سم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين




ما هو المصير الأخروي لغير المسلمين؟ هل يمكن أن تشملهم رحمة الله أو تشمل بعضهم على الأقل، أم أنهم من أهل الشقاء وخالدون في نار جهنم؟


هذا السؤال ذو أهمية خاصة، كونه يرتبط بمصير المليارات من بني الإنسان، وفي ضوء الإجابة عليه تتضح ليس فقط رؤية الإسلام ونظرته للآخرين بل تتحدد أيضاً رؤية الآخرين للإسلام، لأن موقف الآخرين من الإسلام يتأثر كثيراً بالنظرة التي ينظر بها الإسلام والمسلمون إليهم.


ولا يتردد البعض في تقديم إجابة حاسمة عن هذا التساؤل ومفادها: أن كل الناس من غير المسلمين هم من أهل النار ومأواهم جهنم وبئس المصير، دون فرقٍ بين المشركين والملحدين أو أهل الكتاب أو غيرهم ممن لم يعتنق الإسلام.


ويستند أصحاب هذا الرأي إلى جملة من النصوص الدينية المختلفة، ولا يعيرون اهتماماً كبيراً للاعتراضات التي قد تواجههم وتطلب منهم تبريراً مقنعاً لهذه "النقمة الإلهية" العارمة التي لا تستثني أحداً من غير المسلمين، أترى خلق الله عباده للعذاب والنيران أم للرحمة والغفران؟ وما يزيد البحث إثارة وإشكالية أن الكافر الذي يحكم بدخوله النار قد يكون صاحب أخلاق طيبة وأعمال مفيدة للإنسانية، وربما كان عابداً لله على طريقته
فهل من المنطقي أن يُعذّب الله كل هؤلاء ويزّج بهم في نار جهنم دونما تقدير لأعمالهم وخدماتهم؟!


والذي نراه أن طبيعة البحث تفرض مقاربة المسألة منهجياً على مرحلتين:


المرحلة الأولى: إنه ومع صرف النظر عن أعمال هؤلاء الحسنة أو القبيحة، هل من المعقول أن يعاقبهم الله على عقائدهم الفاسدة، أو لأنهم لم يؤمنوا بالإسلام ولم يتخذوه ديناً؟


المرحلة الثانية: مع التسليم الإفتراضي أن هؤلاء يستوجبون ويستحقون العقاب لكفرهم وفساد عقيدتهم ولكن ألا يمكن أن تشفع لهم أعمالهم الحسنة ونواياهم الطيبة فيدخلهم الله جنته ويشملهم برحمته؟


إن الدين عند الله الإسلام:


في البدء لا بدّ من التأكيد على قناعتنا وعقيدتنا في هذا المجال، وهي أن الإسلام وبعد بعثة النبي(ص) أصبح الدين الذي لا مفرّ للبشر جميعاً من اعتناقه والانتماء إليه، لأنه خاتم الرسالات البشرية التي أراد الله لبني الإنسان أن يأخذوا بها، ففيه حياتهم وسعادتهم
{يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيراً لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليماً حكيماً}(النساء:170)، وقال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158).


قبح العقاب بلا بيان:


بعد هذا التمهيد الضروري نعود إلى مقاربة الموضوع طبقاً للمنهجية المشار إليها، أما بالنسبة للمرحلة الأولى من البحث، أعني كيفية التعامل الأخروي مع الناس من زاوية ما يحملونه من عقائد ربما تكون فاسدة وخاطئة، فإن الذي يلزمنا التأكيد عليه بدءاً أن المرجع في هذا المقام هو العقل، فإن حكم بحسن شيء فلا مانع من تبنيه ولو كان مخالفاً لبعض الأذواق، وإن حكم بقبح شيء فلا بدّ من رفضه حتى لو وردت فيه النصوص، وما علينا والحال هذه إلا تأويل النص إن كان قطعي السند كالقرآن أو رفضه إن لم يكن كذلك، ومن أوضح وأبده أحكام العقل أن الخالق الحكيم لا بدّ أن يحاكم عباده يوم القيامة على أساس العدل وموازينه، ومنطق العدل يقول بقبح معاقبة كل من لم تقم عليه الحجة والبرهان ـ كما أسلفنا في حديث سابق ـ ولا يمكن للنص أن يكون مخصصاً لحكم العقل هذا أو غيره، لأن أحكام العقل آبية عن التخصيص والتقييد، وقد أقرّ بهذه القاعدة العقلية مشهور العلماء واصطلحوا على التعبير عنها بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وهي قاعدة وجدانية يدركها كل إنسان سوي وعاقل، وقد أرشد الله إليها في قوله عزّ من قائل {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}.


