ليلة مباركة ، وأرض ميمونة ، وجمع حاشد من المؤمنين طهرتهم مراسم العمرة وأعدتهم ليوم الحج الأكبر
ونسائم رضوان الله بدأت تهب على النفوس فتغيرها ، ودعوة الرب الرؤوف الرحيم لهذه القلوب الخاشعة بدأ صداها يتردد في الآفاق ، فإذا بالأفئدة تهوي إلى رحمة الله الواسعة ومغفرته ورضوانه
ونحن إذ نتحلق حول مائدة القرآن الكريم ، وبالذات حول معاني وآفاق سورة الحج المباركة التي تحوي في طياتها هذه الفريضة التي قصدنا بيت الله لنؤديها ونستفيد من عطرها وروحها وعزمها وجميع منافعها بإذن الله
والفائدة الكبرى للحاج من فريضته هي أن يعود متزوداً بالتقوى . . وكلما كان تزوده لهذه الجوهرة الثمينة التي لا تقدر عظمتها ، كان حجة أقرب إلى حج إبراهيم الخليل سلام الله عليه ، وإلى حج النبيين والأئمة والأولياء الأبرار . . فكيف نستطيع التزود بهذه الجوهرة الثمينة وهذا الفضل العظيم الذي أمرنا ربنا الكريم بالاغتراف منه بقوله
﴿ ... وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ... ﴾
سورة البقرة ( 2 ) ، الآية 197
إننا قوم رحّلٌ في صحراء قاحلة ، لا كلأ فيها ولا ماء ، وليس أمامنا إلا هذه المحطة الأخيرة وهذه الفرصة الذهبية . . فمن تزود منها استطاع الانتفاع من هذه الرحلة ؛ أي رحلة الحياة التي تتصل من الدنيا بعالم البرزخ ، ومن عالم البرزخ بعالم اللانهاية
فأبناء آدم في هذه الدنيا ليسوا مجرد مخلوقات حية وجدت لتموت ثم لتتحول إلى تراب ؛ بل كان البشر قبل هذا العالم في عالم الأظلة والأشباح ، ثم أخرجوا إلى عالم الذر ، وبعد إلى عالم الأصلاب ، وهذا عالم الأنساب ، وبعد عالم البرزخ ، وتليه القيامة التي يعدل يومها خمسين ألف سنة من سنين الدنيا ، ومن ثم إما إلى جنة فيها كل نعيم ، وإما إلى نار فيها كل عذاب ونقمة . . وهاهي الدنيا ؛ فرصتنا الوحيدة التي تحوي نفحات الله المباركة
وعلى هذا الأساس ينبغي للإنسان المسلم المنشغل بأداء فريضة الحج ، أن يعلم بأنه الإنسان الذي انتخبه الله تبارك وتعالى من بين مئات الآلاف من أمثاله ، ولذلك عليه أن يتعرف على حكمة هذا الانتخاب ، وأن يسعى إلى استغلال هذه الفرصة وفي هذه الفترة المحدودة
أما التقوى التي يأمر الله عز وجل الحجاج بالتزود بها ، ويعلمهم بأنها خير زاد ، فإن محورها الأصلي هو الإيمان بالله ، ثم إن للإيمان بالله ناحيتين ؛ إحداهما تسبق الأخرى
فالجنبة الأولى للإيمان هي تصفية القلب من عبادة غير الرب الخالق ، لأن القلب إذا ما حجب بعبادة غير الله سبحانه وتعالى ، فإنه لن ينتفع بشيءٍ ، وإذ ذاك سيكون مثله مثل من يجلس في قصر مغلق على نفسه . . فلا ينتفع بالفضاء الرائع الذي يحيط بقصره ، أو أنه لا ينتفع بأشعة الشمس مهما أشرقت عليه ، لأنه محروم عنها بالجدران الضخمة التي تحجبه عن نور الشمس . ولذلك نجد الحديث الأول في سورة الحج المباركة مختص بالبحث عن عبادة غير الله عز وجل ، إذ يأمرنا الرب تعالى بنبذ هذه العبادة غير الشرعية وغير العقلية ، وأن نتوجه إليه وحده لا شريك له بكل قلوبنا . فيقول الله عز اسمه
وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ
سورة الحج ( 22 ) ، الآية : 11
لأنه لما يترسخ الإيمان الحقيقي في قلبه بعد ، فلم تنمو ملكة التقوى في نفسه ، فكان مصداقاً لقوله سبحانه
يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ
سورة الحج ( 22 ) ، الآية 12
حيث لا يتوجه قلبه إلى الله تعالى ، وهذا هو ما يطلق عليه بالشرك الخفي
