بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
قال الله تعالى في كتابه العزيز: {ذَٰلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}.
يمر علينا في الخامس من شهر جمادى الأولى، الذّكرى العطرة لولادة حفيدة رسول الله(ص)، وابنة عليّ والزّهراء(ع)، وأخت سيّدي شباب أهل الجنة.
والحديث عن زينب يطول، ودروسها تمتدّ، ولطالما مثّلت(ع)، وستظلّ تمثّل، مرجعاً للتربية والتّوجيه والبناء على الصّعيدين الفرديّ والجمعيّ.
قدوة النّساء والرّجال
وأن تكون السيِّدة زينب قدوةً ونموذجاً للمرأة، وأسوةً حسنةً لنسائنا وبناتنا، أمرٌ قد يراه البعض تحصيل حاصل وطبيعيّاً. ولكن أن تكون السيِّدة زينب قدوةً للنِّساء والرّجال على حدٍّ سواء، فهنا تكمن عظمة هذه الشخصيَّة والمفارقة فيها، حيث اعتدنا في تقسيمات المجتمع أن يكون للرّجال قدوتهم وللنّساء قدوتهنّ، ولكنَّ الله منَّ علينا بشخصيَّة كزينب بنت عليّ(ع)، عصمت نفسها ـ وإن لم تعدّ من المعصومين ـ لتكون نموذجاً يقتدي بها الرّجال قبل النّساء، في ذلك الزّمن، وفي كلّ زمن. فزينب تختزن إمكانيّة أن تكون قدوةً لكلّ الأحرار والثّائرين في العالم.
ومثال زينب كقدوةٍ للرِّجال والنِّساء، ذكره القرآن الكريم، عندما أخبرنا أنَّ الله ضرب مثلاً للّذين آمنوا امرأتين، ولم يقل إنَّ الله ضرب مثلاً "للمؤمنات"، رغم أنّ حديثه كان عن امرأتين: الأولى هي امرأة فرعون الّتي تركت كلّ مجد فرعون وآمنت بالنبيّ موسى، وأعلنت التّوحيد الخالص، وتحمَّلت لأجل ذلك التّعذيب، حتى صلبها فرعون وتركها تحت الشّمس المحرقة حتى الموت. والثّانية هي مريم بنت عمران، الّتي كانت أنموذجاً في العفّة والطّهارة والصّدق في الإيمان والثّبات، وفي صبرها على حملها الّذي أراده الله أن يكون إعجازاً.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَة عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}. إنّ الله لم يقل القانتات، في إشارةٍ إلى اعتبارها من مجموع القانتين ذكوراً واناثاً.
والله يريد بذلك أن يبيّن الموقع الّذي يمكن للمرأة أن تبلغه، ويُظهر جانباً من التّكريم الّذي حظيت به المرأة، والّذي يضاف إلى مواقع التّكريم الأخرى. وهذا يفترض أن يكون مدعاة فخر واعتزاز بديننا الّذي كرَّم المرأة، ودعا الرَّجل إلى أن يقتدي بما لديها من ميزاتٍ وخصائل وإنجازات فاعلة. وإذا كان البعض يتَّهم الإسلام بالانتقاص من قدر المرأة وهضم حقوقها وجعلها على هامش الرَّجل، فإنَّ ذلك يعود إلى عدم تفريقه بين العرف الاجتماعيّ والتَّشريع الدّيني والإسلامي، وهذا هو الحال في الإساءات الّتي تلحق بالدِّين وهو براء منها، فيما المسؤول هو الفهم الضيِّق والمتأثِّر بأعراف المجتمع وتقاليده.
الشّخصيَّة الملهمة
ونعود الى زينب؛ تلك الشخصيّة الفذّة، الشخصيّة المتكاملة الّتي أكّدت أنّ المرأة وإن لم يقدَّر لها أن تملك القوّة الجسديَّة كما هو الرَّجل، وإن لم تتحرّك بسلاحٍ في المعركة، إلا إنها قادرة على أن تشارك الرّجل بصلابتها وثباتها ومواقفها في صناعة أيّ نصر، أو تصنعه وحدها حين تقتضي التحدّيات.
