بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
قد يبدو توجيه السؤال غريباً ومعروف الجواب سلفاً، إذ لا يوجد عاقل لا يريد أن يكون مع الصديقة الطاهرة الزهراء (عليها السلام) في درجتها، ولكن وجه السؤال هو معرفة ما يصل به الإنسان إلى تلك الدرجة.
وأين هي درجة الزهراء (عليها السلام)؟إنها مع أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعلها وبنيها (صلوات لله عليهم أجمعين) [فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ] (القمر:55) [أُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً] (النساء:69)، بل هم (صلوات الله عليهم وسلامه) الجنة الحقيقية، قال تعالى: [وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ] (التوبة: 72) ورضا الله تعالى رضاهم كما ورد في الحديث النبوي المتواتر: (إن الله يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها) وقال الإمام الحسين (عليه السلام): (رضا الله رضانا أهل البيت).
وقد أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه المعيّة والملازمة بينه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبينهم (صلوات الله عليهم أجمعين) في حديث الثقلين المشهور عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (إني تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي، كتاب الله حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض فانظروا بمَ تخلّفوني فيهما)([1]).
وفي حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (وأنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة ابنتي)([2]) وحينما يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ابنته الزهراء
فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني)([3]) فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يريد أن الزهراء (عليها السلام) ابنته وتولدت منه فهي جزء منه، لأن هذا المعنى عام يشترك فيه كل الناس ولا خصوصية لفاطمة من هذه الناحية حتى تستحق البيان، فكل ابن وبنت هما بضعة من والديهما، وإنما يريد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أن فاطمة (عليها السلام) جزء من وجوده المعنوي وامتداد مبارك له وأنها شعاع من شمسه المنيرة. لذا فرّع على هذا المعنى أن من أغضبها فقد أغضبه (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد أكّد الإمام الحسين (عليه السلام) هذا المعنى في خطابه الذي ألقاه في مكة المكرمة قبل خروجه إلى العراق ومما قال (عليه السلام): (رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه، وينجز بهم وعده)([4]).
أيها الأحبة:
لقد كفانا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤونة البحث عن إجابة السؤال الذي جعلناه عنواناً للخطاب، ودلّنا على ما يوجب اللحوق به (صلى الله عليه وآله وسلم) وببضعته الطاهرة (عليها السلام) في أحاديث عديدة، كالذي رواه الترمذي في صحيحه وأحمد بن حنبل في مسنده وغيرهم من علماء العامة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه (أخذ بيد حسن وحسين (عليهما السلام) فقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة)([5]) ولكن هذه الأحاديث يجب أن تُفهم في سياقاتها الطبيعية أي المعنى الحقيقي للحب ولوازمه وآثاره.
من كفل يتيماً كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) والزهراء (عليها السلام):
ارواه الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (صلوات الله عليهم أجمعين) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (من كفل يتيماً وكفل نفقته كنت أنا وهو في الجنة كهاتين وقرن بين إصبعيه المسبّحة والوسطى)([6]).
وفي رواية أخرى قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة إذا اتقى الله عز وجل) وأشار بالوسطى والتي تليها)([7])، والحديث مشهور، وإن كان ينقل من دون جزئه الأخير الذي هو شرط قبول الأعمال، قال تعالى: [إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ] (المائدة:27) لكنه هنا شرط لكون كافل اليتيم في درجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس شرطاً لإعطاء الجزاء، لأن أعمال البر والإحسان يثاب عليها الإنسان ولو لم يقصد بها وجه الله تعالى.
إذن هذا سبيل يوصلك لتكون مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في درجته بلطف الله تبارك وتعالى وكرمه، وقد تواترت الأحاديث في فضل كفالة اليتيم ورعايته منها ما روي عن رسول الله قوله: (إن في الجنة داراً يقال لها دار الفرح لا يدخلها إلا من فرّح يتامى المؤمنين)([8]) وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من قبض يتيماً من بين المسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنة ألبتة إلا أن يعمل ذبناً لا يغفر)([9]).
وعن أبي الدرداء قال: (أتى النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل يشكو قسوة قلبه، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أتُحبُّ أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك)([10]).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما من مؤمن ولا مؤمنة يضع يده على رأس يتيم إلا كتب الله له بكل شعرة مرّت يده عليها حسنة)([11]).
وعن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام): (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من عال يتيماً حتى يستغني عنه أوجب الله عز وجل له بذلك الجنة كما أوجب الله لآكل مال اليتيم النار)([12]).