الكافر المعذور:


هذا ما نقوله عموماً، وهذا الكلام لا غبار عليه على مستوى القاعدة، وإنما الإشكال في التفاصيل، أقصد في تحديد من قامت عليه الحجة ومن لم تقم عليه، وما يمكننا ذكره على هذا الصعيد: أن ثمة صنفين من الناس:


الصنف الأول: هو كل من عرف الحق وجحده، فهو المصداق الجلي لمن قامت عليه الحجة، وبالتالي فهم مستحق للعقوبة، ويلحق به الجاهل المقصِّر فهو أيضاً يستحق المؤاخذة، لا بسبب جحوده وإنما بسبب تقصيره في التعرف على الحقائق، ولكن يظهر من الشهيد مرتضى المطهري أن الجاهل المقصِّر مشمول برحمة الله وعفوه، حيث أنه وبعد أن قسّم الكفر: إلى كفر جحود وكفر جهالة وعدم معرفة بالحقيقة جزم باستحقاق الجاحد للعقوبة، أما "النوع الثاني فلا بدّ أن نقول: إن الجهالة وعدم المعرفة الناتجة عن تقصير من قبل المكلف فهي تقع موقع عفو ورحمة الله سبحانه وتعالى"(العدل الإلهي276). ولا نعرف له مستنداً في الحكم بكون المقصر مشمولاً لعوف الله إلاّ أن يكون انطلق من حسن ظنه بسعة رحمته وعفوه تعالى.


الصنف الثاني: الجاهل القاصر وهو معذور عقلاً ونقلاً، وكذلك العالم غير الجاحد أعني به كل من بذل الجهد في سبيل الوصول إلى الحقيقة مخلصاً في بحثه وموطِّناً نفسه على إتباع الحق أين ما وجده ولكنه لم يوفق، فهو الآخر معذور، هذه خلاصة ما نعتقد أنه الصحيح في المقام استناداً إلى حكم العقل مؤيداً بالنقل، وأمّا النصوص القرآنية أو الحديثية التي قد تكون بظاهرها مخالفة لهذه النتيجة بمعنى أنها تحكم باستحقاق كل من لم يكن مسلماً للعقوبة الآخروية جاهلاً كان أو عالماً، قاصراً أو مقصراً، فلا بدّ من تنزيلها على المعنى المشار إليه، لما قلناه من ضرورة التوفيق بين ظواهر النصوص وأحكام العقول.


وقد عالجنا هذا الموضوع بشيء من التفصيل في كتاب الإسلام والعنف فراجع، وقد نقلنا هناك نصاً هاماً للإمام الخميني(رحمه الله) يؤكد فيه ليس على معذورية الجاهل القاصر فحسب، وإنما على أن معظم الكفار هم من صنف الجاهل القاصر المعذور عند الله سبحانه، لأنهم بحكم تربيتهم عاشوا أجواء خاصة جعلتهم لا يرون الحقيقة إلاّ فيما ورثوه من أديان ولا يحتملون وجود خطأ في معتقداتهم.



