أمر الله تعالى المسلمين بالإتقان في كل شيء، واهتم الإسلام بالمتمرسين والمتفوقين في كل مجال، وأولاهم القيادة على ذلك، وأعطى التبعية لغيرهم ومن دونهم.
ففي كلمته الجامعة فيما يرويه الإمام مسلم عن شداد بن أوس رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ [1]".
وانظر إلى قوله "كُلِّ شَيْءٍ"؛ فهي تعني -فيما تعنيه- أن الله تعالى كتب الإحسان على المسلم في علمه الشرعي، وكذلك في علمه الحياتي. ولا شك أن الإحسان هذا يقتضي التفوق والنبوغ والسيادة والريادة.
وعلى ما هو واضح من سياق الآيات الكريمة في كتاب الله، وكذلك من سياق حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن القيادة تُساق دومًا إلى المتفوق، والناس جميعًا يكونون تبعًا لهذا المتفوق، ولا تشذ هذه القاعدة في حال الأمم والشعوب؛ فالأمة المتفوقة تكون قائدة، وتتبعها غيرها من الأمم، وهكذا..
طالوت عليه السلام
ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى، ما كان من إعطائه سبحانه القيادة لطالوت عليه السلام، وقد علل ذلك صراحة بأنه سبحانه زاده بسطة في العلم والجسم. وليس يخفى على أحد أن المقصود بالعلم هنا ليس هو العلم الشرعي فقط، وإنما أيضًا العلم بأمور الحرب والقيادة والإدارة، وغير ذلك مما يلزم القائد العسكري من معارف وعلوم. وتصديق ذلك أنه كان من الممكن أن تُعطى هذه القيادة للنبي ذاته، والذي هو أعظم الناس - بلا شك - تفوقًا في مجال العلم الشرعي، وهو يوحى إليه، لكن النبي لم يقد الجيش في المعركة، وإنما قال للملأ من بني إسرائيل: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} [البقرة:247]. فهذا مجال تفوقه، وذاك سبب قيادته.
يوسف عليه السلام
وكذلك فإن يوسف عليه السلام لما عرضت عليه الوزارة في مصر، قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]. فهو هنا يذكر أن المجال الذي يتخصص فيه ويبدع هو مجال الاقتصاد وإدارة المال، ومن ثم لم يتردد في أن يعرض خدماته في هذا المجال المهم، ولم يقبل مكانًا آخر، حتى ولو كان مرموقًا ومؤثرًا. وخلفيته الدافعة له في هذا الاختيار هي مستوى علمه في هذا الجانب، ومدى تمكنه منه.
ولو كان المقصود بالعلم في قوله {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}العلم الشرعي وعلم الوحي، لكان يوسف عليه السلام صالحًا لكل المناصب، وليس فقط في الاقتصاد وإدارة المال؛ إذ أنه أعلى الجميع بلا جدال في هذا الجانب الشرعي، ولكن الواضح أنه كان يتميز -إضافة إلى ذلك- في جانب الاقتصاد، ومن ثم فقد اختاره وفضله.
عمرو بن العاص رضي الله عنه
ولما ولَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه إمارة سرية ذات السلاسل، ووضع تحت إمرته عظماء الصحابة وسابقيه إلى الإسلام. فإنه لم يفعل ذلك لأنه كان يرى أن عمرو بن العاص أكثر منهم علمًا بأمور الشرع والدين، وإنما لأنه صلى الله عليه وسلم كان يرى أنه أعلمهم بأمور الحرب، وفنون القتال والنزال والمناورة، وهو الذي لم يكن قد مضى على إسلامه بعد أكثر من خمسة شهور فقط. ومن ثم تجده صلى الله عليه وسلم وقد قال في وضوح: "لقد وليته لأنه أبصر بالحرب" [2].
فإتقان عمرو بن العاص رضي الله عنه وتفوقه قدَّمه على عمالقة عظام من الصحابة، كأبي بكر وعمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح وأسيد بن حضير، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، وليس ذلك إلا لفقه الرسول صلى الله عليه وسلم لأهمية إتقان العلم الحياتي اللازم للحرب والجهاد.
النابغين في قراءة القرآن
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يقلدوا نابغين من الصحابة في قراءة القرآن، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنَ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ فَبَدَأَ بِهِ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ" [3].