الأيتام المعنويون:
ويوجد أيتام من نوع آخر هم أكثر عدداً يكاد يمثلون أغلب الناس، وكفالتهم لا تحتاج إلى المال، بل إلى الجهد والهمة والإخلاص، وكافلهم يكون أقرب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأول، تعرّفهم لنا جملة من الأحاديث الشريفة([13]) وتبين منزلتهم (الكافلين) عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) عن الإمام أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) قال: (حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: أشد من يُتم اليتيم الذي انقطع عن أبيه يتم يتيم انقطع عن إمامه ولا يقدر على الوصول إليه ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه ألا فمن كان من شيعتنا عالماً بعلومنا وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى)([14]).
وعن أبي محمد العسكري (عليه السلام) قال: (قال الحسن بن علي (عليهما السلام): فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل يخرجه من جهله، و يوضح له ما اشتبه عليه، على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه كفضل الشمس على السها([15])).
وعنه (عليه السلام) قال: (قال الحسين بن علي (عليهما السلام) من كفل لنا يتيماً قطعته عنا محبتنا([16]) باستتارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده وهداه، قال الله عز وجل: يا أيها العبد الكريم المواسي أنا أولى بالكرم منك، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علّمه ألف ألف قصر، وضموا إليها ما يليق بها من سائر النعم).
وعنه (عليه السلام) قال: (قال موسى بن جعفر (عليهما السلام): فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشد على إبليس من ألف عابد؛ لأن العابد همّه ذات نفسه فقط، وهذا همّه مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، فذلك هو أفضل عند الله من ألف ألف عابد، وألف ألف عابدة).
وعنه (عليه السلام) قال: (قال علي بن موسى الرضا (عليهما السلام): يقال للعابد يوم القيامة: نِعم الرجل كنت همتك ذات نفسك وكفيت الناس مؤونتك فادخل الجنة، ألا إن الفقيه من أفاض على الناس خيره، وأنقذهم من أعدائهم، ووفّر عليهم نعم جنان الله وحصل لهم رضوان الله تعالى. ويقال للفقيه: يا أيها الكافل لأيتام آل محمد الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم قف حتى تشفع لمن أخذ عنك، أو تعلَّم منك فيقف فيدخل الجنة معه فئاماً وفئاماً وفئاماً([17]) حتى قال عشراً).
وعنه (عليه السلام) قال: (قال محمد بن علي الجواد (عليهما السلام): من تكفل بأيتام آل محمد المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم، الأُسراء في أيدي شياطينهم، وفي أيدي النواصب من أعدائنا فاستنقذهم منهم، وأخرجهم من حيرتهم، وقهر الشياطين برد وساوسهم، وقهر الناصبين بحجج ربهم ودليل أئمتهم لَيُفضّلون عند الله تعالى على العباد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض و العرش والكرسي والحجب على السماء، وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء).
الصديقة الزهراء (عليها السلام) تكفل كلا النوعين من الأيتام:
وقد كانت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تحذو حذو أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) في أقواله وأفعاله وخصاله الكريمة وهديه وسمته، ومع أن علم الله تعالى سابق بأنها (صلوات الله عليها) في درجة أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) في الجنة إلا أنها مع ذلك كانت حريصة (صلوات الله عليها) على أن تقوم بكل ما يقربها إلى الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويجعلها معه في درجته ولم تتكل على ذلك الاستحقاق والعطاء السابق، بل عزّزته بالمثابرة والعمل الدؤوب وتحمّل كل المشاق في القيام بمسؤولياتها والصبر عليها، فتأكد استحقاقها لتلك الدرجة الرفيعة، وقد ورد في زيارتها (سلام الله عليها) يوم الأحد (السلام عليك يا ممتحنة، امتحنك الذي خلقك قبل أن يخلقك، وكنت لما امتحنك به صابرة) فقد أدت ما عليها ووفت بما عاهدت ربها عليه من الالتزامات فنجحت في الامتحان بأعلى درجات النجاح.
أما الأول فقد شهد الله تبارك وتعالى لها ولزوجها أمير المؤمنين وولديها الحسن والحسين (صلوات الله عليهم) في القرآن الكريم بإطعامهم اليتيم مع حاجتهم للطعام حباً لله تبارك وتعالى وإخلاصاً لوجهه الكريم [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُوراً] (الإنسان: 8-9).
ونقرأ في سيرتها (صلوات الله عليها) أنها طحنت بالرحى حتى مجلت يداها وأشعلت التنور حتى دكنت ثيابها وما ذلك لإطعام زوجها وبنيها لأنهم خمص البطون، وكانوا يكتفون من الطعام بما يسد رمقهم، وإنما كان ذلك لكثرة من تطعمهم وتتكفل بهم كما تشهد به روايات أخر، ولم تغب عنها الوصية بالأيتام وهي تودع الحياة الدنيا، روي أنه جاء في وصيتها (عليها السلام) لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالحسن والحسين (عليهما السلام): (يا أبا الحسن ولا تَصِحْ في وجهيهما فإنهما سيصبحان يتيمين من بعدي، بالأمس فقدا جدهما واليوم يفقدان أمهما)([18]).
