شهد العصر العباسي بروز وزراء كبار كان لهم الفضل العظيم في إقرار الأمن وتثبيت دعائم الدول ونشر الثقافة والفكر، ومن هؤلاء كان الوزير أبو الفضل محمد بن عبيد الله البلعمي، من كبار رجال الإدارة والسياسة في الدولة السامانية، التي سيطرت على ما وراء النهر وجزء من خراسان بين (القرنين الثالث والرابع الهجريين / القرنين التاسع والعاشر الميلاديين)، فضلًا عن أنَّه كان بارعًا في الفقه والفكر والبلاغة.
نسبة البلعمي
ينسب السمعاني وياقوت الحموي الأسرة البلعمية إلى قبيلة تميم العربية، ويرى السمعاني أنَّ لقب البلعمي منسوب إلى "بلعم"، وهي بلدٌ في ديار الروم ورد إليها أحد أجداد أبي الفضل هو "رجاء بن معبد" في جيش مسلمة بن عبد الملك وأقام فيها، فنُسب أبناؤه وحفدته إليها. وقيل: يُنسب إلى قرية بلعمان الواقعة إلى جوار مدينة مرو في خراسان، وكان قد بلغها أحد أجداد البلعمي مع جيش قتيبة بن مسلم الباهلي، ونزل أسفل قرية بلاشجرد في موضع يُقال له: بلعمان، فنُسب البلعمي إليه، ويُرجِّح الرأي الثاني أنَّ أسرة البلعمي كانت تُقيم في مرو.
نسبه
ساق السمعاني (ت 562هـ) نسبه فقال: "الوزير أبو الفضل محمد بن عبيد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عيسى بن رجاء بن معبد بن علوان بن زياد بن غالب بن قيس بن المنذر بن حرب بن حسان بن هشام بن مغيث بن الحارث بن زيد مناة بن تميم البلعمي التميمي".
نشأته العلمية
نشأ في مرو ودرس فيها علومه الأولى على عددٍ من العلماء، منهم الإمام محمد بن نصر المروزي الذي كان له أثرٌ في آرائه، قال الذهبي: "سمع أكثر الكتب من محمد بن نصر، وكان يتنحل مذهبه". كما سمع من محمد بن جابر بمرو، ومحمد بن حاتم بن المظفر، وأبي الموجه محمد بن عمرو، وصالح بن محمد جزرة، والأمير إسماعيل بن أحمد الساماني، وغيرهم.
وممَّا يرويه أبو الفضل محمد بن عبيد الله البلعمي، قال: سمعت الأمير إسماعيل بن أحمد يقول: كنت بسمرقند، فجلست يومًا للمظالم، وجلس أخي إسحاق إلى جنبي، إذ دخل أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي، فقمت له إجلالًا لعلمه، فلمَّا خرج عاتبني أخي وقال: أنت والي خراسان، تقوم لرجلٍ من الرعيَّة! هذا ذهاب السياسة. فبت تلك الليلة وأنا منقسم القلب، فرأيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخذ بعضدي، فقال لي: ثبِّت ملكك وملك بنيك بإجلالك محمد بن نصر. ثم التفت إلى إسحاق، فقال: ذهب ملك إسحاق وملك بنيه باستخفافه بمحمد بن نصر.
اتصاله بالسامانيين
وكان لأبي الفضل -كما يقول الاصطخري- عددٌ من الدور بمدينة مرو، ثم انتقل بعد ذلك إلى سمرقند لمتابعة دراسته في علوم العربية والفقه والحديث. ويذكر ابن الأثير أنَّ أبا الفضل انتقل إلى بخارى، عاصمة السامانيين، واتَّصل بالأسرة الحاكمة فيها منذ أيام الأمير إسماعيل بن أحمد (279-295هـ=892-907م)، ثالث أمراء الأسرة، وغدا واحدًا من رجال الحاشية الذين تُوكل إليهم بعض المهامِّ بين حينٍ وآخر، وبدءًا من عام (308هـ=920م) اقترن اسمه بالنشاط الحربي للسامانيين، فكان في عداد الجيش الذي أنفذه الأمير نصر بن أحمد الساماني (301-331هـ) إلى طوس في خراسان لقتال بعض العصاة، وكان ثبات أبي الفضل في المعركة سببًا في تحوُّلها من هزيمةٍ إلى انتصار، وكان في قدومه الثاني إلى خراسان بعد عامين واحدٌ من قوَّاد الجيش.
ظهرت حنكته السياسية بالإضافة إلى شجاعته في القتال عندما استولى على جرجان (جنوب شرقي بحر قزوين)، وانتهت مراسلاته مع حاكم "أستراباذ" المجاورة إلى قبول صاحبها دفع إتاوةٍ إلى الأمير نصر في مقابل بقائه عليها.
