أكرم الله عز وجل البشرية برسوله وخاتم أنبيائه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسله إلى جميع العالمين إنسهم وجِنِّهم، عربهم وعجمهم، بأوضح حُجَّة، وأظهر دلالة، وأبين برهان، وساق الله سبحانه وتعالى تلك الدلائل الظاهرة البينة لتَعْلَم البشرية صدق دعوته ونُبْلَ رسالته، وأنه حلقة في سلسلة الأنبياء الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى لوظيفة واحدة لا تتجزّأ، وتتمثَّلُ في دعوة التوحيد لله ربِّ العالمين.

ومن سُنَّة الله تعالى أن كل نبي يُسَلِّم جذوة دعوته إلى الذي يليه، وهكذا فقد بَشَّرَتْ برسول الله صلى الله عليه وسلم الكتب السالفة، وأَخْبَرَتْ به الرسل السابقة، من عهد آدم أبي الأنبياء والبشر إلى عهد المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، كُلَّمَا قام رسولٌ أُخذ عليه الميثاق بالإيمان برسول الله والبشارة بنُبُوَّتِه ورسالته.

وهذه البشارات هي بمنزلة الإعلان والبلاغ المسبق من الله ومن الرسل إلى الأمم والشعوب بمَقْدَم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحكمة منها أن لا يحدث انقطاع في الهدي الإلهي؛ فإذا جاء نبيٌّ جديد فلا يُقَابله أتباع النبي السابق بشيء من العداوة والبغضاء والتعصُّبِ المذموم، بل يشعرون أنه امتداد لما كان عليه النبي السابق؛ فتتواصل بذلك الهداية الإلهية، وتتعاضد وتتكامل الرسالات السماوية.

بشارة رسول الله في كتب الهندوس

أخبر القرآن الكريم أن الله تعالى أرسل لكل أُمَّة رسولاً يدعوهم إلى التوحيد، فينذرهم ويُبَشِّرهم؛ ليُقيم عليهم الحُجَّة يوم القيامة، وأن كل هذه الأمم والشعوب قد عَرَفت وتَيَقَّنَتْ -عن طريق أنبيائهم ورسُلهم- بمجيء خاتم الأنبياء والرُّسل محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ما أخبر به القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196]، أي: "إِنَّ ذِكْرَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم في كتب الأولين"[1].

كتاب السامافيدا

ورغم أنه لم يَعُدْ من كتب السابقين إلاَّ بقايا قليلة جدًّا، لكنها لم تَخْلُ من ذِكْرِ لمحمد r ورسالته؛ ففي كتاب (السامافيدا)، أحد الكُتب المقدَّسَة لدى البراهمة، نجد النصَّ التالي: "أحمد تلقَّى الشريعة من ربِّه، وهي مملوءة بالحكمة، وقد قُبست من النور كما يقبس من الشمس"[2].

كتاب أدهروهيدم

وجاء في كتاب مُقَدَّسٍ آخر عند الهندوس وهو (أدهروهيدم) ما نصُّه: "أيها الناس، اسمعوا وَعُوا؛ يُبْعَثُ المحمَّدُ بين أظهر الناس، وعَظَمَتُه تُحْمَدُ حتى في الجنة، ويجعلها خاضعة له وهو المحامد"[3]. يعني محمد.
كتاب بفوشيا برانم

وفي كتاب هندوسي ثالث هو (بفوشيا برانم) ما يلي: "في ذلك الحين يُبعث أجنبي مع أصحابه باسم محامد الملقب بأستاذ العالم[4]، والمَلِك يطهِّره بالخمس المطهرة"[5]. ولا شكَّ في أنها الصلوات الخمس التي يمحو الله بهنَّ الخطايا.

وقد جاء وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب (بنوشيا برانم)، فقد ورد فيه: "هم الذين يختتنون، ولا يربون القَزَع[6]، ويربون اللِّحَى، ويُنادون الناس للدُّعاء بصوت عالٍ[7]، ويأكلون أكثر الحيوانات إلاَّ الخنزير، ولا يستعملون الدرباء[8] للتطهير، بل الشهداء هم المتطهرون، ويُسمون بمسليّ[9]؛ بسبب أنهم يُقاتلون من يُلبس الحقَّ بالباطل، ودينهم هذا يخرج منِّي وأنا الخالق"[10].

