عن ذكاء الغراب
الذكاء عند الحيوانات من أكثر المواضيع التي تثير اهتمامي لما أجده من اختلاف وتعدد في أنواعها. من الاكيد أنّ النظرة العامة للذكاء هي نظرة ضيقة جداً ومحدودة من منظور بشري للأمور. يتوجب النظر إلى محور الذكاء على أساس أنه وسيلة تطورية تساهم في بقاء الكائن ولهذا نحن نجد أنواعا متعددة من الذكاء بناءً على الاحتياجات البقائية لكل كائن، وهذه الأنواع ليست محدودة بما يستطيع الإنسان فعله.
في هذا المقال سأركز على طائر الغراب الكالدوني (New Caledonian crows) من حيث الذكاء وبعض الصفات التي تميزه عن بقية الطيور. الغراب الكالدوني ينتمي إلى عائلة الغرابيات؛ لونه أسود داكن ويتميز بصوته المعروف.
قبل ٣٠٠ مليون سنة تقريباً تفرعت شجرة الحياة بين الإنسان والغراب حيث أخذ التطور منحى جعل من بعض الكائنات ثدييات تدب في الأرض ونتج منها الشمبانزي والإنسان والبونوبو. وأما الفرع الأخر الذي أخذ منحى التطور هو عائلات الطيور والتي ينتمي لها الغراب اليوم. إذاً افترق الإنسان والغراب قبل ٣٠٠ مليون سنة تقريباً ولكن بعض مواصفات الإنسان قد تطورت بشكل منعزل لدى الغراب أيضاً.
هذا يعني أن التطور أنتج مواصفات متشابهة بين فرعين بعيدين جداً من الناحية الزمنية. الغراب من الطيور التي تستطيع تمييز الوجوه وتذكرها لسنوات عديدة وتستطيع التواصل فيما بينها مما يتيح لها القدرة على نقل المعلومات بشكل تراكمي عبر الأجيال. هي أيضاً قادرة على صناعة الأدوات واستخدامها. أيضاً الغراب قادر على حل بعض المعضلات الذهنية المركبة التي تعتمد على عدة خطوات مترابطة وهو مثل الإنسان فيما يتعلق بموضوع الزواج إذ أن الزوجين يبقيان مع بعض مدى الحياة.
هذه بعض الخصائص المثيرة عن هذا الطائر الفريد.
نبدأ في البحث:
تمييز الوجوه خاصية مهمة جداً عند الإنسان إذ أنها تسمح له بتحديد الأعداء من الأصدقاء وتمييز الأقرباء من الغرباء وتمكنه من قراءة نوايا من يتفاعل معهم من البشر. من أهم خصائص الكائنات الاجتماعية هو التواصل ومن أهم خاصيات التواصل هو تمييز الوجوه لتحديد الطرف الذي يتم التواصل معه.
ولكن ماذا لو كانت هذه الخاصية لا تقتصر على أبناء نوعك وأنها ممتدة لتمييز وجوه كائنات آخرى؟ الغراب من الطيور القادرة على تمييز وجوه البشر والتعامل مع صاحب الوجه بناء على ممارسته…
مثلاً لو أن شخصا ما اعتدى على أحد الغربان فإن الغربان الموجودة في المكان ستحفظ وجه هذا الشخص وتتذكره وتتعامل معه بعدائية كل ما قابلته. ليس فقط أنها تتذكره وإنما تعلّم صغارها أن تخشى هذا الشخص وتحذر منه حين تراه.
السيد John Marzluff من جامعة واشنطن قام بدراسة معمقة حول الغربان وقدرتها على تمييز الوجوه. التجربة كانت كالتالي: قام جون وباحثون آخرون بارتداء أقنعة مختلفة بعد تحديد خمس أعشاش مختلفة في مدينة سياتل. قام واحد فقط بين الباحثين المقنعين بسرقة البيض من الأعشاش الخمس
ثم قام فريق العمل بربط جهاز GPS و Tracker لرصد حركة الغربان المقيمة في هذه الأعشاش. طبعاً الغربان شاهدت الشخص الذي سرق البيض وربطت وجهه مع عملية السرقة. الهدف من التجربة هو متابعة ردة فعل الغربان عند مقابلة الشخص ذو القناع وثم مقابلة أبنائهم الذين كانوا صغارا في العش بعد عدة سنوات لمعرفة ما إذا كان آباؤهم قد علّموهم أن يخشوا من هذا الشخص المقنع أم لا…. سأعود لاحقاً لهذه التجربة..
