بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
زينب (عليها السلام) المولودة الميمونة:
إن السيدة زينب (عليها السلام) حفيدة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وابنة النورين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وفاطمة الزهراء(عليها السلام) درة من درر بيت الوحي والنبوة، مجتباة مصطفاة، هدية من لدن رب العرش إلى بيت من أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، نجم أشرق في سماء دنيا المرأة المسلمة بل الدنيا بأسرها من مشرق الأنوار الإلهية ومشكاة النور الإلهي من بيت أذن الله له أن يرفع ويذكر فيه اسمه.
كانت ولادتها الميمونة في الخامس من شهر جمادى الأولى من السنة الخامسة أو السادسة للهجرة على ما حققه بعض أهل الفضل.
ولما ولدت(عليها السلام) جاءت بها أمها فاطمة الزهراء(عليها السلام) إلى أبيها أمير المؤمنين(عليها السلام) وقالت له: سم هذه المولودة؛ فقال (عليه السلام): ما كنت لأسبق رسول الله(صلى الله عليه وآله) وكان في سفر له، ولما جاء النبي (صلى الله عليه وآله) وسأله - أي الإمام علي(عليه السلام) - عن اسمها فقال (صلى الله عليه وآله): ما كنت لأسبق ربي تعالى، فهبط جبرائيل يقرأ على النبي (صلى الله عليه وآله) السلام من الله الجليل وقال له: سم هذه المولودة(زينب) فقد اختار الله لها هذا الإسم، ثم أخبره يما يجري عليها من المصائب، فبكى النبي(صلى الله عليه وآله) وقال: "من بكى على مصاب هذه البنت كان كمن بكى على أخويها الحسن والحسين(عليهما السلام)...".[2]
ربيبة أهل الكساء (ع):
لئن كانت مريم ابنة عمران(عليها السلام) ابنة نبي وربيبة آخر هو زكريا(عليه السلام) وقد أشار تعالى إلى أن ذلك كان بتدخل إلهي لتكون مريم ربيبة الله فقال جل وعلا: }فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا.{.[3]
فإن زينب(عليها السلام) قد كان منشؤها وهي الطاهرة الكريمة في بيت الوحي والنبوة والعترة المباركة، فنشأت في حضن النبوة ودرجت في بيت الرسالة، وكان لبان رضاعها من ثدي الوحي، تغذت كرامة وعزة وإباءً، وبطولة من كف حامل لواء رسول الله(صلى الله عليه وآله) وبطل الإسلام علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وكان قريناها في بيت الطهر ريحانتي رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وهكذا نشأة في بيت تتنقل فيه بسمعها وبصرها وقلبها بين أعظم رسول وسيد الأوصياء وسيدة النساء وسيدي شباب أهل الجنة.
لا شك أن تكون أبرز مصداق لمن انبته الله نباتاً حسناً وكان المربون والكفلاء هم الخمسة أهل الكساء.
وبحق كانت نشأتها نشأة قدسية وكانت تربيتها تربية روحانية يلفها رداء العظمة ويحوطها حجاب العفاف والحشمة، ويحدوها إلى مراقي العظمة همهمات محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) في صلوات ليلهم، وتداعب أشفار عيونها بل تلامس أعماق قلبها أنوار هؤلاء الخمسة.
نعم هؤلاء العظماء الخمسة هم الذين تولوا تربيتها وتنشئتها ورعايتها وتهذيبها فكفى بهم مؤدبين ومعلمين ومربين، وأين كفالة زكريا (عليه السلام) من هذه الكفالة والرعاية والتربية.