بشارة رسول الله في الترتيلات الهندوسية

كتب الويدات

ولقد قامت مجموعة من الباحثين الهندوس بتحليل العديد من الترتيلات الهندوسية المختلفة، والتي جاءت في كتب الويدات وغيرها من الكتب الهندوسية، فوجدوا أن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم قد ذُكِرَ صراحة، كما ذُكِرَتْ بعضُ محاور رسالته ودعوته؛ لذلك كَتَبَ عددٌ من علماء الهندوس وغيرهم بحوثًا حول هذه الشخصية الفذَّة التي وجدوها في كتبهم، وهي شخصية (نراشنس)، فدرسوها في ضوء ما ذُكِرَ لها من الخصائص والأوصاف.

وكلمة (نراشنس) كلمة سنسكريتية[11] مكوَّنة من مقطعين؛ أوَّلهما: (نر)، ومعناه الإنسان، وهذا غريب بالنسبة للويدات التي قلَّمَا تختار من البشر أحدًا لمدحه والثناء عليه. والمقطع الثاني: (أشنس)، ومعناه اللغوي: مَنْ يُحْمَدُ ويُثْنَى عليه بكثرة، فهو مرادف لمحمد مرادفة تامَّة، ومع ذلك فلم تَكْتَفِ الويدات بذكر اسم هذا النبي العظيم فقط، بل "وفَّرَتْ لنا تفاصيل أخرى تقطع سبل النقاش والجدال، وتَبُتَّ البشارة بتَّة لا مجال فيها لأدنى احتمال، وأكبر مجموعة لهذه التفاصيل هي ما ورد في (أتهرو ويد) في بابه العشرين، والفصل السابع والعشرين بعد المائة، بينما يوجد بعض البيانات في مناتر[12] أخرى جاءت متفرِّقَة في بقية الويدات والكتب المقدسة عند الهندوس"[13].

وقد تُرجمت هذه المناتر على الصورة التالية:

1- "اسمعوا أيها الناس باحترام، إن نراشنس يُحمد ويثنى عليه، ونحن نعصم ذلك المهاجر -أو حامل لواء الأمن- بين ستين ألف عدوٍّ وتسعين عدوًّا".

ويُلاحَظُ في هذه الترتيلة عدَّة أشياء؛ أوَّلها: أن هذه الشخصية تتمتَّع بحمد الناس وثنائهم عليها، وتمتاز على الآخرين بذلك، ولا يُعرف في تاريخ البشر إنسانٌ حمده الناس وأثْنَوْا عليه بمعشار ما أثْنَوْا على محمدٍ صلى الله عليه وسلم وحمدوه، فهو الذي امتاز بهذه الخصيصة بين الأنبياء.

وثانيها: أن هذه الترتيلة ذَكَرَتْ كلمة المهاجر، ومن المعلوم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد هاجر من مكة إلى المدينة، وموضوع الهجرة من أبرز الأحداث التي مرَّ بها الأنبياء عليهم السلام.

وثالثها: وهو الغريب في هذه الترتيلة أنها أحصت أعداء النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهم ستين ألفًا وتسعين عدوًّا، وقد تتبع بعض الباحثين عدد من عادى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فوجدهم يقربون من هذا العدد، والله أعلم[14].

2- "يكون مركبه الإبل، وأزواجه اثنتي عشرة امرأة، ويحصل له من علو المنزلة، وسرعة المركب أنه يمسُّ السماء ثم ينزل".

وهذه الترتيلة واضحة جدًّا في دلالتها على نُبُوَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم والبشارة به؛ إذ ما من وصف ذُكِرَ فيها إلاَّ وقد تَحَقَّقَ في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنراشنس -محمد صلى الله عليه وسلم- كان دائم الركوب للإبل في أسفاره وغزواته، وهذا مشهور متواتر في كتب السيرة، وهو دليل على أن ميلاد هذا النبي لا يكون إلاَّ في منطقة صحراوية؛ لأن الإبل لا توجد إلاَّ في مثل هذه المناطق، وقد وُلِدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفعل في مكة، وهي أرض صحراوية قاحلة تُحِيطُ بها صحاري شاسعة. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون عزبًا بل يتزَوَّج من اثنتي عشرة امرأة، ولم يَثْبُتْ ذلك لأحد غيره من الأنبياء والمرسلين؛ فقد تَزَوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم من اثنتي عشرة امرأة على رأي من قالوا بأن السيدة ريحانة بنت زيد -رضي الله عنها- كانت زوجة من زوجاته r[15].