وأما على المستوى الثاني لكفالة الأيتام فقد كانت لها حركة دؤوبة وهمة لا تعرف التواني والتقصير، روي عن الإمام أبي محمد العسكري (عليه السلام) أنه قال: (حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فقالت: إن لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألك، فأجابتها فاطمة (عليها السلام) عن ذلك، فثنت فأجابت ثم ثلثت إلى أن عشّرت فأجابت ثم خجلت من الكثرة فقالت: لا أشق عليك يا ابنة رسول الله، قالت فاطمة: هاتي وسلي عما بدا لك، أرأيت من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار يثقل عليه؟ فقالت: لا. فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً فأحرى أن لا يثقل عليّ، سمعت أبي (صلى الله عليه وآله) يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد الله حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلة من نور ثم ينادي منادي ربنا عز وجل: أيها الكافلون لأيتام آل محمد (صلى الله عليه وآله)، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذوا عنهم من العلوم حتى أن فيهم يعني في الأيتام لمن يخلع عليه مائة ألف خلعة وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم، ثم إن الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم، وتضعفوها لهم فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم، ويضاعف لهم، وكذلك من يليهم ممن خلع على من يليهم. وقالت فاطمة (عليها السلام): يا أَمَة الله إن سلكة من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة وما فضل فإنه مشوب بالتنغيص والكدر)([19]).
وروي عنه (عليه السلام) قال: (قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): من قوّى مسكيناً في دينه ضعيفاً في معرفته على ناصب مخالف فأفحمه لقنه الله يوم يُدلى في قبره أن يقول: الله ربي، ومحمد نبيي، وعلي وليي، والكعبة قبلتي، والقرآن بهجتي وعدتي، والمؤمنون إخواني. فيقول الله: أدليت بالحجة فوجبت لك أعالي درجات الجنة فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة)([20]).
مسؤوليتنا عن كفالة كلا النوعين من الأيتام:
أيها الأخوة والأخوات:
لنتأسّ بالصديقة الطاهرة الزهراء (عليها السلام) حتى نكون معها ومع أبيها الرسول الكريم (صلوات الله عليهما وآلهما) في درجتهما في الجنة بكفالة كلا النوعين من الأيتام.
يعج بمئات الآلاف من الأيتام بسبب ما تعرض له من جرائم القتل والبطش والحروب والمقابر وهؤلاء الأيتام في الوقت الذي يشكّلون فيه مسؤولية على الأمة جميعاً تقتضي احتضانهم ورعايتهم وتربيتهم، وإلا تحولوا إلى جيل كامل من المجرمين والقتلة والمرضى النفسيين والمنحرفين أخلاقياً والحاقدين على المجتمع، في الوقت نفسه هم يمثلون فرصة عظيمة للطاعة امتثالاً للتوجيهات النبوية الشريفة المتقدمة.
أما النوع الثاني من اليتيم فهو صفة أكثر الناس فإنهم بين جاهل بالشريعة لا يعرف حتى الأحكام الأساسية التي يبتلى بها يومياً كالوضوء والصلاة والغسل وبعض المعاملات، وبين مفتون قد اضطربت في ذهنه الأفكار وعصفت به الضلالات، وبين متورط في المعاصي بسبب غفلته وعدم وجود من يعظه ويذكره بالله تعالى، وبين إمّعةٍ ينعقون مع كل ناعق -كما وصفهم الحديث الشريف- وبين ضعيف أو مستضعف يحتاج إلى من يقوي فيه عقائده ويشدّ إيمانه، ولعلكم تعرفون أكثر مني مصاديق ذلك من خلال احتكاككم بالناس واطلاعكم على البيئة التي تعيشون فيها، ولعل بعضكم اطلع على الكثير مما ذكرت من خلال التجمعات الكبيرة التي تحصل في بعض المناسبات الاجتماعية والدينية وغيرها.
فأمامكم فرصة واسعة لنيل القرب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء برعاية الأيتام من النوع الأول وكفالتهم بالمساعدات المالية ورعايتهم وتربيتهم وإنشاء مؤسسات الحضانة والتعليم والترفيه لهم ونحوها، وقد أذنت المرجعية بصرف قسم كبير من الحقوق الشرعية لكفالة الأيتام.
والفرصة الأوسع التي أمامكم هي كفالة الأيتام من النوع الثاني وهي متاحة للجميع إذ ما من أحد منا إلا ويعرف مسألةً شرعيةً أو حديثاً شريفاً أو نصيحةً مفيدةً فلنُنظّم جميعاً ببركة الزهراء (عليها السلام) حملة واسعة نقوم خلالها بتعليم الناس كل كلمة مفيدة أو موعظة تسمعونها أو مسألة شرعية تتعلمونها أو عمل صالح تهتدون إليه، أو نصيحة ترشدهم وتصحح أخطاءهم وغيرها كثير.
