الشجرة التطورية للحيوانات
أعتقد أن الوقت الذي سيكون لدينا فيه أشجار أنساب حقيقية جدًّا لكل مملكة عظمى في الطبيعة سيأتي لا محالة، رغم أنني لن أكون حيًّا لأشهده.
تشارلز داروين، في خطاب إلى تي إتش هَكسلي (١٨٥٧)
بناء شجرة الحياة
أدرك داروين أن تشبيه الشجرة المتفرِّعة هو التشبيه الأمثل لوصف مسار التطور. وقد وضع في عام ١٨٣٧ رسمًا تخطيطيًّا صغيرًا لشجرة تطورية في إحدى مذكراته الشخصية تعلوه كلمتان مشوقتان: «أنا أظن.» وقد وَرَد هذا المفهوم بسرعة إلى داروين بمجرد أن تحقق من أن نوعًا ما يمكن أن يتسبب في ظهور نوعين «وليدين»، وهي العملية المعروفة باسم الانتواع. إن الأشجار التطورية، أو أشجار الأنساب، كما تُعرف أيضًا، هي ببساطة رسوم تخطيطية تُصوِّر أحداث الانتواع هذه. وكلُّ نقطة تفرع على شجرة علاقات القربى — حيث يتفرع خط واحد معطيًا خطين — هي تصوير مرئي لنوع واحد أصبح نوعين.
إن تفهم أشجار علاقات القربى يكون أمرًا سهلًا عندما تشمل أنواعًا حيوانية متشابهة. فعلى سبيل المثال إذا أدَّى خط واحد في الشجرة إلى الفراشة الكبيرة البيضاء، وأدَّى آخَر إلى الفراشة الصغيرة البيضاء فإن نقطة الْتقاء الخطين تحدد حدوث الانتواع الذي أدَّى إلى فصل هاتين الفراشتين المتماثلتين بقدْر كبير. إن هذه هي النقطة التاريخية التي عندها انفصلت عشيرتان عن «سَلَفهما المشترك» بما أدَّى إلى أنهما أصبحا لا يتزاوجان معًا. ومن المهم أن نذكر أن هاتين العشيرتين لن تكونا قد اكتَسَبَتَا بعدُ الصفاتِ المميزةَ للنوعين، فهما تبدوان في الواقع متماثلتين إلى حدٍّ كبير. ولكن غالبًا جدًّا ما نَجِد أن أشجار علاقات القربى لا تحتوي فقط الأنواع الشديدة التقارب بعضها من بعض؛ إذ إنها تُصوِّر العلاقات التطورية بين مجموعات كبيرة من حيوانات، مثل تلك التي بين الحشرات والعناكب والقواقع وقنديل البحر والبشر. ويجب النظر إلى أشجار علاقات القربى هذه بالطريقة نفسها تمامًا. وإذا ما أدَّى خطٌّ في الشجرة إلى حشرات، وخطٌّ آخر أدَّى إلى عناكب فإن نقطة الْتِقاء هذين المسارين تحدد موقع السَّلَف المشترك لهاتين المجموعتين، ذلك السلف الذي انقرض منذ أمَدٍ بعيد. إن السلف لم يكن حشرة ولا عنكبوتًا، وهو عندما مر بعملية الانتواع أعطى الأسلاف غير المتمايزة بشكل كبير لهاتين المجموعتين.
داروين
ورغم أن داروين خطَّ تصورًا لفكرة الشجرة في مفكرته الشخصية وتوسَّع في بيانها عن طريق الرسم الإيضاحي الوحيد لها في كتابه «أصل الأنواع» فإنه لم يحاول أن يحدد بدقة أي الأنواع قريب في الواقع من سواه من الأنواع. بالنسبة لداروين كانت الأشجار التطورية مجرد مفهوم؛ أي طريقة للتفكير بشأن التطور، وقد حاول الكثير من علماء بيولوجيا التطور فيما بعدُ وضعَ أسماء على أفرع الشجرة. إنها مشكلة صعبة ويجب أن تُحلَّ. في جميع الأحوال يجب أن يكون هناك شجرة واحدة لحياة الحيوان تحدد المسار الحقيقي لتطور الحيوان. وعلى ذلك فإن أي رسم لشجرة علاقات قربى هو فرضية واضحة وجلية للمسلك الذي اتُّبع في التطور. رُسمت بعض الأشجار المبكرة للتطور بواسطة عالِم علم الحيوان الألماني إرنست هيكل في ستينيات القرن التاسع عشر وسبعينياته. كان العديد من أشجار هيكل واضحة في تفصيلاتها البارعة، وكاملة بلحاء ذي عُقَد وأفرع ملتوية، وبأسماء مجموعات حيوانية معينة عند نهاية كل غُصَيْن أو ورقة. وقد اعتمد هيكل في شجرته، وكذلك في فرضياته حول تطور الحيوان، على العديد من خطوط الأدلة، ولكنه كان يَمِيل بوجْه خاص إلى الخصائص الآتية من دراسة علم الأجنة. يَرجِع ذلك جزئيًّا إلى اعتقاده بأن الأجنة تتغير ببطء خلال التطور. وأيضًا حتى عندما تبدو الحيوانات اليافعة مختلفة بعضها عن بعض، فإن هناك معالِمَ متشابهة توجد أحيانًا في مرحلة نمائها. إن بعض استنتاجات هيكل ما زالت متوافقة مع الأفكار الحديثة، مثل وضعه لقناديل البحر وشقائق النعمان في فرع انفصل مبكرًا عن باقي طرز الحيوانات. وهناك أفكار أخرى تُثير دهشتنا الآن، وهي بالتأكيد غير صحيحة، مثل وضْع شوكيات الجلد (نجم البحر وقنافذ البحر) كفرع قريب من مفصليات الأرجل مثل الحشرات والعناكب.
وعلى مدى الثمانين عامًا التالية وضَع علماء الحيوان أوصافًا أفضل لتشريح الحيوانات وقاموا بدراسة نموها الجنيني بتفصيل أكثر، مع التركيز على التنوع الكبير في شُعَب اللافقاريات. ولكن حتى عند منتصف القرن العشرين لم يتم التوصل إلى إجماع واضح. ولا توجد علاقة قربى واحدة عليها اتفاق في المملكة الحيوانية. إن كل مؤلف يرسم شجرة تطورية مختلفة قليلًا، وإن كانت ثمة علاقات معينة موجودة على الدوام. وقد أصبح أحد التصورات — والموضح فيما يلي — سائدًا على نحو خاص في الكتب الدراسية الأمريكية، وأُطلق عليه اسم «فرضية السيلوميات».
المصدر ,, مايوز