هو السلطان الذي وَطِئَتْ خيله أماكن لم تَطَأْها خيل المسلمين من قبل، ورَفَعَ رايات الإسلام في بلاد لم يدخلها الإسلام من قبل. هو يمين الدولة وأمين الملَّة، ناصر الحقِّ ونظام الدين، وكهف الدولة، أبو القاسم محمود بن سبكتكين، محطم الصنم الأكبر، وقاهر الهند، والسلطان المجاهد العظيم.
نشأة محمود بن سبكتكين
وُلِدَ محمود بن سبكتكين في المحرم سنة (360هـ= 971م) في مدينة غزنة -وهي تقع الآن في أفغانستان- وأبوه مؤسِّس الدولة الغزنوية، فنشأ وتربَّى تربية القادة الأبطال، واشترك منذ حداثته في محاربة أعداء الإسلام من الهنود والبويهيين، وكان له أثر كبير في معركة نيسابور التي انتصر فيها والده سُبُكْتِكِين على البويهيين، وذلك كله وهو في مقتبل الشباب.
أبوه هو ناصر الدين سبكتكين مُؤَسِّس الدولة الغزنوية، الذي ولي غزنة سنة (366هـ= 976م) وكان يتمتَّع بهمة عالية، وكفاءة نادرة، وطموح عظيم، وكان عادلًا خيِّرًا، حسنَ العهد، محافظًا على الوفاء، كثيرَ الجهاد؛ فنجح في أن يبسط نفوذه على البلاد المجاورة، وشرع في غزو أطراف الهند، وسيطر على كثير من المعاقل والحصون هناك؛ حتى تمكَّن من تأسيس دولة كبيرة في جنوبي غرب آسيا, حتى توفي سنة (387هـ= 997م)، فانعقدت البيعة لابنه إسماعيل، وكان مُتَّصِفًا بسوء التدبير، وأراد أن يحرم ميراث محمود من أبيه، ولمَّا ولي إسماعيل غزنة استضعفه الجند واستولوا عليه، واشتدوا عليه في الطلب حتى أنفد خزائن أبيه؛ فقام عليه الأمير محمود، وتغلَّب عليه، واستطاع أن يأخذ غزنة لنفسه، وأعلن نفسه سلطانًا على البلاد.
محمود بن سبكتكين سلطانًا على البلاد
عندما تقلَّد محمود بن سُبُكْتِكِين مقاليد السلطنة أظهر السُّنَّةَ وقمع الرافضة والمعتزلة، ومشى في الناس بسيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فكان : يُعظِّم المشايخ ويُقَرِّبهم ولا يستغنى عن مشورتهم, وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولما كانت مملكة محمود بن سُبُكْتِكِين من أحسن ممالك بني جنسه؛ كان الإسلام والسُّنَّة في مملكته أعزَّ؛ فإنه غزا المشركين من أهل الهند، ونشر من العدل ما لم ينشره مثله، فكانت السُّنَّة في أيامه ظاهرة، والبدع في أيامه مقموعة (1).
وقد أقام السلطان محمود الخطبة للخليفة القادر بالله في بغداد، وأقرَّه الخليفة العباسي سلطانًا على ما تحته من بلاد خراسان والجبال والسند والهند وطبرستان، وأرسل له الخليفة خلعة فاخرة جدًّا لم يُرسل مثلها قط خليفة إلى أي سلطان من قبل، وخلع عليه الألقاب الكثيرة: «يمين الدولة، وأمين الملة، وناصر الحقِّ، ونظام الدين، وكهف الدولة»، وبعد قليل سيُضيف محمود بن سبكتكين إلى نفسه لقب: «قاهر الهند ومحطم الصنم الأكبر».
وكان السلطان محمود بن سبكتكين حازمًا عادلًا، لا يتجرَّأ أحدٌ على إظهار المعصية في دولته من خمر أو معازف أو أفكار المعتزلة والروافض.
وكان يُعَظِّم العلماء ويُكرمهم، فقصدوه من أقطار البلاد، وكان عادلًا في رعيَّته رفيقًا بهم محسنًا إليهم, وكان كثير الغزو والجهاد، وفتوحاته مشهورة.
وكان السلطان محمود بن سُبُكْتِكِين نصيرًا كبيرًا للأدب والفنون، وكان يعيش في عهده كثير من العلماء والشعراء؛ منهم: أبو ريحان البيروني (الفيزيائي والعالم الموسوعي)، وأبو الفتح البستي، والعسجدي، والبيهقي، والفرخي، والمنوجهري، والعنصري، والكسائي، والدقيقي، والغضائري.. وغيرهم.