إن النبي إبراهيم عليه السلام وهو المؤذن الأول للحج بأمر الله تعالى لم يصل إلى التمكن من رؤية ملكوت السماوات والأرض ، كما يقول القرآن ، إلا بعد أن أزاح كافة الحجب عن قلبه ، حيث قام بتحطيم أنواع الأصنام النفسية والأسرية والاجتماعية والسياسية ، وأخيراً قام بتدمير أصنام الحجارة التي تمثل الرمز التافه لأنواع الأصنام والحجب
إذن ؛ فالمرحلة الأولى من الإيمان هي أن يصل المرء إلى حقيقة إلغاء غير الله من قلبه فيطهره تطهيراً
أما المرحلة الثانية ؛ فتتمثل في تنمية الإيمان و تطويره
وإنما يمكن تنمية الإيمان بطرق وأساليب ووسائل خاصة ، وقبل توضيح ذلك ، لابد لي من القول بأن الإنسان يتميز بقوة عظيمة ، وهو قوة التخيل التي بإمكانها تقريب البعيد له ، وهي تشبه إلى حد كبير الناظور الكاشف والمقرب . ولذلك تجد الخطيب الماهر الألمعي والشاعر والفنان والرسام الموهوبين هم من يجيدون إثارة الخيال وقدرة التصور والحمل على معايشة ما يريدونه لمخاطبيهم وكأنها أمامهم .
وقدرة التخيل هذي مفيدة للغاية على الصعيد الإيماني وإرادة تنميته
فالمؤمن إذا تعرض لفتنة شهوة من الشهوات ـ مثلاً ـ فله أن يتخيل أو يتذكر الجنة وما وعده الله من النعيم حقاً وصدقاً ، وعند ذاك سيتأكد له بأن هذه الشهوة لا تمثل سيئاً يذكر أمام ما وعده الله تعالى .
أما إذا تعرض لضغط أو إرهاب أو قمع أو أي نوع من أنواع الفتن السلبية ، فبوسعه أن يتذكر نار جهنم ، فإن نار جهنم أشد حراً ، وعندها ستهون عليه المصائب والمصاعب ، لأنه مفعم بالإيمان بأنه متصل بالله تعالى عبر الإيمان العميق
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
سورة البقرة ( 2 ) ، الآية 46
إذن ؛ فالمطلوب الأول هو تذكر الله ونعيمه وعقابه عند الشهوات والاغراءات والضغوط والمشاكل ، لأن الدنيا مرحلة سرعان ما تنطوي صفحتها ، وتبقى صفحة الآخرة هي المفتوحة أبداً .
وتبقى القضية المهمة جداً ، ولابد من تسليط الضوء عليها ، وهي وجوب أن يتجلى الإيمان ـ بدرجاته المتفاوته ـ في العمل الصالح ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
سورة الحج ( 22 ) ، الآية 14
فبعد أن يصل الإنسان إلى مستوى الإيمان والتقوى ، يلزمه التخطيط للأعمال الصالحة وتنفيذ ما يخطط على أحسن وجه مطلوب ، لأن العمل الصالح هو ترجمة لهذا الإيمان ، ومن دون العمل الصالح سيبقى الإيمان بمثابة النص الغامض الذي لا يجد طريقاً يدخل عبره إلى الفكر والقلب
إن من كرامات الله لأمة النبي محمد صلى الله عليه وآله أنــه يثيبهم حتى على مجرد أمانيهم وتفكيرهم وعزمهم على عمل الخير ، إذ تكتب لهم الحسنات وهم لم يفعلوا شيئاً ، فكيف بهم إذا ما نفذوا خططهم في العمل الصالح ؟ ولا شك أن كثيراً من أعمال الخير لا يمكن تنفيذها دون تعاونٍ من الأفراد المؤمنين ، وقد قال سبحانه
وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
سورة المائدة ( 5 ) ، الآية 2
فبالتعاون ينفذ العمل بالكم والكيف والسرعة والمطلوبة
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لأن يكون حجنا في هذا العام حجاً حافلاً بالإنجازات والمكاسب ، وأن يوفقنا للعمل على مضاعفة إيماننا وتنمية تقوانا ، والقيام بالعمل الصالح إن شاء الله
كتاب في رحاب بيت الله لآية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي ، الفصل الأول نور المعرفة . و هذا الكتاب مجموعة من خطب و كلمات ألقاها سماحته في سفرة الحج على حملات الحجاج من أطراف الأرض وأكنافها
لـ سماحة آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي
نسألكم الدعاء