادن تستخرج محلياً أو تستورد. أما الأحجار الكريمة فكان أكثرها يستورد من الشرق. وتمارس هذه الصناعة أسر تحمل اسم الصائغ أو الصايغ أحياناً.