هذه هي زينب الَّتي يحار المراقبون بها كشخصيَّةٍ ملهمة، والَّتي تزداد حضوراً كلَّما مرَّ الزَّمن، ويزداد الارتباط بها بصورة أشدّ وأقوى.
صحيح أنَّ زينب دخلت إلى النّفوس من باب العاطفة والمأساة، لكنَّها من هناك عرَّجت إلى العقول والوجدان وانتقلت إلى الحركة، فصار نداء "يا زينب" يعني الكثير، وصار أبعد من مجرَّد الانتماء والهويّة وإثبات الخصوصيَّة. فزينب، وإن قلّ ما نقله التّاريخ لنا على مستوى حياتها الشخصيّة قبل كربلاء وبعدها، إلا أنّ تحليل ودراسة مواقفها في ثورة كربلاء، وما تعرّضت له يومها، كفيل بأن يضيء بشدّة على عظيمةٍ من ذلك البيت الرّساليّ، وعظيمةٍ من عظماء الإنسانيّة...
فعندما ننادي "يا زينب"، فإنَّنا نستدعي بالدَّرجة الأولى العاطفة والمحبَّة لآل البيت(ع)، الّذين قال الله فيهم: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، فهي بنت فاطمة بضعة رسول الله، وبنت عليّ أخي رسول الله وحبيبه. حظيت بتكريم رسول الله لها عند ولادتها، عندما احتضنها وضمَّها الى صدره، وأذّن في أذنها اليُمنى، وأقام في اليسرى، ثم قال لأبويها سمياها زينب..
عاشت(ع) في رحاب البيت الطّاهر الّذي أذهب الله عنه الرّجس وطهّره تطهيراً. إذاً هي العاطفة تغلي في الصّدور عند ذكرها، وتبعث على الفرح والحبور في ذكرى مولدها الشّريف.
وعندما ننادي زينب، فإنّنا ننادي الصّبر فيها، نستلهمه ونستولده صبراً على كلّ ألم وكلّ ظلم وطغيان وافتراء، وهي الّتي لقّبت بالصّابرة لما تحمّلته من معاناة وآلام، معاناة أمّها الزّهراء، وأبيها عليّ(ع) وأخيها الحسن(ع). ويكفي ما حصل معها في كربلاء من مأساةٍ أصابتها في الصّميم المتعلّق بشخصها والمتعلّق بالاسلام دين جدّها. زينب لم تُرَ في كلّ تلك المواقف إلا صلبةً عزيزةً، لم يصبها الانهيار، ولا سقطت فريسة الجزع والانهزام. "اللّهمّ تقبّل هذا القربان"، أطلقتها بعد استشهاد أخيها في وجه جيش عمر بن سعد الّذين كانوا ينتظرون منها الويل والثّبور وخمش الوجوه.
العابدة الصّابرة
وعندما نذكر زينب، نستحضر قوّة إيمانها وتسليمها، وعدم زعزعة عقيدتها عندما حاول ابن زياد أن ينسب ما ارتكبته يداه إلى الله قائلاً شامتاً مستهزئاً: كيف رأيت فعل الله بأخيك وأهل بيتك؟ قالت: «ما رأيت إلا جميلاً. هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم». لقد أرادت أن تؤكّد بذلك رضاها بقضاء الله وقدره، فكلّ ما عند الله خير، عندما يُنعم وعندما يبتلي، تحمده في السرّاء والضرّاء.
ومع زينب، نكتشف معنى العبادة الحقيقيّة لله، والتوجّه إليه حتّى في أشدّ الظّروف ألماً؛ تصوّروا امرأةً تقوم لصلاة اللّيل وهي محاطة بأجساد الشّهداء من أولادها وأخوتها وأولاد أخوتها، تخيَّلوا المشهد. نعم، زينب صلَّت اللّيل وتغلّبت على عاطفتها وانفعالاتها، وكبتت مشاعرها، وشهد الإمام زين العابدين(ع) وقال: "إنّ عمّتي زينب مع تلك المصائب والمحن النّازلة بها في طريقنا إلى الشّام، ما تركت نوافلها اللّيليّة".