فلم يقل ذلك صلى الله عليه وسلم لعلو قدر هؤلاء النفر عن بقية الصحابة مثلاً في التقوى أو الزهد أو الورع، أو لأنهم كان يكثرون من القيام أو الصيام أو النافلة أو غيرها، وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك في حقهم؛ لإتقانهم للقراءة، وتمكنهم من النطق بها كما ينبغي، ولذلك وجب على الجميع أن يتبعوهم فيها.
بلال رضي الله عنه
وعندما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً أن يصدع بأذان الصلاة، لم يأمره بذلك لعلمه الشرعي أو لسبقه أو لهجرته، إنما قدَّمه لحلاوة صوته في الأذان، وتفوقه في هذا المجال، بل إنه صلى الله عليه وسلم لم يُقدم في ذلك عبد الله بن زيد رضي الله عنه، ذاك الصحابي الذي رأى الرؤيا التي كانت سببًا في تشريع الأذان، وقال له: "إِنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا حَقٍّ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى وَأَمَدُّ صَوْتًا مِنْكَ، فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا قِيلَ لَكَ، وَلْيُنَادِ بِذَلِكَ" [4].
من يتقن الطب!
وكذلك في أمور الطب كان صلى الله عليه وسلم أيضًا يأمر بالعلاج عند الأمهر والأتقن في تلك الصنعة. وقد روى الإمام مالك رحمه الله في الموطأ أن رجلاً من الصحابة أصيب بجرح، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، رجلين من بني أنمار فنظروا إليه، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّكم أطبّ (أي أمهر في الطب)؟ فقالا: أوفي الطب خيرٌ يا رسول الله؟ فقال: "أنزل الدواء الذي أنزل الداء" [5] يعني الله عز وجل.
و تعليقًا على هذا الحديث يقول ابن القيم رحمه الله: "إنه يجب الاستعانة في كل علم وصناعة بأحذق من فيها فالأحذق؛ فإنه إلى الإصابة أقرب" [6].
أما الذي لا يتقن الصنعة وهو يشتغل بها، فقد يؤذى ويضر بدلاً من أن ينفع. ولذلك كان الحكم الفقهي على من عالج مريضًا فأذاه، ولم يكن معروفًا عن هذا المعالِج أنه ماهرٌ بالطب متمرسٌ فيه، فإنه يتحمل المسئولية عن ذلك، بأن يدفع ما يعوض المريض عن مقدار الأذى الذي وقع له. بينما لا يقع ذلك الحكم على الطبيب الذي عرف عنه الإتقان والمهارة في صنعته..
روى أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ تَطَبَّبَ وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ" [7].
ولخص الحكم الفقهي في ذلك الفقيه الطبيب الفيلسوف ابن رشد القرطبي الحفيد فقال: "أما الطبيب وما أشبه إذا أخطأ في فعله وكان من أهل المعرفة، فلا شيء عليه في النفس، والدية على العاقلة (يعني العصبة) فيما فوق الثلث، وفي ما له فيما دون الثلث. وإن لم يكن من أهل المعرفة فعليه الضرب والسجن والدية، قيل في ماله وقيل على العاقلة" [8].
وفي هذا الإطار فقد أمر صلى الله عليه وسلم أن يعالَج سعد بن معاذ [9] رضي الله عنه عند الصحابية الجليلة رفيدة [10] رضي الله عنها [11]؛ لأنها ماهرة بالطب، مع أن البيئة في ذلك الوقت لم تكن بعد قد تعارفت على معالجة المرأة للرجال، ولكن لعلمها بالطب وإتقانها له كانت لها هذه المكانة السامية.
بل إنه أمر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن يأتي الحارث بن كلدة [12]، الطبيب العربي المعروف -وهو من قبيلة ثقيف- ليعالَج عنده، مع أن هذا الطبيب لم يثبت إسلامه بعد. ولكن لإتقانه لحرفته وصنعته ومهارته فيها، قبِل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعالَج عنده المسلم [13]!!
كل هذه الأمور تصب في النهاية في أمر واحد، وهو أن الإتقان مطلوب في كل مهنة وحرفة وصنعة. وذلك الإتقان لا يأتي إلا بعلم ودراسة، وخبرة وكفاءة.
