فيلم Mudbound عمل درامي من أفلام موسم الجوائز الأمريكي الحالي، على الرغم من عرضه على شبكة نتفيلكس بصورة أساسية بالإضافة لعدد محدود من دور العرض في نوفمبر الماضي، وقد عُرض لأول مرة في مهرجان صن دانس بيناير هذا العام، وهو من إخراج دي ريس، والتي شاركت في كتابته كذلك، ومقتبس من رواية بنفس الاسم لهيلاري جوردان.
الفيلم بطولة كاري مولجان وجاريت هيدلاند وجاسون كلارك وجاسون ميتشل وماري جي بليج التي ترشحت لجائزة الجولدن جلوب كأفضل ممثلة في دور مساعد عن دورها هذا.
أخذ الفيلم الطابع الروائي من العمل الأصلي المقتبس منه، فنجده مقسم إلى ستة أجزاء عن طريق ستة رواه هم أبطاله، كل منهم يروي الجزء الخاص به من الحكاية بصوته، ولكن كل القصص تتقاطع مع بعض في سلاسة شديدة، دون أن يشعر المشاهد بأن هناك إخلال بتوازن وإيقاع الفيلم في انتقاله من فصل لفصل.
تبدأ الأحداث بمشهد حزين لشابان يحفران قبر والدهما في ظل طقس غائم وأمطار عنيفة، ثم تأخذنا المخرجة إلى الماضي حيث يبدأ الفيلم بالصورة الفعلية، قصة زواج عادية بين هنري الرجل الناجح والفتاة ذات الواحد والثلاثون عامًا شبه العانس بقواعد هذه الأيام لورا، ونتعرف في هذا السياق على أخي هنري جيمي الفتى الوسيم الطائش الذي تتعلق به قلوب جنس النساء أينما حل.
تنتقل الأحداث بنا بعد ذلك عبر نقطة مفصلية هي الحرب العالمية الثانية، وبيرل هاربور حيث يسافر جيمي للحرب، وبعدها ينتقل أخيه ليحقق أحلامه ويشتري مزرعة في الريف بالجنوب، ويفاجئ زوجته المتحضرة الأنيقة الرقيقة بمنزلها الفقير الجديد والطين الذي يدخل حياتها ويلوث حتى أحلامها كما قالت في إحدى المشاهد.
في الريف نتعرف على عائلة من ذوي الأصول الأفريقية تصبح هي الخط الموازي للعائلة البيضاء الوافدة، والتي أرسلت أيضًا أحد شبابها للحرب وهو الأبن الأكبر رونزيل.
كل ما سبق على طوله هو تمهيد حقيقي للأحداث، التي تبدأ بانتهاء الحرب وعودة جيمي ورونزيل وما يحدث في هذا المجتمع الجنوبي الذي يتميز بكل من فقر الحال وبقايا العنصرية التي لم تزل بعد على الرغم من إعلان انتهاء العبودية من عشرات السنين.
فيلم Mudbound لوحة فنية متشابكة مليئة بالعناصر المختلفة التي كونت في النهاية هذا العمل الملحمي الذي يبدو هادئ الإيقاع من الوهلة، ولكن يغلي بالمشاعر والغضب في الحقيقة.
أول هذه العوامل التي لا يمكن ألا نلاحظها الموسيقى التصويرية الحزينة، والأغاني التي تساهم في رسم خطوط العمل الأساسية بصورة صوتية لا تنسى، وعلى رأسها أغنية Mighty River التي ترشحت لجائزة الجولدن جلوب كأفضل أغنية أصلية والأوسكار كذلك، الأغاني والموسيقى كانا ضلعا المثلث في هذا العمل، أما عن الثالث فهو الحوار القوي بين كل الشخصيات، والذي لا نجد جملة منه بلا داعي أو مجرد حشو لدقائق الفيلم الذي على طوله كل مشهد فيه لا يمكن حذفه.
عامل قوته الثاني كان في كل من رسم الشخصيات، وأداء الممثيلن، فقد جاء الأداء طبيعية كما لو أن هؤلاء الممثلين خلقوا ليقدموا لورا وهنري ورونزيل وجيمي وفلورانس.