فلا تبخلوا بكل ذلك على الناس سواء داخل الأسرة أو لزملائكم في العمل أو المنطقة أو رفقائك في السفر، وانقلوها لأكبر عدد منهم ليزداد أجركم وتحظون برضا الله تبارك وتعالى والمنزلة الرفيعة عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والصديقة الطاهرة الزهراء (صلوات الله عليها)، فهذه الوظيفة بل هي مسؤولية كل من تعلم ولو مسألة واحدة وأنتم شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) فاحفظوا وصيته بالأيتام عند وفاته (صلوات الله عليه) وقد رويت في الكافي بسند صحيح ومما جاء فيها: (الله الله في الأيتام؛ فلا تغبّوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم، فقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: من عال يتيماً حتى يستغني أوجب اله عز وجل له بذلك الجنة كما أوجب الله لآكل مال اليتيم النار)([21]).
وتأسّوا بإمامكم المهدي الموعود (صلوات الله عليه) فإنه مع ما يعانيه من ألم الغيبة عن ممارسة دوره الكامل في حياة الأمة فإنه لم يغفل لحظة عن رعاية شيعته، قال (عليه السلام): (نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الفاسقين، فإننا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم، مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. إنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء فاتقوا الله جل جلاله..)([22]).
إحياء المناسبات الفاطمية لا يقتصر على ذكر مظلوميتها (عليها السلام):
أيها الأحبة:
إننا نركز في إحيائنا لقضية الزهراء (عليها السلام) على جانب المظلومية، وهي لعمري صفحة مهمة في حياتها لأنها تلقي الضوء على كثير من قضايا الأمة وتميز الحق والباطل وتؤسس للمعتقدات الحقة والمسار الصحيح الموصل إلى رضا الله تبارك وتعالى وقد اهتدى من خلالها خلق كثير، لكن الاقتصار عليها يحرم الأمة من الصفحات الأخرى من حياة الزهراء (عليها السلام) التي هي بحق مدرسة لكل الناس، وسفر خالد تنهل منه الأجيال، فلا تحرموا أنفسكم من الاستفادة من هذه المدرسة المباركة بإذن الله تعالى وبفضله وبرحمته.
--------------
([1]) الحديث من مسند أحمد بن حنبل، وتجد مصادره من كتب العامة في كتاب (فضائل الخمسة من الصحاح الستة): 2/52-62.
([2]) كنز العمال: 5/400 الحديث 36345 ومصادر الحديث من كتب العامة في (فضائل الخمسة من الصحاح الستة): 3/129-131.
([3]) هذا نص البخاري في صحيحه وتوجد مصادره في المصدر السابق.
([4]) مقتل الحسين (عليه السلام): للسيد المقرم: 193.
([5]) تجد مصادر الحديث في كتاب (فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 1/299-300.
([6]) بحار الأنوار: 75/3 عن قرب الإسناد بسند مقبول.
([7]) تفسير نور الثقلين: 5/597.
([8]) كنز العمال: ح6008.
([9]) الترغيب والترهيب: 3/347.
([10]) الترغيب والترهيب: 3/349.
([11]) بحار الأنوار: 75/4.
([12]) بحار الأنوار: 75/4.
([13]) هذه المجموعة من الأحاديث أثبتها العلامة المجلسي (قدس سره) في بحار الأنوار: 2/ 2-6 في الباب 8 من كتاب العقل والعلم والجهل، أبواب العقل والجهل، عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام) وكتاب الاحتجاج للطبرسي.
([14]) الأحاديث من بحار الأنوار الباب المذكور على التسلسل: 1، 4، 5، 9، 10، 11.
([15]) السها في لغة العرب كويكب صغير خفي الضوء، والناس يمتحنون به أبصارهم لصغره وخفائه.
([16]) أي كان سبب انقطاعه عنا رغبتنا في الاستتار رعاية لحكمة إلهية عظمى. وفي نسخة (محنتنا) وهو أظهر.
([17]) فئام: الجماعات الكبيرة من الناس، وطبقت في بعض الموارد –كيوم الغدير- على مئة ألف.
([18]) بحار الأنوار: 43/178.
([19]) بحار الأنوار: الموضع السابق، ح3.
([20]) بحار الأنوار: الموضع السابق، ح14.
([21]) الكافي: 7/51-52 باب صدقات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفاطمة والأئمة (عليهم السلام) ووصاياهم، ح7.
([22]) الاحتجاج للطبرسي: 2/323.