بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
قالت إحدى الطبيبات: دخلت علييَّ في العيادة امرأة في الستينيات بصحبة ابنها الثلاثيني!! ولاحظت حرصه الزائد عليها، يمسك يدها، ويصلح لها عباءتها، ويقدم لها الأكل والماء..
بعد سؤالي عن المشكلة الصحية طلبت الفحوصات، سألته عن حالتها العقلية؛ لأنّ تصرفاتها لم تكن موزونة، ولا ردودها على أسئلتي
فـقال: إنها متخلفة عقليًا منذ الولادة!!
تملكني الفضول فـسألته: فـمن يرعاها؟
قال: أنا
قلت: ونعم الابن!! ولكن من يهتم بنظافة ملابسها وبدنها؟!
قال: أنا أدخلها الحمّام -أكرمكم الله- وأحضر ملابسها
وانتظرها إلى أن تنتهي وأصفف ملابسها في الدولاب
و أضع المتسخ في الغسيل وأشتري لها الناقص من الملابس!!
قلت: ولم لا تحضر لها خادمة؟!
قال: [لأن أمي مسكينة مثل الطفل لا تشتكي، وأخاف أن تؤذيها الشغالة]
اندهشت من كلامه ومقدار برّه
وقلت: وهل أنت متزوج؟
قال: نعم.. والحمد لله لديّ أطفال
قلت: إذن زوجتك ترعى أمك؟
قال: هي ما تقصر وهي من تطهو الطعام وتقدمه لها
وقد أحضرت لزوجتي خادمة حتى تعينها ولكن أنا أحرص أن آكل معها حتى أطمئن بسبب السكر !
زاد إعجابي ومسكت دمعتي !
اختلست نظرة إلى أظافرها فرأيتها قصيرة ونظيفة
قلت: أظافرها؟
قال: أنا، يا دكتورة هي مسكينة!
نظرت الأم لـولدها وقالت: متى تشتري لي بطاطس؟!
قال: أبشري الآن نذهب إلى البقالة!
طارت الأم من الفرح وقالت: الآن.. الآن!
التفت الابن وقال: والله إني أفرح لفرحتها أكثر من فرحة عيالي الصغار.."
وتتابع الطبيبة حديثها وتقول:
عندها تعمدت أن أشغل نفسي.. وتظاهرات بأني أكتب في الملف؛ لكي لا يظهر أنـّي متأثرة بالموقف أمامي!!
وسألته: هل عندها غيرك؟
قال: أنا وحيدها؛ لأن الوالد طلقها بعد شهر!!
قلت: أجل ربـّاك أبوك؟!
قال: لا جدتي كانت ترعاني وترعاها، وتوفت -الله يرحمها- وعمري عشر سنوات!
قلت: هل رعتك أمك في مرضك، أو تذكر أنها اهتمت بك؟
أو فرحت لفرحك، أو حزنت لحزنك؟
قال: يا دكتورة.. أمي مسكينة من عمري عشر سنين وأنا شايل همها، وأخاف عليها وأرعاها!!
كتبت الروشته وشرحت له الدواء!!
مسك يد أمـّه، وقال:
هيا بنا إلى البقالة...
قالت: لا نروح مكـّة!
.. استغربت!
قلت لها: ولماذا مكة؟
قالت: لأركب الطيارة!
قلت له: هل ستأخذها إلى مكّة؟
قال: نعم!!
قلت: هي ليس عليها حرج لو لم تعتمر، فلماذا تضيّق على نفسك؟
قال: يمكن الفرحة إللي تفرحها لو وديتها.. أكثر أجرًا عند رب العالمين من عمرتي بدونها!!
وتابعت الطبيبة قائلة: خرجا من العيادة.. وأقفلت بابها، وقلت للممرضة: أحتاج للرّاحة
بكيت من كل قلبي.. وقلت في نفسي: كل هذا البر وهي لم تكن له أمًا بمعنى الكلمة..
فقط حملت وولدت.. لم تربِ، ولم تسهر الليالي، ولم تُذاكر له دروسه، ولم تتألم لألمه، لم تبك لبكائه، لم يجافيها النوم خوفًا عليه، لم.. ولم..!
ومع كل ذلك..
كل هذا البر...!
فهل سنفعل بأمهاتنا الأصحاء.. مثلما فعل هذا الابن البار بأمه المتخلفة عقليـًّا؟!
قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) (24) سورة الإسراء