أنتم أعلم بأمر دنياكم
أما غير المتمرس في صنعة ما وغير الخبير بها. فلا يؤخذ برأيه، مهما كانت مكانته في التقوى والصلاح والورع. وليس أدل على ذلك من قصة تأبير النخل في المدينة. فقد روى الإمام مسلم، وأحمد عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: مَرَرْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي نَخْلِ الْمَدِينَةِ، فَرَأَى أَقْوَامًا فِي رُءُوسِ النَّخْلِ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ، فَقَالَ: "مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟" قَالَ: يَأْخُذُونَ مِنَ الذَّكَرِ فَيَحُطُّونَ فِي الْأُنْثَى يُلَقِّحُونَ بِهِ. فَقَالَ: "مَا أَظُنُّ ذَلِكَ يُغْنِي شَيْئًا". فَبَلَغَهُمْ فَتَرَكُوهُ وَنَزَلُوا عَنْهَا، فَلَمْ تَحْمِلْ تِلْكَ السَّنَةَ شَيْئًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "إِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ ظَنَنْتُهُ، إِنْ كَانَ يُغْنِي شَيْئًا فَاصْنَعُوا، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَالظَّنُّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ قَالَ اللَّهُ تعالى، فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ" [14].
فالنصيحة النبوية للقوم لم تكن من وحي إلهي ولم تكن تشريعًا، ولذلك ففي مثل هذه القضية يرجع فيها إلى أهل الخبرة والإتقان، وليس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، على علو قدره وسمو مكانته.
ويؤكد على ذلك رواية مسلم عن رافع بن خديج رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: "إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ" [15]. وقال لهم كذلك كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها وأنس بن مالك رضي الله عنه: "أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ" [16].
وليس هناك دليل أعظم من ذلك على اهتمام الإسلام بأهل الخبرة في كل تخصص من تخصصات الحياة، سواء كان ذلك في الزراعة أو في الطب، أو في الحرب أو في التجارة، أو في غير ذلك.
د.راغب السرجاني
[1] مسلم: كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة (1955)، وأبو داود (2815)، والترمذي (1409)، والنسائي (4405)، وابن ماجه (3170)، وأحمد (17154)، والدارمي (1970)، وابن حبان (5883).
[2] السيوطي: تاريخ الخلفاء ص96.
[3] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب أبي بن كعب (3597)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عبد الله بن مسعود وأمه (2464)، واللفظ له، والترمذي (3810)، وأحمد (6786)، والحاكم (4999).
[4] الترمذي: أبواب الصلاة، باب بدء الأذان (189)، وقال حسن صحيح، وابن خزيمة (373)، والبيهقي في سننه (1818).
[5] مالك: كتاب العين، باب تعالج المريض (1689)، واللفظ له، والطبراني في الكبير (7395)، وابن أبي شيبة (23420)،
[6] ابن القيم: زاد المعاد 4/121.
[7] أبو داود: كتاب الديات، باب من تطبب بغير علم (4586)، والنسائي (4830)، وابن ماجه (3466)، والحاكم (7484)، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: صحيح، السلسلة الصحيحة (635).
[8] ابن رشد: بداية المجتهد 1/997.
[9] سعد بن معاذ بن عبد الأشهل، أسلم بالمدينة بين العقبة الأولى والثانية على يدي مصعب بن عمير، وشهد بدرًا وأحدًا والخندق، ورُمِيَ يوم الخندق بسهم فعاش شهرًا، ثم انتفض جرحه فمات منه، وكان موته بعد الخندق بشهر. الإصابة الترجمة (3200)، أسد الغابة2/239.
[10] رفيدة: امرأة من أسلم، كان رسول الله ﷺ حين أصاب سعد بن معاذ السهمُ بالخندق؛ قال لقومه: اجعلوه في خيمةِ رُفيدة حتى أعوده من قريب، فكانت تداوي الجرحى، وتخدم من كانت به ضيعة من المسلمين. أسد الغابة 6/114، الإصابة الترجمة (11169).
[11] الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/100، ابن سيد الناس: عيون الأثر 2/103، ابن هشام: السيرة النبوية 4/198.
[12] الحارث بن كلدة: ثقفي من أهل الطائف، طبيب العرب في عصره، وأحد الحكماء المشهورين، رحل إلي فارس وأخذ الطب هناك، ولد في الجاهلية وعاش في أيام الرسول ﷺ والخلفاء الراشدين، كان شاعرًا، توفي في أيام معاوية
[13] أبو داود: كتاب الطب، باب في التداوي بالعجوة (3875).
[14] مسلم: كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره ﷺ من معايش الدنيا على سبيل الرأي (2362)، وابن ماجه (2470)، وأحمد (1399)، واللفظ له، والطيالسي (230).
[15] مسلم: كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره ﷺ من معايش الدنيا على سبيل الرأي (2362).
[16] مسلم: كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ما ذكره ﷺ من معايش الدنيا على سبيل الرأي (2363).