الطفيلي الذي يجعل الجرذان تحب القطط


استيقظ الجرذ سام من النوم وبدأ برحلته اليومية في البحث عن الطعام. رائحة الشم لديه تشير إلى أن هذه منطقة تقطنها قطة إذ أنه يستطيع شم رائحة بولها بوضوح. سام على قيد الحياة اليوم لأن أجداده منذ ملايين السنين تعلموا أن يحذروا المناطق التي تقطنها القطط. هذه الرائحة المحفورة في دماغه وتتجسد بغرائزه البقائية عادة تفعّل حالة الخطر لكن ليس اليوم.
اليوم سام يشعر بشجاعة كبيرة وعواطف جياشه. هذا الجرذ يشعر أنه بشوق لهذه القطة ويريد مقابلتها. يشعر بشعور غريب وعاطفي اتجاه هذه القطة. اليوم كان أخر يوم يقضيه سام على هذا الكوكب إذ أن مشاعره الجياشة اتجاه هذا القطة قادته نحوها ليصبح وجبة سهلة في معدتها. 

ما أن التهمت القطة هذا الجرذ الغريب الأطوار إلى أن بدأت رحلة جديدة للكائن الذي سبب موت هذا الجرذ. هذا الكائن القاتل البسيط عبارة عن طفيلي صغير تم اكتشافه في عام ١٩٠٨ وتم إطلاق اسم التوكسوبلاسما غوندي أو المقوسة القندية باللغة العربية.
في عام ١٩٩٤ لاحظت الباحثة جوان ويبستر Joanne Webster University of Oxford من جامعة أوكسفورد أن بعض الجرذان يتصرفون بطريقة غريبة جداً اتجاه عدوهم اللدود (القطة). من المنطقي أن تهرب الجرذان من القطط لكن ما لاحظته كان عكس ذلك تماماً حيث أن الجرذان المصابين بطفيلي التوكسوبلاسما Toxoplasma gondii كانوا يتجهون نحو القطط بشكل غريب وكأنها عملية انتحارية.
ماهو هذا الكائن المجهري الذي يجعل الجرذ يتجه نحو موته؟
ما نعلمه عن هذا الطفيلي “المقوسة القندية” أنه لا يستطيع التكاثر إلا ضمن الجهاز الهضمي للقطط وبالتالي فإن مصدر الطفيلي هو القطط ومصير بقائه يعتمد على القطط. هذا لا يعني أن هذا الطفيلي موجود في أمعاء القطط حصرياً على العكس هو منتشر انتشار واسع جداً لكنه لا يستطيع التكاثر سوى داخل الجهاز الهضمي للقطط. عندما تتغوط القطة فإن ملايين الخلايا من التوكسوبلاسما تكون ضمن الغائط والذي بدوره يدخل ضمن دورة الحياة عن طريق التربة أو تلوث المياه وبالتالي التقاطه من قبل كائنات آخرى.
بشكل مختصر انتشار هذا الطفيلي كبير جداً بين الأحياء إذ أن عدد البشر المضيفين له يقدّر ب ٣ مليار نسمة.
في عام ٢٠١١ قام الباحث روبرت سابولسكي من جامعة ستانفورد ومجموعة من الباحثين بفحص ١٨ جرذ مصاب بطفيلي التوكسوبلاسما غوندي (المقوسة القندية) مقابل ١٨ جرذ غير مصاب ومراقبة جهازهم العصبي أثناء تفاعلهم مع رائحة بول القطط. في الحالة الطبيعية، الجرذان تطورت عبر ملايين السنين لتجنب رائحة القطط وبولها لان القطة تعتبر من أكثر الكائنات المفترسة للجرذان. الجرذان المصابة بالطفيلي أظهرت ردود فعل غريبة حيث أن القسم المسؤول عن التحفيز الجنسي تفعّلت لديها عند شم رائحة بول القطة وكانت هذه الجرذان تحاول الاقتراب من القطط وكأنها تحاول أن تستقطب شريك جنسي.
