بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
لا شك إن لزينب (عليها السلام) مزايا وصفات ميزتها عن النساء وجعلتها سيدتهن والنموذج المتعالي في سماء المجد والبطولة والافتخار،
فهي السيدة التي فاقت الفرسان في عزيمتهم والصناديد في شكيمتهم، إنها المرأة الحية، اليقضة، التي أبانت عن عزمها وصلابتها لحظة بدأ الطغيان، لقد اعادت زينب حقاً لهذه الأمة الإحساس بكرامتها، فيما كانت فلول الرجال تبيعها مقابل بضع ثمرات من دنيا يزيد.
فليس من اليسير أن يصف المرء حال السيدة زينب (عليها السلام) يوم عاشوراء، تلك المرأة التي وقفت بصلابة وشموخ وهي ترى أقرب الخلق إليها يُذبحون كالأضاحي، فيما هي بقيت تكافح كشجرة وحيدة في مهب رياح عاتية، وجل غايتها أن تحمل الرسالة التي سلمها إياها أخوها الحسين (عليه السلام) وهو يتهاوى على رمضاء كربلاء.
وما إن سقط الحسين (عليه السلام) في أرض المعركة حتى تدافع جيش عمر بن سعد نحو الخيام، وكانت تلك الأوقات من أشدها على العقيلة، فصاحت يا ابن سعد: إذا كان جيشك يبغي السلب، فنحن ندفع إليه كل ما بأيدينا، ولكن كف رجالك عنا، ثم جمعت الأطفال والنساء وأمرتهم بإلقاء كل ما عندهم في زاوية، وإلى جانب مسؤوليتها في حفظ النساء والأطفال، حملت مسؤولية كبرى، هي الحفاظ على حياة ابن أخيها العليل علي بن الحسين (عليه السلام)، فكانت تحول بينه وبين الأعداء، وتواجههم بكل شجاعة.
زينب (عليها السلام) والاختيار الصعب
لقد اختارت السيدة زينب (عليها السلام) دورها في ثورة الحسين بوعي سابق وإدراك عميق، حيث إنها كانت المبادرة للمشاركة كما احتفظت بزمام المبادرة في مختلف المواقف والوقائع الثورية. ولأنها كانت مختارة ومبادرة عن سابق وعي وتصميم، فإنها كانت تنظر الى ما واجهته من آلام ومآس قاسية تتصدع لهولها الجبال الرواسي، بإيجابية واطمئنان، وتعتبرها ابتلاءاً وامتحاناً إلهياً لابد لها من النجاح فيه.
وحينما حدثت الفاجعة الكبرى بمقتل أخيها الحسين (عليه السلام) بعد قتل كل رجالات بيتها وأنصارها خرجت السيدة زينب (عليها السلام) تعدو نحو ساحة المعركة تبحث عن جسد أخيها الحسين غير عابئة بصفوف الجيش الأموي المدجج بالسلاح، فلما وقفت على جثمان أخيها العزيز الذي مزقته السيوف، جعلت تطيل النظر إليه ثم رفعت بصرها نحو السماء وهو تدعو بحرارة ولهف: (اللهم تقبل منا هذا القربان). إن ذروة المأساة وقمة المصيبة هو مورد للتقرب الى الله تعالى عند السيدة زينب (عليها السلام) وذلك هو قمة الوعي وأعلى مستويات الإرادة والاختيار.
وحينما يسألها عبيد الله بن زياد أمير الكوفة وواجهته السلطة الأمية في مجلسه سؤال الشامت المغرور بالنصر الزائف قائلاً: (كيف رأيت فعل الله بأخيك؟) فإنها تجيبه فوراً بجرأة وثقة وثبات وصمود قائلة: (ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة).
وتختم خطابها في مجلس يزيد بن معاوية بتأكيد رؤيتها الإيجابية لما حصل لها ولأهل بيتها من مصائب وآلام حيث تقول: (والحمد لله رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولأخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل).
زينب (عليها السلام) والامتداد الحسيني
يقترن دور زينب (عليها السلام) في التاريخ الإسلامي بموقعة كربلاء، فكما أن للحسين (عليه السلام) حقاً على المسلمين، كان لعقيلة بني هاشم حق على المسلمين الى يوم الدين، فلولا شهادة الحسين (عليه السلام) ولولا وجود من يبلغ رسالته التي اطلقها في عاشوراء لما كان من بعده ولا قيم إيمان ولا سلام ولا صلة تربط الإنسان بالدين.
ومن المعروف قدرة يزيد وأعوانه عل طمس موقعة كربلاء وخنق أدائها، لولا جهود زينب (عليها السلام) التي بذلتها في مسيرتها الطويلة من كربلاء الى الكوفة، ثم الى الشام ومنها الى المدينة. وكان بوسع الأمويين، لولا ذلك، أن يتهموا الإمام الحسين (عليه السلام) بالخروج لطلب الدنيا، وأن الله خذله ونصرهم، أو أنه أراد الفتنة في بلاد المسلمين فقطع الله دابر الفتنة. ولكن حاملة الرسالة العقيلة زينب (عليها السلام) هي التي أفشلت خططهم، وردت كيدهم الى نحورهم ورفعت راية عاشوراء عالية ترفرف في كل مكان والى يوم الدين.
