بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
قال رسول الله صلى الله عليه واله: "فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما أذاها".
انّ الحياة الدنيا بالنسبة للأنبياء والأئمة والأولياء والعلماء الربانيين حقل للعمل فيه من أجل النّاس لهدايتهم وارشادهم الى الله تعالى ونشر الاصلاح في المجتمع.
فهم لا يحملون همّاً فرديّاً بل يتطلعون الى الانسانية جمعاء لاخراجها من الظلمات الى النور, ولكن للأسف ان مجتمعاتهم لم تقدرهم وآذوهم كلّ أذية، فلا ترى منهم الا مقتولاً او مسموماً او طالباً للرحيل إلى الحبيب الأول.
الزهراء وصية الله ورسوله صلى الله عليه واله:
انّ أهل البيت عليهم السلام قد لاقوا من مجتمعهم كثيراً من الظلم، وهم وصية الله تعالى ورسوله صلى الله عليه واله ، فلطالما أوصيا بهم. فالزهراء عليها السلام تشترك مع أهل البيت عليهم السلام في أنها منهم ومشمولة بما ذكره الله تعالى عنهم.
فهي من المطهّرين: قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾.
ب- وهي من الذين باهل بهم الرسول صلى الله عليه واله ، يقول تعالى في آية المباهلة: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾1. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه واله حينما سُئل عن هذا الاختيار قوله: "لو علم الله تعالى أن في الأرض عباداً أكرم من عليّ وفاطمة والحسن والحسين لأمرني أن أباهل بهم، ولكن أمرني بالمباهلة مع هؤلاء فغلبت بهم النصارى".
ج- وهي مِن مَن أمر الله تعالى بمودتهم، قال تعالى: ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾2.
د-وهي من الأبرار في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا 5 عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا 6 يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾3.
أما بخصوصها عليها السلام ، فهي:
قال الإمام الصادق عليه السلام: "لفاطمة تسعة أسماء عند الله عز وجل: فاطمة والصدِّيقة والمباركة، والطاهرة، والزكية، والراضية والمرضية، والمحدَّثة، والزهراء..."4.
ب- وقال صلى الله عليه واله وهو آخذ بيدها: "من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها، فهي بضعة مني، هي قلبي وروحي التي بين جنبيَّ، فمن آذاها فقد آذاني"5.
ج- وقال صلى الله عليه واله: فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها6.
من أسرار سرعة اللحاق بأبيها صلى الله عليه واله "المظلومية":
رغم كل هذه التوصيات وسواها - فان الزهراء عليها السلام ترى وتسمع وتعاين الظلم تلو الظلم من كثير من المسلمين عليها وعلى زوجها الإمام علي عليه السلام ، وتخبر بما سيحصل على أولادها من بعدها، ويكفيها خبر الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه المظلومين العطاشى مقطعي الأوصال والرؤوس.....
فللزهراء ظُلامتان: ظلامة في نفسها وهي نوعان: مادية ومعنوية, من غصب إرثٍ, وهضمٍ حقّ, ومن استخفاف بقَدْر, وردُّ دعوى, وظلامةٌ أخرى في أهل بيتها, ابتداءً ببعلها وليس انتهاءً بذريتّها بل حتى بشيعتها ومحبيها. ولأجل تسجيل موقفٍ للتاريخ في مواجهة ظلامتها وحتى لا تنطمس, أرادت توصيل رسالةٍ خالدة تشهد على ما جرى بعد وفاة أبيها فأوصت بخطوات تشكل اعتراضاً على ما جرى منها: أن تُدفن سرّاً ولا يحضر ظالموها دفنَها وإخفاءَ قبرها علامة دائمة على الحقّ المغتصب وعلى الظلم الواقع. وهذا ما يعظّم في نفسها عليها السلام الرغبة في اللحاق بأبيها صلى الله عليه واله لأن تمنيّ الموت هو بنفسه اعتراض على الحال السيئة كما قال ولدها الشهيد عليه السلام: "إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما"
ومنها حبّ الله ورسوله صلى الله عليه واله وحب لقائهما
لا يخفى عليكم أن الإنسان، بحسب فطرته الأصيلة وجبلّته الذاتية، يعشق الكمال التام المطلق، ويتوجه قلبه شطر الجميل على الإطلاق والكامل من جميع الوجوه. وهذا من فطرة الله التي فطر الناس عليها.
غير أن كل امرئ يرى الكمال في شيء ما، حسب حاله ومقامه، فيتوجه قلبه إليه. فأهل الآخرة يرون الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها، وأهل الله يرون الكمال في جمال الحق، والجمال في كماله, وأهل الدنيا عندما رأوا أن الكمال في لذائذها، وتبيّن لأعينهم جمالها، اتجهوا فطرياً نحوها. فصاحب الشهوة، كلّما ازدادت أمامه المشتهيات، ازداد تعلق قلبه بمشتهيات أخرى ليست في متناول يده، واشتدّت نار شوقه إليها. وكذلك النفس التي تطلب الرئاسة، فأهل الآخرة، كلّما ازدادوا قرباً من دار كرم الله، ازدادت قلوبهم سروراً واطمئناناً، وازداد انصرافهم عن الدنيا وما فيها. ولولا أن الله قد عيّن لهم آجالهم لما مَكثوا في هذه الدنيا لحظة واحدة. فَهُم، كما يقول أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب عليه السلام: "نُزِّلَتْ أَنْفُسَهُم فِي البَلاءِ، كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ، وَلَوْلا الأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيهم، لَمْ تَسْتَقِر أّرْوَاحُهُم فِي أَجْسَادِهم طَرَفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ"7. لقد كانت سيدتنا الزهراء عليها السلام وليّةً عظيمة من أولياء الله من أهل الله والآخرة، لقد كان لها مع الله تعالى حالات عبادية راقية فعبدته حبّاً له، عن رسول الله صلى الله عليه واله أنه قال: وأمَّا ابنتي فاطمة فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني وهي نور عيني وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبيَّ، وهي الحوراء الإنسية؛ متى قامت في محرابها بين يدي ربها (جل جلاله) زَهَر نورها لملائكة السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله (عز وجل) لملائكته: "يا ملائكتي انظروا إلى أَمَتي: فاطمة، سيدة إمائي قائمة بين يدي، ترتعد فرائصها من خيفتي، وقد أقبلت بقلبها على عبادتي، أشهدكم أني قد أمنت شيعتها من النار.." الخ.