ويمكن تقسيم هذا الشخصيات في ثنائيات جمع بينها التناقض والتشابه في آن واحد، أولها جيمي “جاريت هيدلاند” ورونزيل “جاسون ميتشيل”، جيمي الفتى الأبيض الوسيم الذي يتم إرساله للحرب ليعمل في سلاح الطيران، بينما رونزيل هو ابن لفلاح من أصول إفريقية، على الرغم من خلفيته الفقيرة المتواضعة يصبح ضابط مسئول عن دبابة ينتقل من بلد لبلد في أوربا، يتعرض الشابان للعديد من الصدمات خلال الحرب، ليعودا كل منهما مهشمًا مصدعًا بصور مختلفة، يعانيان من كرب ما بعد الصدمة بوضوح ويجدا إنهما تغيرا بصورة لم يعودا بعدها قادرين على التماهي مع مجتمع ما قبل الحرب، وعندما يتعرفان تنمو بينهما صداقة يرفضها المجتمع العنصري تمامًا، يضطرا لإخفائها وتجلب عليهما العواقب الوخيمة في النهاية.
بينما الثنائي الثاني جمع بين هنري “جاسون كلارك” الرجل الذي يتخلى عن حياة المدنية حتى يعود للريف ويحقق حلمه القديم، وهاب جاكسون “روب مورجان” المزراع الأسمر الفقير الذي يدخر المال بكل قوته حتى يستطيع امتلاك قطعة أرض صغيرة وينتشل عائلته الكبيرة من العمل بالأجر ويشتري لأولاده مستقبل أفضل، كلا الرجلان لا يهدفان سوى إلى حياة أفضل لعائلته، لا يحمل ضغينة معينة للأخر، لكن مضطر لأداء الدور الذي يمليه عليه مجتمعه، هنري كمالك للأرض واجب عليه إملاء الأوامر، هاب كفلاح يتحمل الذل في سبيل عدم فتح أبواب من الصراعات لا يستطيع تحملها هو أو عائلته، كراهية مورثة يجب أن يحملاها لبعض دون أي داعي يراه أحدهما.
أما عن الثنائي الثالث فهو نسائي بين لورا “كاري مولجان” السيدة الأنيقة التي نزعها زوجها من مجتمعها لتعيش معه حياة خشنة في الريف ليست مهيأة لها روحيًا أو جسديًا، وفلورانس “ماري بليج” المرأة السمراء القوية، التي لا يدق قلبها سوى بحب أولادها، خاصة الغائب رونزيل، تنقذ فلورانس بنات لورا من المرض، لتطلب منها الأخيرة مساعدتها في أعمال المنزل، وتجمع بينهما صداقة من نوع خاصة، مخفية في طيات علاقة خادمة ومخدومة.
على الرغم من كل الأبطال السابقين فالعنصرية هي بطلة الحكاية الأولى، وذات الصوت الأعلى بين كل القصص الفرعية، العنصرية التي دامت في الولايات المتحدة لسنوات بعد إنهاء العبودية، بل ظلت بعد التخلص من قوانين الفصل العنصري في الستينيات، ولكن تعرضت لهزة عنيفة بعد الحرب العالمية الثانية، فقد سافر أصحاب البشرة السمراء وهم أشباه عبيد، ليعرفوا أن لهم قيمة في الحرب، أنهم يساهمون في حماية بلادهم مثل زملائهم أصحاب البشرة الأفتح، وشاهدوا عيون لا تنظر لهم بذات نظرة الاحتقار والفوقية التي اعتادوا عليها في بلادهم، وعندما عادوا لم يستطيعوا تقبل هذا الواقع القديم، ولم يستطع الحرس القديم ممن يرون أن الكفر كل الكفر أن تعلو العين على الحاجب احتماله فبدأ صراع من نوع جديد.
كل ما سبق تم تقديمه في لوحات فنية عبارة عن كادرات منتقاة بدقة، أظهرت بؤس الحال والطبيعة المرهقة التي يعيش بها أبطالنا، وقد أخرج التصوير الجمال من رحم القبح في صورة بديعة بالفعل، وقد هناك تباين واضح بين الملابس الداكنة ولون بشرة أغلب الأبطال والطين الذي يغطي البقية والإضاءة القوية ليظهر أن الشخصيات هي المتسخة داخلًا وخارجًا بينما العالم غير مسئول عن خطايا البشر، واستحقت مديرة التصوير راتشيل موريسون أن تكون أول امرأة تترشح لجائزة أوسكار أفضل تصوير، وترشح الفيلم لجائزتين إضافيتين هما أفضل نص مقتبس وأفضل ممثلة في دور مساعد ماري بليج.
في النهاية فيلم Mudbound عمل فنيًا ملحميًا، ويعتبر واحد من أفضل أفلام 2017 بالفعل، وأتمنى له الحصول على بعض الجوائز في الموسم الحالي.