وقد تحدَّث ويد بركاش أبادهياي -وهو أحد كبار علماء اللغة السنسكرتية في شبة القارة الهندية- عن ترجمة الفقرة الثانية من هذه البشارة في كتابة: "نراشنس أور أنتم رشي" ص14، وهي أن أزواجه تكون اثنتي عشرة امرأة، وهو لم يُشِرْ إلى احتمال أيِّ معنًى آخر سواه[16].

وهناك إشارة أيضًا إلى رحلة الإسراء والمعراج التي ركب فيه النبي صلى الله عليه وسلم البراق[17] الذي كان من سرعته أنه يضع قدمه عند منتهى طرفه، وأنه علا به إلى السماء، ثم نزل إلى الأرض[18].

ويتَّضِحُ من هاتين الترتيلتين -وغيرها من بقيَّة التراتيل المتعلِّقَة بنراشنس- مدى تطابقهما مع أوصاف محمد صلى الله عليه وسلم؛ لذلك فهو دليل صريح من كتب الهندوس على التبشير بنُبُوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يَتَوَانَى بعض علماء الهندوس في ذكر ذلك صراحة، ولا يَستغرب أحد أن كُتب الهندوس قد جاءت بأوصاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاعتقادُنا بأنها مجموعة من الكتب الموضوعة بأيدٍ بشريَّة قد يكون صحيحًا إن كان المقصود بذلك التحريف والتبديل؛ لأنه لا يُعقل أن تتنزل الرسالات في منطقة الشرق الأوسط، وتُنسى بقية المعمورة بساكنيها من الوحي والرسالات -وحاشا لله سبحانه وتعالى ذلك- لأنه يتعارض مع رحمته وعدله، وقد أخبرنا القرآن الكريم أن كل أُمَّةٍ من الناس لم تَخْلُ من نذير أو بشير، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]. ومن ثَمَّ يمكن التعويل على هذه الترتيلات الهندوسية -استنادًا لما ذكره علماؤها- في التصديق والبشارة بنُبُوَّة محمد صلى الله عليه وسلم.

د. راغب السرجاني

[1] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 13/138.
[2] السامافيدا الجزء الثاني من الفقرة 6-8، نقلاً عن صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/351.
[3] كتاب أدهروهيدم، الجزء العشرون الفصل 127 الفقرة 70، نقلاً عن صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/352.
[4] وأيضًا فإن في الإنجيل إنجيل يوحنا أن المسيح u أخبر بهذه الصفة، بقوله: "إن أركون العالم سيأتي". وأركون تعني السيد والعظيم. انظر: ابن تيمية: الجواب الصحيح 5/304، 305.
[5] الجزء 2 الفصل 3 العبارة الثالثة وما بعدها، نقلاً عن صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/352.
[6] جمع قزعة وهي القطعة من السَّحاب، وسمِّي شعر الرأس إذا حُلِق بعضه وترك بعضه قزعًا؛ تشبيهًا بالسَّحاب المتفرِّق. انظر: شمس الحق آبادي: عون المعبود شرح سنن أبي داود 11/165.
[7] ينادون للدعاء: أي ينادون للصلاة؛ لأن الصلاة دعاء.
[8] الدرباء: نبات يخرج به الهنود الدم من جسم الإنسان، ويعدون هذا العمل تطهيرًا من الخطايا.
[9] مسلي: أي يسمون بالمسلمين، دخل عليها شيء من التحريف.
[10] الجزء الثالث الفصل الثالث عبارات 27، 28، نقلاً عن صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/352.
[11] السنسكريتية: هي لغة قديمة في الهند، وهي لغة طقوسية للهندوسية، والبوذية، والجانية.
[12] مناتر: هي التراتيل الهندوسية في كتب الويدات.
[13] صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/366.
[14] صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/371.
[15] انظر: السابق نفسه 1/371، 372، وابن كثير: السيرة النبوية 4/605، وابن سيد الناس: عيون الأثر 2/388.
[16] نقلاً عن صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/374.
[17] البُراق: دابة يركبها الأَنبياء عليهم السلام. وقيل: البراق فرس جبريل، وهي الدابة التي ركبها الرسول r في الإسراء والمعراج؛ سُمِّي بذلك لنصوع لونه وشدَّة بريقه، وقيل: لسرعة حركته شبَّهه فيها بالبَرْق. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة برق 10/14.
[18] انظر: صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/375.