وروى الحسن البصري: "ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة"، كانت تقوم حتى تورَّم قدماها. وفي كتاب عدة الداعي: وكانت فاطمة عليها السلام تنهج في الصلاة من خيفة الله. والنهج - بفتح النون والهاء - تتابع النَفَس.
لذلك لما أخبرها أبوها أنها أول أهله لحوقاً به فرحت، فعن إحدى زوجات النبي صلى الله عليه واله ، قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية الرسول صلى الله عليه واله فقال: مرحباً بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أنه أسرَّ إليها حديثاً فبكت، ثم أسرَّ إليها حديثاً فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتها عما قال: فقالت: ما كنت لأُفشي سرَّ رسول الله صلى الله عليه واله حتى إذا قُبض النبي صلى الله عليه واله سألتها؟ فقالت: إنه أسرَّ إليّ فقال: إن جبرائيل كان يعارضني بالقرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني به العام مرتين ولا أراه إلاّ قد حضر أجلي، وأنك أول أهلي لحوقاً بي ونعم السلف أنا لكِ، فبكيت لذلك، ثم قال: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأُمة أو نساء المؤمنين؟ قالت: فضحكتُ8.
وفي رواية أخرى: لما حضرت رسول الله صلى الله عليه واله الوفاة بكى حتى بلّت دموعه لحيته، فقيل له: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: أبكي لذريتي، وما تصنع بهم شرار أمَّتي فلا يعينها أحد من أمتي. فسمعت ذلك فاطمة عليها السلام فبكت، فقال رسول الله صلى الله عليه واله: لا تبكينّ يا بنيّة. فقالت: لست أبكي لما يصنع بي من بعدك، ولكنني أبكي لفراقك يا رسول الله فقال لها: أبشري يا بنت محمد بسرعة اللحاق بي فإنك أول من يلحق بي من أهل بيتي9.
لقد كان حزن الزهراء عليها السلام لفقد أبيها عظيماً، فهي التي عرفت الله ورسوله وعلى قدر المعرفة تنسج المشاعر، وهي التي رثته بكلمات يتفطر منها الحجر الصلب، ومما رثته: "يا أبتاه، انقطعت بك الدنيا بأنوارها، وذوتْ زهرتها وكانت ببهجتك زاهرة.يا أبتاه! لا زلت آسفة عليك إلى التلاق. يا أبتاه! زال غمضي منذ حقَّ الفراق. يا أبتاه! مَن للأرامل والمساكين؟ ومَن للأمة إلى يوم الدين؟ يا أبتاه! أمسينا بعدك من المستضعفين! يا أبتاه! أصبحت الناس عنا معرضين! ولقد كنَّا بك معظَّمين في الناس غير مستضعفين! فأي دمعة لفراقك لا تنهمل؟ وأي حزن بعدك لا يتصل؟ وأي جفن بعدك بالنوم يكتحل؟ وأنت ربيع الدين، ونور النبيين.فكيف بالجبال لا تمور؟ وللبحار بعدك لا تغور؟ والأرض كيف لم تتزلزل؟ رُميتُ - يا أبتاه - بالخطب الجليل. ولم تكن الرزية بالقليل. وطُرِقتُ - يا أبتاه - بالمصاب العظيم، وبالفادح المهول. بكتك - يا أبتاه - الأملاك. ووقفتِ الأفلاك. فمنبرك بعدك مستوحش. ومحرابك خال من مناجاتك. وقبرك فرِحٌ بمواراتك. والجنة مشتاقة إليك وإلى دعائك وصلاتك. يا أبتاه ما أعظم ظلمة مجالسك!! فوا أسفاه عليك إلى أن أقدم عاجلاً عليك....
قلَّ صبري وبانَ عني عزائي
بعد فقدي لخاتم الأنبياء
يا إلهي عجّل وفاتي سريعاً
(فلقد عِفْتُ الحياة يا مولائي)
--------------
1- آل عمران: 61.
2-الشورى: 23.
3- الدهر: 5 ـ 7.
4-بحار الأنوار: ج10
5-الفصول المهمة 150 نزهة صحاح البخاري ومسلم والترمذي، مسند أحمد ج4 ص328 الخصائص للنسائي ص35.المجالس ج2 ص228 نور الأبصار ص45.
6-صحاح البخاري ومسلم والترمذي، مسند أحمد ج4 ص328 الخصائص للنسائي ص35.
7-نهج البلاغة ـ الخطبة 193 (الشيخ صبحي الصالح).
8-مسند أحمد ج6 ص282.
9-بحار الأنوار ج 28 ص 41.