زينب(عليها السلام) سيدة العفاف:
لقد كانت السيدة زينب(عليها السلام) الطاهرة سليلة الأطهار، امرأة شكل وجودها وسلوكها وسيرتها تجسيداً لمزيج من القيم والأخلاق من العصمة، والقداسة إلى العلم والحكمة، إلى البلاغة والشجاعة، والجهاد والبذل والعطاء والتضحية والفداء والإيثار والعبودية الحقة لله تعالى فكانت كما قال عنها ابن أخيها الإمام زين العابدين(عليه السلام): "أنت بحمد الله عالمة غير معلمة وفهمة غير مفهَّمة..".[4]
ومن أهم ما جسدته (عليها السلام) من قيم وأخلاق وأبرزته كسلوك: "العفاف"؛ الذي جسدته بأبهى صوره، وأظهرت أكمل معانيه، فكان العفاف زينتها في كل جوانب حياتها ومهما تقلبت أحوال دهرها، وبحق كانت مع أمها الزهراء(عليها السلام) أهم نماذج العفيفات الطاهرات اللاتي قدمهن الإسلام للبشرية.
ولم تكن زينب(عليها السلام) فقط نموذج العفة والستر والإحتشام، بل كانت حاملة لوائه والمدافعة عنه، وقد بلغت من شدة الحرص على العفاف والستر والحجاب حداً، جعلها في تقريعها للطاغية يزيد وتوبيخها له تقدم جريمة هتك ستور النساء في مسير السبي لتجعله أول ما وبخته عليه فقالت للطاغية يزيد في مجلسه: "أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى، أن بنا على الله هوانا وبك على الله كرامة؟!...
أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك وسوقك بنات رسول الله(صلى الله عليه وآله) سبايا، قد هتكت ستورهن وأبديت ووجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد...".[5]
فهذا البيان من الصديقة الصغرى، وفي مثل ذلك الجو وأمام ذلك الطاغية مع حضور من حضر ورؤوس الشهداء بين يدي الحاضرين الذي هو احتجاج على ما انتهك من ستور السبايا، يشكل قياماً وثورة بوجه الطاغية للدفاع عن الحجاب والشرف والعفاف، ويشكل دليلاً على أهمية وقداسة تلك القيم مهما ساءت الظروف.
لماذا التركيز على الستر:
إن وقفة زينب (عليها السلام) لتدافع عن الستر والعفاف والحجاب، تأتي استكمالاً لمعركة أخيها الحسين(عليه السلام) في العاشر من المحرم لتضيف إلى القيم التي قاتل من أجلها الحسين(عليه السلام) وآل بيته وصحبه يوم العاشر من المحرم، قيمة هي العفة والستر، وذلك لأن ستر المرأة وعفافها جمال للمرأة وجلال لها بل هو جمال وجلال للإسلام ولأمة الإسلام وهو صون لها من الإستدراج إلى بؤر الفساد والضلال والضياع.
فالعفاف يعني الإبتعاد عن الحرام، والعفاف يعني الإنضباط على جادة الشرع وضبط الشهوات، والاغتناء بما أحلَّ الله وعدم التوثب على ما حرم الله وهو إعانة لضعاف النفوس على كف أنفسهم وضبطها وعدم جموحها نحو المحرمات.
فالعفة صون للإسرة وصون للرجل بعين ما هي صون للمرأة، لأنها صون عن تحكم الأهواء والإنحرافات والشذوذ، ودعوة لتشريف النفوس عن كل دنيئ وقبيح ورذيل، والعفة حصن وحرز عما يخدش المرؤة والحياء.
والعفة قوة ينتصر بها الفرد والمجتمع على الشهوات وثورانها.
ماهي العوامل التي تعزز العفة؟
هناك عوامل كثيرة تساعد على إنتشار العفة وتنميتها في المجتمع ومن أهمها:
1-اتخاذ القدوة من النساء العفيفات:
تحاول وسائل الإعلام والإتصال أن تقدم لنا نماذج من النساء المبتذلات كقدوة وتعظِّمهن من خلال البرامج والقصص التي تذكرها عنهن ولمواجهة ذلك على المرأة المؤمنة أن تتخذ من الصديقة الصغرى عقيلة الهاشميين وأمها ومريم (عليهنّ السلام) نموذجاً وقدوة ومثلاً أعلى، وتقتدي بهن وبعفتهن، وأن تلزم مبدأ العفاف في حياتها، وأن تعمل على أن تجمِّل الستر والعفاف في مجتمها بما تقدمه من سلوك حسن وخلق جميل وفعالية وإنتاجية، وعليها أن تربي أبناءها على تقديس العفة ونماذجها المنيرة كالصديقة زينب (عليها السلام).
