مرَّ أمير المؤمنين ويعسوب المتَّقين عليُّ بن أبي طالب ـ عليه السَّلام ـ على قَذَرٍ في مزبلة فقال (( هذا ما بَخِلَ بِهِ الباخِلُون )) حكمةٌ ما أروعها ! وما أعظم من أبدعها ! .

إنَّ عليَّ بن أبي طالب في منطق العقل ومن منطلق التَّقييم الفكري مع الإغماض وغضِّ النَّظر عن مكانته في عقيدة المسلمين أيَّاً كان مذهبهم فيه ، كان قامةً عالية ينحدر عنه السَّيل ولا يرقى إليه الطَّير في رأس قائمة العقول الجبَّارة التي أنتجتها البشريَّة وولدتها الإنسانيَّة منذ نشأتها وإلى اليوم .

يكفيك أنَّه كان ينظر في القُمَامَة ليستخلص حكمةً قيِّمة في قِمَّة الوعي والإبداع المعرفي ، وغيره ينظر في القرآن فيرجع بخُفَّي حُنَين أو يعود بفتوى تكون نقمةً على هذه الأمَّة المنكوبة .

وإنَّ مقولته هذه لهي حكمةٌ بالغة فيها بلاغٌ بليغ خاطب به أهل البصائر وذوي الألباب ، فلو تأمَّلها العاقل لوجدها ذات أفانين من القول .

فإنَّه لو أحصى أحدنا كميَّة الفاضل عن مأكله ومشربه كلَّ يومٍ ممَّا يلقيه في كِبَا المزابل ، وأحصت كلُّ عائلةٍ ما تلقيه ، وكلُّ دولةٍ مسلمة من الدُّول المترفة .. في كلِّ يومٍ .. وفي كلِّ شهرٍ .. وفي كلِّ سنة .. لكان مئات آلاف الأطنان التي يمكن أن تُحْيِي به شعباً وتُطْعِم أمَّةً جائعة .

وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ ** وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ

وإنَّه لو قدَّر كلُّ واحدٍ منَّا مأكله ومشربه على قدر حاجته وتصدَّق بالفاضل عن مؤونته ممَّا يلقيه كلَّ يومٍ في كُنَاسَة المزبلة ، لنال رضا الرَّحمن وأعان أخاه الإنسان و{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } .

وكذلك لو كان ذلك ، لرأينا شوارع نظيفةً وليس أكواماً من أقذار القُمَامَة أمام كلِّ بابٍ وعند كلِّ شارع ( سَكَرَ الذُّبَابُ بِهَا فَرَاحَ يُعَرْبِدُ ) ولألفينا أنفسنا حينئذٍ أمَّةً تعيش في حاضرة متحضِّرة ، وليس أمَّةً كالبهائم تعيش في حظائر .

........................................