صيام شهر رمضان مدرسة وعبرة لمن اعتبر
((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))
- البقرة 183-
شرع المولى سبحانه وتعالى الصوم على عباده كما شرعه على الامم السابقة لما فيه من فوائد عظيمة وجليلة لا يدرك كنهها وحقيقتها سواه، وعند التأمل في فريضة الصوم نجده مدرسة في تهذيب النفس وتربيتها على الفضيلة وما فرض على المكلف من الاجتناب عن المفطرات في فترة الصوم الا مؤشر واضح لما ذكرناه لان الكف عن الملذات وما اشبه يوجب ترقي النفس بطابع الملكات الحسنة وتقوية الارادة وتنظيف الجسم من الامراض الناشئة عن الاكل والشرب وما اشبه وتذكير الغني بحالة الفقير وتسوية الناس امام الله سبحانه مما يشعر الانسان بانه فرد في مجموعة البشر المتساوين امام خالق واحد وانما شرّع اياما لان تكرار الشيء على النفس هو الذي يوجب تحليها بالملكات والثلاثون يوما عدد كاف في التكرار في كل عام لان الاسبوع والاسبوعان لا تكفي لغرس الملكة، لذا نرى اهل الاوراد والختوم وما اشبه يواضبون على الشهر او الاربعين يوما لانجاح مطالبهم وحيث ان مبنى الشرع على الامور القريبة من احساس غالب الناس جعل بدأه وختمه بالهلال وشرّع للكل في وقت واحد لما فيه من المظهر العام والتشريع في النهار دون الليل لان فيه المنافع الموجودة في النهار واذا ينام الانسان في الليل غالبا فلا تنطبع النفس بطابع الكف المؤثر في اراردته قوة وفي نفسه ملكة وفي روحه سموا.
وخصص شهر رمضان بالصوم لانه وقت نزول القران على البيت المعمور او على قلب الرسول (ص) جملة واحدة كما قال سبحانه وتعالى
((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ))- البقرة 185-
وما اجدر بالانسان ان يتخذ هذا الشهر الذي منّ الله فيه على البشر باعظم دستور في حياته وسعادته في النشأتين شهر تنظيف وتطهير وتجديد صلة بالله سبحانه وتعالى.
هذا وللصوم حكم واهداف يطول ذكرها وشرحها من اهمها التقوى واليه الاشارة بقوله ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) وبهذا اذا اراد الصائم ان يعرف بان صيامه كان حقيقيا فالينظر الى درجة التقوى بعد الصوم فان كانت عالية في الالتزام بالواجبات واجتناب المحرمات كان صومه هو الصوم المطلوب والا فاليعلم بانه عبادته من مصاديق قوله (ص) (كم من صائم ليس في صيامه الا الجوع الضما وكم من قائم ليس له من قيامه الا التعب والعناء) لاننا نرى بعض الناس يتحول الى راهب في شهر رمضان من كثرة الطاعات لكن بمجرد انقضاء الشهر يعود الى احضان الرذيلة والفساد وبهذا تعرف بان تقواه كانت محدودة بايام الشهر بخلاف الفرد الذي وقف مع نفسه في هذا الشهر الكريم وقفة تأمل وتدبر ورباها على الفضائل والمكارم والالتزام بها لما بعد الشهر من الشهور والسنين فيكون هذا هو حقا من المتقين.
بعد هذه اللمحة السريعة عن الصوم واهدافه فما هو واجبنا الان ونحن في هذا الشهر العظيم ؟
علينا ايها المؤمنون ان نستقبله بتزكية النفس وتطهيرها من الانانية والشحناء والبغضاء والحسد للاخرين وكل ما يسخط المولى سبحانه وتعالى حتى لا تكون هذه الامور وغيرها حاجزا من قبول صلواتهم وصيامهم واستجابة دعائهم لان الرسول (ص) يقول (فسالوا ربكم بنيّات صادقة وقلوب طاهرة لان يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه فان الشقي من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم).
ونؤكد على المواضبة في هذا الشهر الكريم على ما يلي:
1- الاكثار من تلاوة القران تلاوة متدبر ومتأمل ومتفكر مقرونة في العمل باحكامه والسير على منهاجه فانه دواء لكل داء. يقول مولانا امير المؤمنين (ع) في وصفه للقران (نور لا تطفأ مصابيحه، وسراجا لا يخبو توقده، وبحرا لا يدرك قعره، ومنهاجه لا يضل نهجه، وشعاعا لا يظلم ضوءه، وفرقانا لا يخمد برهانه، وبنيانيا لا تهدم اركانه، وشفاءا لا تخشى اسقامه، وعزا لا تهزم انصاره، وحقا لا تخذل اعوانه، فهو معدن الايمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحوره، جعله الله ريّا لعطشى العلماء، وربيعا لقلوب الفقهاء، ومحاجا لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده داء، ونورا ليس معه ظلمه، وحبلا وثيقا عروته، ومعقلا منيعا ذروته، وعزا لمن تولاه، وسلما لمن دخله، وهدا لمن ائتم به ... ) فاكثروا ايها لمؤمنون من التلاوة فيه ، فان من (تلى فيه اية كان له مثل اجر من ختم القران في غيره من الشهور).