2- غض البصر:قال تعالى:{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[6].
فالله عزّ وجل لم يجعل مسؤولية العفاف فقط على المرأة وإن خاطبها بما خاطب به الرجل وطالبها بغض البصر والتستر، إلا أنه كذلك طلب من الرجل أن يغض بصره، لعله لأن النظر ليس فقط مجلبة للشهوة المحرمة عليه، وإنما لأنه إن كان نظرة فيها الإعجاب فسيكون مغرياً لبعض النساء على الخروج عن حدود الستر والعفاف، ويزين لها السفور والخلاعة والميوعة.
3-الإبتعاد عن ما يثير الشهوات:
وعلى رأس ذلك ما يبث عبر شاشات التلفزة من برامج لا هم لها سوى اثارة الشهوات، وكذلك ما يتم نشره عبر وسائل الإتصال الحديثة. وأكثر ما نشاهده الآن من أفلام مدبلجة وبرامج مسابقات تدعو للخلاعة وقلة الحشمة، وبعضها وأخبثها ما يأتينا بصورة الناصح من خلال نشر الفضائح والترويج للفظائع كحالات الشذوذ.
4- التربية على العفة:
وهذا ما يبرز في حياة زينب (ع) التي كانت تسمع كلام أمها (ع): (خير للمرأة أن لا ترى الرجال ، ولا يراها الرجال). ومنها ما رواه يحيى المازني وهو من أصحاب علي(عليه السلام) قال: "كنت في جوار أمير المؤمنين(عليه السلام) في المدينة المنورة مدة مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فلا والله ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوتاً، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدها رسول الله (صلى الله عليه وآله) تخرج ليلاً والحسن(عليه السلام) عن يمينها والحسين(عليه السلام) عن شمالها وأمير المؤمنين(عليه السلام) أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين(عليه السلام) فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسن(عليه السلام) مرة عن ذلك فقال(عليه السلام): أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب".[7]
نعم هكذا حرص من أهل البيت(عليهم السلام) على ستر ابنتهم جعلها نموذج العفة والستر وأشد وأقوى المحامين عنهما. وهكذا غيرة على حجاب زينب (ع) أورثت تلك المكانة المقدسة للستر والحجاب والعفاف في نفسها. وهذا ما تَمثّله أحد شهداء المقاومة الإسلامية بوصيته القائلة: (أختي، حجابك أفضل من دمي).
ومن مظاهر التربية على العفة الفصل بين الذكور والإناث في النوم فلا تجعل للذكور وللإناث غرفة نوم واحدة، وقد عبرت الروايات عن ذلك بالتفريق بين المضاجع أثناء المبيت.
ومن الأمور المهمة عدم الإبتذال من الأهل أمام الأبناء سواء كان ذلك في الملبس، أو في الألفاظ أو غير ذلك من الأحاديث التي تتداول بين الأم والأب وبين الإخوة من الذكور، أو بين الأهل وضيوفهم خصوصاً بين الجيران (الصبحيات).
خاتمة:
لقد كانت زينب (عليها السلام) نموذج الإنسان الكامل في علاقتها مع ربها ومع أئمة زمانها، فحملت كل قضاياهم وشاركتهم مصائبهم وأفراحهم وأحزانهم، وكانت مظهراً من مظاهر جمال وجلال بيت النبوة وكانت اللسان المدافع عن دين الله ودين رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعن أولياء الله وعن قيم الدين وشرعه.
فالسلام عليها يوم ولدت ويوم ارتحلت إلى بارئها ويوم تبعث حية.
---------------------------------------
[1] أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين-ج7،ص140.
[2] وفيات الأئمة(عليهم السلام)، من علماء البحرين والقطيف، ص:431.
[3] سورة آل عمران، الآية:37.
[4] وفيات الأئمة(عليهم السلام)، من علماء البحرين والقطيف، ص:438.
[5] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج47، ص:133.
[6] سورة النور، الآية:30.
[7] وفيات الأئمة(عليهم السلام)، من علماء البحرين والقطيف، ص:436.