بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
إن التربية الملتزمة الواعية توصل المرأة إلى منزلة القيادة والقدوة والكمال، للنساء بل للرجال أيضا، كما وصلت إلى هذه المنزلة الرفيعة بعض النساء المميزات في حركة التاريخ، ومن هؤلاء النساء السيدة زينب عليها السلام التي جسّدت مختلف أدوار المرأة:
أ- العناية النبوية والعلوية بالسيدة زينب عليها السلام:
يبدو لنا من خلال تتبع حياة هذه المرأة العظيمة... أنها كانت معدة إعدادا إلهيا خاصاً للقيام بهذا الدور العظيم الذي حفظ الإسلام من التحريف، فقد ذكر المؤرخون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين علم بمولد زينب عليها السلام وجم وبكى وضمها إلى صدره وهو يوسعها تقبيلاً،"حتى أثار ذلك عجب أمها سيدة نساء العالمين" فقالت: "ما يبكيك يا أبتي؟ لا أبكى الله لك عينا"، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "يا فاطمة أعلمي أن هذه البنت بعدي وبعدك سوف تنصب عليها الرزايا والمصائب".
ومن عناية أمير المؤمنين بابنته أنه كان يُطفئ مصابيح الضريح المقدس للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم عند زيارتها له فقد حدث يحيى المازني قائلاً: "كنت في جوار أمير المؤمنين عليه السلام في المدينة مدة مديدة وبالقرب البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فلا والله ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوتاً، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تخرج ليلاً والحسن عن يمينها والحسين عن شمالها، وأمير المؤمنين عليه السلام أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين عليه السلام فأخمد ضوء القناديل فسأله الحسن عليه السلام مرة عن ذلك" فقال: "أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب"، وفي بعض الروايات: "إن الحسين عليه السلام إذا زارته زينب يقوم إجلالا لها، وكان يجلسها في مكانه".
ب - مراحل حياتها:
- أدركت السيدة زينب عليها السلام جدَها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهي على الاصطلاح: صحابية.
- وأدركت أمَها فاطمة الزهراء عليها السلام ورأت مصيبتها، وسمعت خطبتها في المسجد النبوي.
- وشاهدت أذى القوم لها، وكسر ضلعها وسقط جنينها واستشهادها وتشييعها ودفنها عليها السلام ليلاً.
-وأدركت أباها الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام، وكانت حاضرة خطبه وجهاده واستشهاده..
- وسمعت جبرائيل عليه السلام ينادي بين السماء والأرض: "تهدمت والله أركان الهدى".
-وأدركت أخاها الإمام الحسن عليه السلام، ومصائبه، وتسميمه، وقذف كبده...
- وحضرت كربلاء بكل قضاياها الفريدة في العالم.
- وأدركها الأسر، ولأول مرة تؤسر بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت عليها السلام هي التي أوصلت صوت الإمام الحسين عليه السلام إلى العالم بأجمعه. وأحضرت مجلس ابن زياد ومجلس يزيد، ومن ثم عودتها إلى مدينة جدها صلى الله عليه وآله وسلم بكل مآسيها، وفي المدينة المنورة تلقتها نساء أهل البيت ونساء المسلمين بكل لوعة وأسى..
ج- قبس من صفاتها الطيبة:
- عبادة زينب عليها السلام: كانت تقضي عامة لياليها بالتهجّد وتلاوة القرآن، قالت فاطمة بنت الحسين عليه السلام وأما عمتي زينب فإنها لم تزل قائمة في تلك الليلة أي العاشرة من المحرم في محرابها، تستغيث إلى ربها، فما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا رنّة. وفي رواية: أن الحسين عليه السلام لما ودّع أخته زينب وداعه الأخير قال لها: يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل...
- إيثارها عليها السلام: وروي عن الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قال: "إن عمتي زينب كانت تؤدي صلواتها من الفرائض والنوافل عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام من قيام، وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس فسألتها عن سبب ذلك فقالت: أصلي من جلوس لشدة الجوع والضعف منذ ثلاث ليال، لأنها كانت تقسّم ما يصيبها من الطعام على الأطفال لان القوم كانوا يدفعون لكل واحد منا رغيفاً واحداً من الخبز في اليوم والليلة"
- شجاعتها: قال ابن مرجانة سائلاً عنها: مَن هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟ فأعرضت عنه احتقاراً واستهانة به، وكرّر السؤال فلم تجبه، فأجابته إحدى السيّدات: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال لها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وأبطل أحدوثتكم.
فأجابته عليه السلام بشجاعة أبيها محتقرة له قائلة: "الحمْدُ للهِ الَّذي أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ، وَطَهَّرَنــــَا مِنَ الرِّجْسِ تَطْهِيراً، إِنَّمَا يَفْتَضِحُ الْفَاسِقُ وَيَكْذِبُ الْفَـــاجِرُ، وَهُوَ غَيْـــرُنَا يَا بْنَ مَرْجَانَة"
- تسليمها: وكذالك عندما خاطبها مستهزئاً: كيف رأيت صنع الله بأخيك؟ فأجابته قائلة: "ما رَأَيْتُ إِلاّ جَمِيلاً، هؤُلاَءَ قَوْمُ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْقَتَلَ، فَبَرَزُوا إِلى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمعُ اللهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلَجُ يَومَئِذٍ، ثَكَلَتْكَ أُمُّكَ يا بْنَ مَرْجَانَةَ..".
د- ثباتها ومواجهتها للظالمين:
لما دخل موكب السبايا الكوفة، خرج الناس إلى الشوارع، بين مُتسائل لا يدري لمن السبايا، وبين عارف يُكفكف أدمعاً ويُضمر ندماً ولما اتَّجه موكب السبايا نحو قصر الإمارة، مُخترقاً جموع أهل الكوفة، وهم يبكون لِما حلَّ بالبيت النبوي الكريم، قال بشير بن خزيم ألأسدي: ونظرت إلى زينب بنت علي يومئذ، ولم أر خفرة والله أنطق منها، كأنّها تفرع من لسان أمير المؤمنين عليه السلام، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا، فارتدت الأنفاس، وسكنت الأجراس، ثمّ قالت: "الْحَمْدُ للهِ، وَالصَّلاَةُ عَلىَ جَدِّي مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبِينَ الأَخْيَارَ، أَهْلَ الْكُوفَةِ، يَا أَهْلَ الْخَتْلِ والْغَدْرِ، أَتَبْكُونَ؟! فَلَا رَقَأَتِ الدَّمْعَةُ، ولَا هَدَأَتِ الرَّنَّةُ، إِنَّمَا مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً، تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ...َأتَبْكُونَ وَتَنْتَحِبُونَ؟! إِيْ وَاللهِ فَابْكُوا كَثِيراً، واضْحَكُوا قَلِيلاً، فَلَقَدْ ذَهَبْتُمْ بِعَارِهَا وَشَناَرِهَا..."
لقد تمكّنت عليه السلام بمواجهتها الجريئة للظالمين من إيضاح الصورة للرأي العام وإثارتهم على الأمويين، وإظهار المصيبة الكبرى التي داهمت العالم الإسلامي بقتل ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقرّعتهم عقيلة الرسول بخطابها البليغ، وعرّفتهم زيف إسلامهم، وكذب دموعهم، وأنّهم من أحطّ المجرمين، فقد اقترفوا أفظع جريمة وقعت على الأرض، بقتل الإمام الذي أراد لهم الخير، وَفرَوْا بقتله كبدَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانتهكوا حرمَته، وسبوْا عيالَه، فأيُّ جريمة أبشع من هذه الجريمة.