تولِّيه منصب الوزارة
يبدو أنَّ ما أدركه أبو الفضل من نجاحٍ عسكريٍّ وسياسيٍّ في خراسان كان سببًا لأن يُسْنِدَ إليه الأمير نصر منصب الوزارة عام (310هـ=922م)، وكانت الإمارة السامانيَّة في ذلك الوقت مضطربة الأحوال بسبب ثورة أحد أقرباء الأمير نصر عليه.
ثورة إخوة الأمير نصر
وظهرت حنكة أبي الفضل البلعمي مرَّةً أخرى عام (318هـ=930م) حين نشبت ثورة ثانية اشترك فيها ثلاثة من إخوة الأمير نصر مستغلِّين خروجه من العاصمة بخارى في رحلة إلى نيسابور، إذ تمكَّن أبو الفضل -بعد مراسلات- من الإيقاع بين الثوار، فقتل بعضهم بعضًا وانتهت ثورتهم بالإخفاق.
ثورة حاكم الري
اشتهر الوزير أبو الفضل ببراعته في التراسل، وقد استغلَّ هذه المقدرة عام (321 هـ=933م) في ثني حاكم الري مرداويج بن زيار عن غزو جرجان وإجباره على دفع مال لتبقى له الري؛ إذ كتب إليه يقول: "أنا أعلم أنَّك لا تستحسن كفر ما يفعله معك الأمير السعيد (يقصد الأمير نصر)، وأنَّك إنَّما حملك على قصد جرجان وزيرك، وأنا لا أرى لك مناصبة ملك يطيف به مئة ألف رجلٍ من غلمانه ومواليه وموالي أبيه، والصواب أنَّك تترك جرجان له وتبذل عن الريِّ مالًا تُصالحه عليه".
ثورة محمد بن إلياس
وفي سنة (322هـ=934م) خرج أبو علي محمد بن إلياس من ناحية كرمان إلى بلاد فارس وبلغ إصطخر، فأظهر لياقوت حاكمها الساماني أنَّه يُريد أن يستأمن إليه حيلةً ومكرًا، فعلم ياقوت مكره، فعاد أبو علي إلى كرمان، فسيَّر إليه الأمير السعيد نصر بن أحمد "ماكان بن كالي" في جيشٍ كثيف فقاتله، فانهزم ابن إلياس، واستولى "ماكان" على كرمان نيابةً عن صاحب خراسان، وكان محمد بن إلياس هذا من أصحاب نصر بن أحمد، فغضب عليه وحبسه، ثم شفع فيه الوزير محمد بن عبيد الله البلعمي فأخرجه.
أعماله الإنسانية والإصلاحية
وفي مقابل الجد والحزم اللذين عُرِفَ بهما الوزير أبو الفضل البلعمي في السياسة، أتى أعمالًا في داخل الإمارة السامانية تنمُّ على حسٍّ إنسانيٍّ ورأفةٍ بالرعيَّة؛ إذ كان يسعى إلى تخفيف ثورات الغضب التي عُرف بها الأمير نصر، فأقنعه ألَّا يأمر بتنفيذ أيِّ عقوبةٍ شديدةٍ إلَّا بعد مضيِّ ثلاثة أيامٍ من صدور مثل هذا الأمر، ليكون باستطاعة الأمير أن يُراجع نفسه بعد أن يهدأ غضبه، وأفلح أبو الفضل في تعيين ثلاثة من الفضلاء، انتقاهم من سبعين رجلًا بعد فحصٍ وتمحيصٍ دقيقين؛ ليُسند إليهم مهمَّة الشفاعة لدى الأمير.
تعدَّت أعمال الوزير البلعمي إصلاح الإدارة إلى العمران؛ إذ يذكر الإصطخري أنَّ في بخارى محلة وبابًا في سورها يحملان اسم الشيخ أبي الفضل.
صرفه عن الوزارة
ويبدو أنَّ عودة أبي علي محمد بن إلياس إلى الثورة عام (326هـ=938م) بعد أن حصل له أبو الفضل على عفو من الأمير إثر ثورته الأولى عام (322هـ=934م)، قد دفعت نصرًا للاستغناء عن خدمات وزيره، غير مبالٍ بما حاق بإدارة الدولة من خللٍ بعد تنحيته، وجعل مكانه محمد بن محمد الجيهاني.
فقهه
قال ابن الصلاح: "حكى الحاكم أبو عبد الله أنَّه كان كثير السماع من مشايخ عصره بمرو، وبخارى، ونيسابور، وسرخس، وسمرقند، وكان قد سمع أكثر الكتب من أبي عبد الله محمد بن نصر، وكان ينتحل مذهبه".
وقال الحاكم: وسمعت أبا الوليد حسان بن محمد الفقيه غير مرة يقول: كان الشيخ أبو الفضل البلعمي ينتحل مذهب الحديث. قال الشيخ: إذا أطلقوا هذا هناك انصرف إلى مذهب الشافعي رحمه الله" ا.هـ.