تقوية وتثبيت الجبهة الداخلية
بدأ السلطان محمود بن سبكتكين نشاطًا جهاديًّا واسعًا؛ أثبت أنه من أعاظم الفاتحين في تاريخ الإسلام؛ حتى قال المؤرِّخُون: «إن فتوحه تعدل في المساحة فتوح الخليفة عمر بن الخطاب». وقد اتَّبع سياسة جهادية في غاية الحكمة؛ تقوم أساسًا على تقوية وتثبيت الجبهة الداخلية عسكريًّا وسياسيًّا وعقائديًّا وهو الأهم؛ فعمل على ما يلي:
1- القضاء على كل المذاهب والعقائد الضالَّة المخالفة لعقيدة أهل السُّنَّة والجماعة؛ مثل: الاعتزال، والتشيع، والجهمية، والقرامطة، والباطنية. والعمل على نشر عقيدة السلف الصالح بين البلاد الواقعة تحت حكمه.
2- قضى على الدولة البويهية الشيعية؛ والتي كانت من عوامل التفرُّق والانحلال في الأُمَّة الإسلامية كلها؛ حتى بلغ بها الأمر في التفكير بالعودة إلى العصر الساساني الفارسي، واتخاذ ألقاب المجوس؛ مثل شاهنشاه، وبالقضاء على تلك الدولة الرافضية قَدَّم السلطان محمود أعظم خدمة للإسلام.
3- أزال الدولة السامانية؛ التي بلغت حالة شديدةَ السوء من الضعف والانحلال أثَّرَتْ بشدَّة على سير الحملات الجهادية والفتوحات على الجبهة الهندية.
4- أدخل بلاد الغور في الإسلام؛ وهي في وسط أفغانستان الآن، وهي مناطق صحراوية شاسعة، وأرسل إليهم مُعَلِّمين ودعاةً وقُرَّاءً، وقضى على دولة القرامطة الصغيرة بالمُلْتَان بباكستان الآن، وكان يقودها رجل اسمه أبو الفتوح داود، وأزال عن هذه البلاد العقائد الضالَّة والفرق المنحرفة؛ مثل: الباطنية والإسماعيلية.
5- أعلن خضوع دولته الضخمة وتبعيتها لـ لخلافة العباسية ببغداد، وخطب للخليفة العباسي القادر بالله، وتصدَّى لمحاولات وإغراءات الدولة الفاطمية للسيطرة على دولته، وقام بقتل داعية الفاطميين التاهرتي، الذي جاء للتبشير بالدعوة الفاطمية ببلاد محمود بن سبكتكين، وأهدى بغلته إلى القاضي أبي منصور محمد بن محمد الأزدي وقال: «كان يركبها رأس الملحدين، فليركبها رأس الموحِّدين».
وهكذا ظلَّ السلطان محمود بن سُبُكْتِكِين يُرَتِّب للبيت من الداخل، ويُقَوِّي القاعدة إيمانيًّا وعقائديًّا وعسكريًّا، ويُكَوِّن صفًّا واحدًا استعدادًا لسلسلة الحملات الجهادية الواسعة لفتح بلاد الهند.
فتوحاته في الهند
ظلَّ فتح الهند حُلْمًا كبيرًا يُراود الخلفاء والسلاطين طيلة أربعة قرون؛ منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد أُرسلت في ذلك الحملات والجيوش لفتح تلك البلاد الشاسعة، وكانت أُولى الحملات الناجحة في عهد الوليد بن عبد الملك على يد محمد بن القاسم الثقفي؛ فتوغَّل في شمال الهند وفتح مدينة الدَّيْبُل وأقام بها مسجدًا، وترك بها حامية من أربعة آلاف جندي، وأصبحت الدَّيْبُل أول مدينة عربية في الهند.
ثم توالت الحملات؛ ولكنْ لم تكن في مثل قوَّة الحملات الأولى أيام الدولة الأموية، فضعُفَ وجودُ المسلمين في الهند، وظلَّ المسلمون في عهد الدولة العباسية محافظين على ما فتحوه، وتوسَّعُوا قليلاً في ضمِّ أجزاء أخرى إلى دولتهم، حتى سيطر المسلمون على المنطقة الواقعة بين كابل وكشمير والمُلْتَان، إلى أن يسَّر الله فتح الشمال الهندي كله، ومهَّدَ الطريق للفاتحين من بعده على يد بطلنا السلطان المجاهد محمود بن سبكتكين؛ حيث قاد محمود بن سبكتكين ست عشرة حملة عسكرية إلى شمال الهند؛ فقضى على ملوكها الواحد تلو الآخر؛ فقاد حملة ضدَّ الملك الهندي جايبال وذلك سنة (392هـ= 1001م)؛ وكان أكبر ملوك الهند على الإطلاق، وأكبر عقبة في وجه الدعوة الإسلامية، وقاد -أيضًا- حملة ضد الملك انندبال سنة (398هـ= 1007م), وواجه الملك ناكر كوت سنة (400هـ= 1009م) وألزمه بدفع الجزية, وواجه -أيضًا- الملك راجا ناندا سنة (410هـ= 1019م) وأدَّت تلك المعركة إلى انتشار واسع للإسلام في منطقة كالنجار، وكان قد قضى على ملك الكجرات بيدا سنة (409هـ= 1018م).