ليس واضح كيف ينجح الطفيلي بالتحكم بدماغ الجرذ إلا أن بعض الأبحاث التي تمت في ٢٠١٤ تشير إلى أن الطفيلي يقوم بتحفيز الوصلات الدماغية المرتبطة بالعملية الجنسية والعلاقات العاطفية ويغير الحمض النووي داخل الخلية بحيث يعلّق عمل بعض الجينات المسؤولة عن تحريض الافرازات الهرمونية المتعلقة بالعملية الجنسية. هذا يعني أن الجرذ المصاب بهذا الطفيلي يتم إعادة برمجة جهازه العصبي بحيث يشعر بإثارة جنسية تجاه القطط.
هذا التغيير على الجهاز العصبي يستمر تأثيره حتى بعد التخلص من الطفيلي خارج الجسد.
إذاً الطفيلي يخرج من جسم القطة عن طريق افرازه مع فضلات الجهاز الهضمي. عند التقاط الطفيلي من قبل كائنات آخرى يدخل عن طريق الفم (بطريقة أو آخرى). يتفاعل هذا الطفيلي مع الجهاز العصبي للكائن ويقوم بالسيطرة على الشبكة العصبية المسؤولة عن الاستقطاب الجنسي ويجعل رائحة القطط محفزة وايجابية لدى الكائن المضيف.
تأثير هذا الطفيلي على الإنسان لايزال قيد البحث لكن يعتقد الكثير من الباحثون في هذا المجال أن التغيرات التي قد تطرأ على الإنسان قد تكون تغيرات دائمة الأثر. بعض الدراسات الأولية تربط بعض الأمراض الدماغية مثل الفُصام – السكيزوفرينيا بالاصابة بطفيلي التوكسوبلاسما.
في بعض الأبحاث تم رصد تغيرات على القسم الدماغي المسؤول عن المشاعر مثل الغضب والغيرة والخوف وغيرها من الغرائز المسؤولة على ضبط الانفعالات الغريزية. على الرغم من أن هذه الأبحاث لاتزال غير قطعيه إلا انه يوجد علاقة ترابط بين الاشخاص الذين يقدمون على الانتحار والإصابة بهذا الطفيلي إذ أن بعض تأثيراته على جسم الإنسان هو تفعيل جهاز المناعة على افراز انزيمات تعمل على تخفيف نسبة سيروتونين والذي يؤدي للإصابة بالاكتئاب. أيضاً يوجد بعض الدلائل على ارتفاع الشعور بالغيرة وعدم الثقة بالآخرين لدى الذكور والثقة العمياء والطاعة المبالغ فيها لدى الإناث.
أيضاً من أحد التغيرات التي تطرأ على جسم الإنسان والتي تتعلق بالجهاز العصبي هي بطء ملحوظ في سرعة ردود الفعل حيث تم اجراء بعض التجارب على حوالي ٣٨٩٠ جندي مصاب بالطفيلي في الجيش التشكي ومتابعتهم على مدى طويل من الزمن ولوحظ أن احتمال تعرضهم لحوادث مرور (قيادة السيارة) أكثر ب ٦ مرات عن الأشخاص الغير مصابين بالطفيلي.
في عام ٢٠١١ تم فحص ٣٤ طالب (ذكر وأنثى) مصابين بالطفيلي مقابل ١٣٤ طالب غير مصاب. الفحص كان عبارة عن تقييم رائحة بول القطط من حيث سوء الرائحة فكانت النتيجة أن الأشخاص المصابين قيّموا الرائحة بشكل أكثر إيجابية عن الأشخاص الغير مصابين. المثير للاهتمام أن الإناث المصابين ضمن التجربة وجدوا الرائحة أكثر سوء من الذكور الغير المصابين أي أن التأثير كان عكسي بين الجنسين (ذكور وإناث). هذه التجارب تدل على أن تأثير هذا الطفيلي على جسم الإنسان ليس بعيد عن تأثيره على جسم الجرذان لكننا لا زلنا بعيدين على فهم كافة التغيرات الحاصلة بسببه.
هذه بعض المعلومات العامة حول هذا الطفيلي وأتمنى أن يكون هذا المقال بمثابة قد حفز فضولك للبحث أكثر.


المصدر ... علومي