لا عذر لمن لا يؤمن بالله:



إن التفصيل المذكور بين القاصر والمقصر يمكن تصوّره في الكثير من المعتقدات، ومنها عقائد مثل: النبوة والإمامة والمعاد وغيرها من العقائد، فإن وجود أِشخاص لم تقم عليهم الحجة بشأن رسالة نبينا محمد(ص) أو إمامة الإمامة من أهل البيت(ع) أو بشأن قضية المعاد ـ رغم دعوى فطريته ـ هو أمر ليس ممكناً فحسب، بل واقع ومتحقق خارجاً، سواء أريد بمن لم تقم عليه الحجة الجاهل القاصر أو المجتهد المخطئ، لكن التفصيل المذكور يصعب الأخذ به في مسألة الإيمان بالله، فإن هذه القضية قد لا يتصور وجود معذور في عدم الإيمان بها، لأن الحجة على وجوده سبحانه قائمة على الدوام وهي بمستوى من الوضوح والبداهة بحيث لا تكاد تخفى على أحد، لشهادة كل من العقل القطعي والوجدان بوجوده تعالى، وحتى لو كثرت الشبهات حول وجوده سبحانه فإن الفطرة السليمة التي يغمرها الإيمان بالخالق كفيلة بطرد كل هذه الوساوس والأوهام والشكوك، نعم لو إن الإنسان مات في زمن دراسة الشبهة وقبل النجاح في تفكيكها والتغلب عليها فإنه يكون معذوراً بحكم العقل، كما يستفاد ذلك أيضاً من بعض الروايات التي تحدثت عن معذورية المكلف في "مهلة النظر" أو "الطلب" ففي الخبر عن أحد الإمامين الباقر أو الصادق(ع) وقد سئل عن قول إبراهيم(ع) لما رأى كوكباً "هذا ربي"؟ قال(ع)
: " إنما كان طالباً لربه ولم يبلغ كفراً، وإنه من فكر من الناس في مثل ذلك فإنه بمنزلته" (بحار الأنوار11/87).


ماذا عن التوحيد؟


لكن ماذا عن التوحيد؟ هل يُفصّل فيه بين المقصّر والقاصر؟


الأرجح هو التفصيل، لأن التوحيد وعلى الرغم من نهوض الدليل ووضوحه عليه لا يمتلك وضوح أصل الإيمان بالله سبحانه، ولذا كان مزلة الأقدام ووقع غالبية الناس أسرى الشرك الجلي أو الخفي، الأمر الذي يشهد لإمكانية وقوع الشبهة فيه، ومن هنا رأينا أن كل الرسالات جاءت رافعة لواء التوحيد وداعية إليه، وقد كان لسان حال كافة الأنبياء
{قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ} (الرعد :36)، إنّ القيمة العقدية الكبيرة والعالية للتوحيد والتي جعلته في مصاف أصول الدين، بل هو الأصل الأول في تلك الأصول، والتي جعلت القرآن يوليه أهمية خاصة، بحيث أننا نجد أن القرآن طافح بآيات التوحيد والتنديد بالشرك واعتباره ظلماً عظيماً}(لقمان:13) أو "ضلالاً بعيداً}(النساء:116)، إلى غير ذلك من الأوصاف، إن ذلك كله لا يلغي إمكانية وقوع الشبهة في الشرك لا سيما بلحاظ بعض مراتبه التي قد وقع الاختلاف فيها بين المسلمين أنفسهم، لدرجة أن ما قد يراه بعض العرفاء أو المتكلمين على أنه توحيد يراه آخرون على أنه شرك ولا تتورع المدرسة السلفية الوهابية عن رمي معظم المسلمين بالشرك، في ضوء ذلك لا يمكن أن يقاس أصل التوحيد بأصل وجود الله سبحانه في الآثار والأحكام، وعليه فما ورد حول عقوبة المشرك واستحقاقه النار، كما في قوله تعالى: {إنّه من يشرك بالله فقد حرّم عليه الجنة} لا بدّ أن يفهم في ضوء ما ذكرناه إمّا بأن يفرض أنه وارد في دائرة الشرك الواضح والبديهي البطلان أو في خصوص ما كان عناداً أو تقليداً للآباء والأجداد دون حجة أو برهان.