التواصل لدى الغراب:
الغراب لديه أكثر من ٢٥٠ نوع من الزعقات لكل زعقة منها رسالة محددة مختلفة. مثلاً لديه زعقة للتنبه من وجود قطة و زعقة مختلفة بعض الشيء لوجود انسان وواحدة آخرى للتنبيه عن وجود نسر أو أحد الطيور الجارحة. هذه الزعقات لها نوعين فمنها العام والذي عادة ما نسمعه “واء واء واء” ومنها الخاص والذي أشبه بصوت الحمام.
يستخدم الغراب الصوت الثاني في التواصل ضمن المجموعة ويستطيع نقل العديد من المعلومات من خلال وسائله في التواصل. هذا يعني أنه قادر على نقل المعلومات بين الأجيال وهذه من أول علامات تطور الثقافة والأدوات.
بالنسبة لاستخدام الأدوات فإن الغراب قادر على ابتكار حلول تطبيقيه لحل مشاكلة وثم استخدام هذه الحلول. مثلاً من المعلوم لدينا أن الشمبانزي يستخدم بعض الأحجار كأدوات لتكسير بعض الأطعمة القاسية مثل البندق والجوز، أو الأغصان في اصطياد النمل وما شابه لكن الشمبانزي ليس قادرا على ابتكار حلول غير موجودة أمامه لحل مشاكله. الغراب ليس قادرا فقط على استخدام الأدوات وإنما قادر أيضا على صناعتها لما يتناسب مع احتياجاته. طبعاً أنا أتحدث عن أدوات من أعواد الأشجار وما غيرها وليس الصناعات الثقيلة…
دماغ الغراب يختلف تماماً عن هيكلية الدماغ البشري إذ أنه كما ذكرت سابقاً افترق عن تطور البشر قبل ٣٠٠ مليون سنة، لكنه تطور بشكل يسمح للغراب بتمييز الوجوه والتواصل والتفكير المركب.
توجد بعض التجارب التي تجسد مدى ذكاءالغراب وأذكر منها:
قام الباحثون بوضع قطعة من اللحم داخل قفص. لا يمكن الوصول إلى القطعة إلا عن طريق استخدام عودة خشبية طويلة بشكل كاف لسحب قطعة اللحم إلى خارج القفص. يوجد خيط مربوط به قطعة خشبية قصيرة (غير كافية لجلب قطعة اللحم من داخل القفص).
أيضاً يوجد قطعة خشبية طويلة بشكل كاف لكنها داخل قفص خشبي أخر لا يمكن للغراب أن يجلبها إلا عن طريق استخدام القطعة الخشبية المربوطة بالخيط. إذاً يوجد ثلاث خطوات يتوجب على الغراب فعلها لكي يحصل على الطعام.
أولاً فك الخشبة القصيرة من الخيط
ثانياً جلب القطعة الخشبية الأطول من داخل القفص باستخدام الخشبة القصيرة
ثالثاً استخدام القطعة الخشبية الطويلة لجلب قطعة اللحم.
استطاع الغراب تجاوز هذه التجربة بسهولة ومن أول محاولة. يوجد تجارب أكثر تعقيداً ايضاً يستطيع الغراب تجاوزها بسهولة. الغراب مثلاً قادر على استخدام المرآة وفهم مبدأ انعكاس الضوء إذ أنه قادر على ايجاد طعام عبر استنتاج مكانه من انعكاس المرآة. يمكن البحث على موقع اليوتيوب للمزيد من التجارب…
الحكومة الأمريكية تخصص ميزانية خاصة لدراسة ذكاء الغراب إذ أن قدرته على التواصل وتمييز الوجوه من بين ألاف الوجوه هي قدرة قد يكون لها فوائد هامة من النواحي العسكرية والاقتصادية. أيضاً تعمل وكالة الفضاء ناسا على استخلاص طرائق للتواصل مع الغراب إذ أن التواصل مع كائنات غير أرضية سيكون شبيها بالتواصل مع الغراب حيث أنه يمتلك ذكاء مختلفا عن ذكاء الثدييات..