ثناء العلماء عليه
أطرى سيرة أبي الفضل كلُّ من أتى على ذكره؛ فقد عدَّه الحاكم النيسابوري من مشايخه، وذكره في تاريخه، فقال: "الوزير أبو الفضل البلعمي رضي الله عنه واحد عصره في الرأي والعقل وإجلال العلم وأهله". وقال فيه البيهقي: إنَّه "من نوادر عصره علمًا وفضلًا". ونعته ياقوت "بوزير آل سامان". وأورد له -كما ذكر في معجم البلدان- ترجمةً في كتابه "أخبار الوزراء" الذي لم يصل إلينا. ووصفه ابن الأثير بأنَّه "من عقلاء الرجال".
وقال عنه الذهبي: إنَّه " الوزير الكامل، الإمام، الفقيه...، من رجال العالم...، فاق أهل زمانه، ونال من التقدُّم والرياسة أعلى الرتب". وعدَّه إمامًا فقيهًا ونسب إليه آراء في مسائل الإيمان والعقائد. وكان عند ابن العماد الحنبلي: "أحد رجال الدهر عقلًا وبلاغة".
ورأى فيه المستشرق الروسي فاسيلي بارتولد رجلًا من ألمع رجال السياسة في الدولة السامانية، وردَّ الجوانب المشرقة في عهد الأمير نصر إلى جهود الوزير أبي الفضل البلعمي وجهود سلفه أبي عبد الله محمد بن أحمد الجيهاني الذي شغل المنصب في الحقبة الأولى من حكم الأمير نصر.
بلاغته وأعماله الثقافية
واشتهر الوزير أبو الفضل البلعمي ببلاغته وترسُّله، حتى حُكي أنَّ علي بن عيسى الوزير كان إذا كتب إليه أبو الفضل البلعمي كتابًا، يجهده جواب كتابه، حتى يبقى فيه أيَّامًا. ووصفه الذهبي بأنَّ: "له يد طولى في الإنشاء والبلاغة". ومن أقواله البلاغية: "العلاء ممزوج بالعناء".
وممَّا يُحكى عن الوزير، أنَّ أبا يعمر الصفدي وكان ظريفًا وفي عينه سوء، دخل يومًا إلى الوزير أبي الفضل البلعمي فعثر بطرف البساط حتى طواه، فقال البلعمي: ليس على الأعمى حرج. فقال أبو يعمر: وليس على الأعرج حرج، يعرض بأنَّه أعرج، وكان كذلك، فضحك البلعمي وقال: البادئ أظلم.
وينُسب إلى أبي الفضل كتابان مفقودان هما (تلقيح البلاغة) و(كتاب المقالات)، ذكر الحاكم عن أبي منصور ابن أبي محمد الفقيه قال: "للشيخ أبي الفضل كتبٌ مصنَّفة، مثل كتاب (تلقيح البلاغة) وهو أحسن كتاب صنف في ذلك المعنى، وكتاب (المقالات)، وهو كتابٌ كثير الفوائد، وغير ذلك من الكتب، فأمَّا كتاب (مدينة الحكمة) فهو تصنيف الجهاني، وللشيخ أبي الفضل فيه زيادات ونكت، وكان يُكثر النظر فيه ولا يُفارقه".
وفاته
وكانت وفاة الوزير أبي الفضل البلعمي في بخارى بعد مبارحته منصب الوزارة بثلاث سنوات، ليلة الثلاثاء العاشر من شهر صفر سنة 329هـ=940م. فرحمه الله رحمة واسعة.
________________
المصادر والمراجع:
- ابن ماكولا: الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الطبعة الأولى، 1411هـ=1990م.
- ابن الصلاح: طبقات الفقهاء الشافعية، المحقق: محيي الدين علي نجيب، الناشر: دار البشائر الإسلامية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1992م.
- السمعاني: التحبير في المعجم الكبير، تحقيق: منيرة ناجي سالم، الناشر: رئاسة ديوان الأوقاف – بغداد، الطبعة: الأولى، 1395هـ=1975م.
- السمعاني: الأنساب، تحقيق: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني وغيره، الناشر: مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الطبعة: الأولى، 1382هـ=1962م.
- الذهبي: تاريخ الإسلام، حوادث سنة 329، دار الكتاب العربي - بيروت، 1987م.
- الذهبي: سير أعلام النبلاء، المحقق : مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناءوط
الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة : الثالثة ، 1405هـ=1985م.
- ابن الفوطي: مجمع الآداب في معجم الألقاب، المحقق: محمد الكاظم، الناشر: مؤسسة الطباعة والنشر- وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، إيران، الطبعة: الأولى، 1416هـ.
- بارتولد: تركستان من الفتح العربي إلى الغزو المغولي، ترجمة: صلاح الدين عثمان هاشم، الكويت، 1981م.
- مظهر شهاب: أسرة البلعمي، الموسوعة العربية العالمية.
- قصة الإسلام