فقد فعلت كما فعل أخوها الحسين وأصحابه في ليلة العاشر الّتي قضوها باطمئنانٍ بعيداً عن أيِّ جزعٍ أو هلعٍ يسيطر في ظروفٍ أقلّ بكثيرٍ من ظروفهم، وكما فعل أبوها أمير المؤمنين يوم سئل باستغراب عن قيامه للصّلاة وقت معركة صفّين، وفي ليلة الهرير، أشدّ اللّيالي وطأةً، فأجاب أولئك المستغربين: "وعلامَ نقاتلهم؟".
إنّه نداء الثّبات والرّجوع إلى الله في كلّ وقت وفي كلّ أمر. إنّ من ينادي "يا زينب"، يعرف جيّداً أن لا تفريط بعلاقةٍ مع الله أو في واجب تجاهه. الله الّذي عبدته زينب وعبدته أمّها فاطمة حتى تورّمت قدماها، فالعلاقة مع الله هي مصدر القوّة والعزيمة، وهي الّتي تبعث على الاطمئنان وتضيء الطّريق.
نقولها "يا زينب"، لنتذكَّر علمها، ونسعى للعلم رجالاً ونساءً اقتداءً بها، وهي الّتي لقّبت بالعالمة، إذ كانت مرجعاً في العلم، نهلت من علم جدِّها وأمّها وأبيها، وكانت تتصدّى للإجابة عن المسائل الشرعيّة والأسئلة الدينيّة خلال غياب أخيها الحسين(ع)، وكان ابن عباس، وهو الّذي عُرف بحبر الأمّة، يسألها عن بعض المسائل الّتي لا يهتدي لحلّها، ويقول: حدّثتني عقيلتنا زينب بنت عليّ... وإلى ذلك أشار الإمام زين العابدين(ع)، عندما قال عنها: "عمَّتي زينب عالمة غير معلّمة".
أيّها الأحبَّة: لهذا كلِّه؛ لعلم زينب وعبادتها، ولصبر زينب وتضحياتها، ولثبات زينب وعزَّتها وعنفوانها... لهذا كلِّه، يصدح المؤمنون رجالاً ونساءً، بحبّ زينب والشَّوق إليها.
الصّوت الصَّادح بالحقّ
أخيراً، كان يكفي زينب لتكون قدوة الرِّجال والنِّساء، أن تكون شريكة الحسين(ع)، فهي شريكته في الثّورة، وهي الّتي حملت المشعل وأكملت المسير وحدها بعد استشهاده، ألهبت المشاعر، وثبّتت الوعي، وأبقت الثَّورة حاضرةً في العقول والقلوب. ولا تزال كلماتها الشَّامخة في وجه يزيد الفرح المسرور، تتردَّد في مدى الزَّمن، لنقولها في وجه كلِّ ظالم: «كِدْ كَيْدكَ، واسْعَ سَعْيَكَ، وناصِبْ جُهْدَكَ، فواللهِ لا تَمحْو ذِكرَنا، ولا تُميتُ وَحيَنا، ولا تُدرِكُ أمَدَنا، ولا تُرحِضُ عنك عارَها، وهل رَأيُك إلاّ فَنَد، وأيّامُك إلاّ عَدَد».. وبقي صوتها صادحاً بالحقّ وبالثَّورة على الظّلم، ولا يزال حاضراً ينتج وعياً وحريّةً وعزّةً وعنفواناً وصبراً وثباتاً وحبّاً لله وإخلاصاً له، وهو لن يزول، وسيبقى...
هذه هي زينب.. سلام الله عليها، وسلام على أمّها وأبيها، وعلى أخوتها وبنيها.