2- المواضبة على قراءة الادعية الواردة في ليله ونهاره خصوصا دعاء ابي حمزة الثمالي عند السحر، ودعاء الافتتاح بعد الافطار فان قراءتها تحي القلوب وتغفر الذنوب لقوله (ص) (وتوبوا الى الله من ذنوبكم وارفعوا اليه ايدكم بالدعاء في اوقات صلاتكم فانها افضل الساعات ينظر الله عز وجل فيها بالرحمة الى عباده يجيبهم اذا ناجوه ويلبيهم اذا نادوه ويستجيب لهم اذا دعوه).
3- الاهتمام بصلة الارحام القريب منهم والبعيد، والبر بالوالدين والاحسان اليهما حيين كانا او ميتين. قال (ص) (ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه) وفي حديث اخر (الرحم معلقة بالعرش تنادي يارب اوصل من وصلني واقطع من قطعني) وفي حديث ثالث (صلوا ارحامكم ولو بالسلام)
4- افطار الصائمين ولو باليسير من الطعام خصوصا في الاماكن التي يكثر فيها الفقراء كالعراق اليوم والهند وافغانستان وغيرها من البلاد الاسلامية، فقد اكد النبي (ص) على ذلك بقوله (ايها الناس من فطّر منكم صائما مؤمنا في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة ومغفرة لما مضى من ذنوبه، قيل يارسول الله او ليس كلنا يقد على ذلك فقال (ص) اتقوا النار ولو بشق تمرة اتقو النار ولو بشربة ماء).
5- الاهتمام بالايتام ورعايتهم كاطعامهم واكسائهم واللطف بهم تعويضا لهم عما فقدوه من حنان ابائهم لقوله (ص) (وتحننوا على ايتام الناس يُتحنن على ايتامكم، ومن اكرم فيه يتيما اكرمه الله يوم يلقاه).
6- المبادرة الى التوبة والاستغفار فقد قال (ص) ( ايها الناس ان انفسكم مرهونة باعمالكم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من اوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم، واعلموا بان الله تعالى ذكره اقسم بعزته ان لا يعذب المصلين والساجدين وان لا يروعهم بالنار يوم يقوم الناس لرب العالمين).
7- التصدق على الفقراء والمساكين لقوله (ص) وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم ووقروا كباركم وارحموا صغاركم واحفظوا السنتكم وغضوا عما لا يحل البصر اليه ابصاركم وعما لا يحل الاستماع اليه اسماعكم.
8- ان يحسن الانسان خلقه وخصوصا مع اهله واولاده لقوله (ص) (ايها الناس من حسن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جوازا على الصراط يوم تزل فيه الاقدام ومن خفف في هذا الشهر عما ملكت يمينه خخف الله عليه حسابه، ومن كف فيه شره كف الله عنه غضبه يوم يلقاه).
9- وعليكم باحياء ليالي القدر فان فيها تنزل الرحمات والبركات وتقسّم الارزاق وتكتب الاجال وتعتق فيها الرقاب من النار وهي الليلة التي يعد فضها خير من الف شهر لنزول القران فيها، قال تعالى
((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «1» وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ «2» لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)) – القدر-.
وعلى المؤمنين ان يكثروا من الدعاء الوارد عن الامام الصادق في كل ليلة من شهر رمضان
(اللّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِيما تَقْضِي وَتُقَدِّرُ مِنَ الاَمْرِ المَحْتُومِ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ مِنَ القَضاء الَّذِي لايُرَدُّ وَلايُبَدَّلُ أَنْ تَكْتُبَنِي مِنْ حُجَّاجِ بَيْتِكَ الحَرامِ المَبْرُورِ حُجُّهُم، المَشْكُورِ سَعُيُهُم،المَغْفُورِ ذُنُوبُهُم، المُكَفَّرِ عَنْهُمْ سَيِّئاتُهُمْ، وَاجْعَلْ فِيما تَقْضِي وَتُقَدِّرُ أَنْ تُطِيلَ عُمْرِي وَتُوَسِّعَ عَلَيَّ رِزْقِي، وَتؤَدِّيَ عَنِّي أَمانَتِي وَدَيْنِي، آمِينَ رَبَّ العالَمِينَ).
تقبل الله منا ومنكم الطاعات وصالح الاعمال .... دالين