موكب الأسرى في الكوفة
دخل موكب أسرى آل بيت (عليهم السلام) مدينة الكوفة، فاستقبلته النساء بالبكاء والعويل والطم على الخدود. فانزعجت العقيلة كثيراً، وقد رأت هؤلاء القوم وهم يخذلون أباها، ثم ينقلبون على أخيها الحسن (عليه السلام) ، ويستدعون بعد ذلك أخاها الحسين (عليه السلام)، حتى إذا أجاب دعوتهم خرجوا عليه بسيوفهم فقتلوه وأهله وصحبه، ثم هم يأسرون نساءه وأطفاله في موكب ذليل، ويستقبلونهم، بعد ذلك، بالبكاء والعويل، فانطلقت زينب (عليها السلام) تهدر فيهم بخطبة مجلجلة تسمعهم فيها أنواع التأنيب والتقريع على مواقفهم المخزية وتخاذلهم المشين.
وما زالت تواصل إبلاغها رسالتها في حلها وترحالها، حتى بلغت الشام ودخلت مجلس يزيد فخطبت خطبتها العصماء التي أرهبت قلوب الظالمين، وزعزعت عروشهم، فحاول يزيد التخلص من هذا الخطر المحدق به، ومن معها الى المدينة المنورة.
زينب (عليها السلام) في مدينة جدها
كان بقاء زينب (عليها السلام) في المدينة بمثابة مرحلة غرس بذور الثورة على الحكم الأموي ولا سيما في الأوساط النسائية، فقد كانت السيدة العقيلة تهيج الرأي العام في المدينة ببياناتها الحماسية وخطبها الصاعقة التي تفضح ممارسات الأمويين واستهانتهم بمقدرات الأمة وتعاليم الدين وكانت خلال ذلك تزرع حب أهل البيت والحسين (عليهم السلام) في نفوس الناس
وحين تفاقم الأمر كتب والي المدينة الى يزيد يحذره عاقبة إبقاء زينب في المدينة، ولم يكن يزيد قد نسي خطبتها في مجلسه، فأمر بتفريق أهل البيت في أماكن شتى، وكان له ذلك, ولكن خاب ظن يزيد، ورد كيده الى نحره، فقد استطاعت السيدة العقيلة (عليها السلام) أن تزلزل عرشه، وأن توهن دعائم الحكم الأموي، لتتقوض بعد حين. وهكذا كانت السيدة زينب الكبرى (عليها السلام) نموذجاً حياً وخالداً للمرأة الرسالية الثائرة التي تدرك عمق مسؤوليتها وأهمية دورها، وكانت بحق أسوة لكل امرأة، فحري بالمسلمات جميعاً أن يقتدين بها في كل جوانب الحياة.
لقد كانت زينب (عليها السلام) نموذج المرأة القدوة في جيلها وكل الأجيال اللاحقة. وإن الحاجة إلى هذا النموذج تكثفت في هذا العصر، حيث نواجه حالة الردة التي اصبت المرأة المسلمة، فزيبنب (عليها السلام) تعاصرنا من خلال أبعاد شخصيتها النوعية التي من أهمها بعدها الإنساني، إنهم كثيراً ما يعيبون على مواقفنا من المرأة.. لكأنما الإسلام، هو سليل تلك الجاهلية الجهلاء، حينما كانت تسلب المرأة كامل حقوقها، وتجعلها متاعاً يورث ودولة بين رجال قومها.
ويتناسون أن رسالة الإسلام جاءت لتوقف هذه العنجهية الجاهلية، ليعيد الكرامة إلى هذه المرأة وتنهض بها باتجاه إنسانيتها أو كما نطق أبوها (عليه السلام): (النساء في شقائق الرجال).. ويتناسون أيضاً أن مصدر التصور الإسلامي وواقعه التنفيذي يجب أن يؤخذ من هذا البيت النبوي، وليس من هذا القطيع الشارد الذي لم يقطع حبله السري بأنماط الحياة الجاهلية.
إننا أما زينب (عليها السلام) نموذج المرأة المسلمة كما أردها الإسلام، وكما جعلها حجة حية، ناضبة بالحياة أما اجيال المسلمين. وهكذا فحينما نريد أن نتعرف على المرأة المسلمة النموذجية كما دعا إليها الإسلام، نقرأ في شخصية زينب (عليها السلام).
لقد قدمت زينب (عليها السلام) من خلال عاشوراء مثالاً حياً عن الإنسانية الساكنة في أعماق امرأة رسالية، تنتظر بعين الله وتناضل من أجل رسالته. وقد مثلت جانب المرأة التي يأوى اليها الفرسان من ذوي القربى، فإذا بها تزوهم بكل المعنويات وتمدهم بعناصر القوة والصبر والاستماتة.