كانت هذه الفتوح بفضل الله أولاً ثم بفضل سلاح الفرسان الذي أنشأه محمود بن سبكتكين؛ الذي وصل عدده -في رواية بعض المؤرِّخين العرب والمستشرقين- إلى مائة ألف فارس مسلَّحِين بأحدث وأفضل الأسلحة، وسلاح الفيلة الذي كان السلاح الرئيسي في معارك المسلمين في الهند، وكان يهتمُّ السلطان محمود بن سبكتكين بهذا السلاح إلى حدٍّ كبير؛ حتى إنه لربما يُصالح بعض ملوك الهند مقابل عدد من الفيلة.
سومنات والصنم الأكبر
ظلَّ السلطان محمود منتصرًا في معاركه ضدَّ الهنود منتقلاً من نصر إلى نصر، وكان السلطان محمود الغزنوي كلَّما هدم صنمًا، قالت الهنود: «إن هذه الأصنام والبلاد قد سخط عليها الإله سومنات؛ ولو أنه راضٍ عنها لأهلك مَنْ قصدها بسوء» (2).
فسأل السلطان محمود عن سومنات هذا؟ فقيل له: «إنه أعظم أصنام الهنود». وكان الهنود يحجُّون إلى هذا الصنم ليلة خسوف القمر؛ فتجتمع إليه عوالم لا تُحصى، وكان الهنود يزعمون أن الأرواح بعد الموت تجتمع إليه، فيبثّها فيمَنْ يشاءُ بِنَاءً على التناسخ, وكان المدُّ والجزر عندهم هو عبادة البحر لسومنات، وكانوا يقذفون إليه كلَّ نفيسٍ، وكانت ذخائرهم كلها عنده، وكانت له أوقاف تزيد على عشرة آلاف ضيعة، وكان يقوم عند الصنم ألف رجل في كلِّ يوم للعبادة، وثلاثمائة لحلق رءوس الزوَّار ولحاهم، وثلاثمائة رجل وخمسمائة امرأة يُغَنُّون ويرقصون، فعزم السلطان محمود على هدم هذا الصنم، وقاد جيوشه بنفسه إلى أن وصل إلى سومنات.
السلطان يرفض الأموال والهدايا
عرض الهنود على السلطان محمود بن سبكتكين أموالًا جزيلة ليترك لهم هذا الصنم الأعظم، فأشار مَنْ أشار من الأمراء على السلطان محمود بأخذ الأموال وإبقاء هذا الصنم لهم؛ للمجهود الضخم والأموال الطائلة التي أُنفقت على تلك الحملة الجهادية، فقال: «حتى أستخير الله –عز وجل». فلمَّا أصبح قال: «إني فكَّرْتُ في الأمر الذي ذُكِرَ فرأيتُ أنه إذا نُوديتُ يوم القيامة: أين محمود الذي كسر الصنم؟ أَحَبُّ إليَّ من أن يُقال: الذي ترك الصنم لأجل مال يناله من الدنيا» (3).
الله أكبر! هذه والله! هي الكرامة، وهذا منتهى العبودية لله –عز وجل؛ فقد جعل فتوحاته كلها لله، ومن أجل إعلاء كلمة الله.
وفي ذي القعدة 416هـ= يناير 1026م انتصر المسلمون على الهنود بعد مقاومة عنيفة, وقد قُتل من الهنود خمسون ألفًا كانوا يُدَافِعُون عن معبد سومنات، ودخل محمود المعبد وحطَّم الصنم الأكبر، فوجد عليه وفيه من الجواهر والذهب والجواهر النفيسة ما يزيد على ما أنفقه في الحملة بأضعاف مضاعفة, وكانت عنده خزانة فيها عدد كثير من الأصنام ذهبًا وفضة عليها ستور معلقة بالجوهر منسوجة بالذهب تزيد قيمتها على عشرين ألف ألف دينار (أي عشرين مليونًا) (4)!
سبحان الله، أراد أمراء الجيش أن يتركوا الصنم مقابل أموال جزيلة، وبعدما رأوا ما بداخل هذا الصنم من أموال حمدوا الله.
وفاة السلطان محمود بن سبكتكين
ظلَّ السلطان محمود في جهاد دائم لا يَكَلُّ ولا يَمَلُّ؛ حتى لازمه مرض في البطن أواخر أيامه, وكان يزداد عليه يومًا بعد يومٍ, وكان يتحامل على نفسه أمام الناس، وكان لا يستطيع أن يُكَلِّم الناس إلَّا مُتَّكِئًا من شدَّة المرض، ومات رحمه الله في غزنة يوم الخميس 23 من ربيع الآخر (421هـ= 1030م)، وقبره بها ما زال معروفًا، وكانت مدَّة حكمه 35 سنة، وبلغت رايته الجهادية أماكن لم تبلغها راية قطُّ، كما أقام شعائر الإسلام في أقصى ربوع الأرض.
1- ابن تيمية: مجموع الفتاوى، 4/22.
2- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 7/685.
3- ابن كثير: البداية والنهاية، 12/28.
4- تاريخ ابن خلدون، 4/492.
- تامر بدر