عند الموت:
عندما يموت أحد الغربان فوق حقل ما فإن الغربان تغير مسار طيرانها وتتجنب الطيران فوق ذاك الحقل لمدة طويلة. أيضاً بعد موت أحد الغربان تقف جميع السربان لعدة ثوان بصمت تام ثم يحلق الجميع دون أي صوت وكأنه طقس جنائزي للغراب الميت.
الشؤم:
أيضاً يوجد علاقة تعاون بين الغراب والدببة في الطبيعة. في كل عام يستيقظ الدب من سباته ويبدأ برحلة البحث عن الطعام واصطياد سمك السلمون. الغراب يقوم بدور الاستطلاع من الجو فما أن يجد مجمعا من الأسماك يبدأ بإصدار زعقات محددة يميزها الدببة مفادها” يوجد السلمون في هذه المنطقة. “الدب يصطاد السلمون ويأكل ما يأكله ثم يترك كمية لا بأس بها يستطيع الغراب أكلها. هذه الشراكة بين الإثنين ناتجة عن ذكاء الغراب الذي استطاع استغلال الدب ليحصل على مورد غذائي سهل. لدي فرضية شخصية حول اعتبار الإنسان صوت الغراب نذير شؤم وهي أن الغراب كان يقوم بأعمال باستطلاع تجمع أسلاف البشر سابقاً ويطلق زعقاته لكي تهاجمهم الحيوانات المفترسة لكي يقوم هو بالتهام البقايا (تماماً كما مثال الدب) ولهذا يعتبر البشر صوت الغراب صوتا مشؤوما… (مجرد فرضية شخصية)
لنعد إلى التجربة التي ذكرتها في بداية المقال…
طبعاً بعد سرقة البيض من أعشاش الغربان أصبح الشخص الذي سرق البيض غير مرغوب به وبدأ الغربان بإصدار زعقات تنبيه وتحذير كلما رصدت هذا الشخص في الجوار…. بعد مرور خمس سنوات ومتابعة الغربان المزودين بجهاز الرصد GPS تم ملاحقتهم والعثور عليهم. يجدر الذكر أن هؤلاء هم أبناء الغربان الذين تعرضوا للسرقة. يعني أنهم لا يذكرون الحادثة لأنهم كانوا صغار عند وقوع السرقة.
بالفعل تم تحديد موقع أحد الغربان الخمسة (البقية ماتت).
بعد سير الباحث بالقرب من الغراب دون القناع كانت ردة الفعل طبيعية، لكن حال ما لبس الباحث القناع نفسه الذي استخدمه أثناء سرقة البيض كانت ردة فعل الغراب بأن يزعق وينبه الجميع عن وجود خطر محدق. إذاً الغربان علّمت أبنائها أن تميز هذا الوجه وأن تتنبه منه في المستقبل واستطاعت تمرير هذه المعلومة للجيل الجديد. هذه نقطة مهمة جداً في عالم الأحياء إذ أنها ترمز لوجود وسائل تواصل وتعلم تراكمي بين المجموعة.
بناء على ورقة علمية نشرت في عام ٢٠١٤ فإن ذكاء الغراب يقدر بذكاء طفل انسان بعمر ٨ سنوات. الورقة اسمها:
Modifications to the Aesop’s Fable Paradigm Change New Caledonian Crow Performances
شاهد هاتين التجربتين عن ذكاء الغراب:
يوجد قصة شبيهة شاهدتها مرة على اليوتيوب نقلاً عن أحد الأقنية العربية عن مواطن من الإمارات العربية وجد غراب صغير على الأرض فأخذه إلى المنزل لإطعامه لكنه فشل فأعاد الغراب تحت الشجرة التي وجده تحتها لكن الغراب الصغير مات. منذ ذلك اليوم و الغربان تهاجم هذا الشخص كلما مر بالقرب من مكان مقتل الغراب الصغير (شاهد القصة من هنا) … لا أود أن أطيل أكثر في هذا المقال لكن يوجد عدة أفلام وثائقية عن الغربان أنصح المهتمين بمتابعتها.