الفن عامة وفن السينما على وجه الخصوص بما أنّه الفن الأكثر انتشارًا في الوقت الحالي له عدة رسائل، فالغرض ليس فقط المتعة – وهو غرض رائع في حد ذاته – ولكن أيضًا كسر تابوهات المجتمع، والحديث عن غير المحكي والمحظور، ووضع المشاهد في حالة مواجهة مع ما يتهرب منه الجميع، فنشاهد كل عام أفلام عن فظائع العنصرية سواءً في العصر الماضي أو الحاضر، وحديثًا أصبح التابو الشاغل للكثير من صُنّاع الأفلام كسر هالة الغموض والخوف في الحديث عن المثلية الجنسية.
فيلم Call Me By Your Name ليس فيلم عن المثلية بوجه خاص، بل هو فيلم عن الحب الأول، وفترة المراهقة الصعبة، ومحاولة التعرف على المشاعر والهوية للمرة الأولى، وتصادف أن يكون طرفا الحكاية شابين.
الفيلم هو آخر أفلام ثلاثية مخرجه الإيطالي Luca Guadagnino عن الحب، بعد I Am Love عام 2009 و A Bigger Splash، وقد قال عنه إنّه أكثر أفلامه هدوءً ورقةً، وهو مقتبس من رواية بذات الاسم تم نشرها عام 2007 لأندريه أكيمان.
Luca Guadagnino لم يكن هو المخرج الأصلي لهذا العمل الذي ظل لسنوات كمشروع، بل تم طرح اسمه في البداية كمخرج ثاني للفيلم مع جيمس أيفوري، قبل أن يكرس الأخير جل وقته للسيناريو ويعتذر عن الإخراج، وقد عكف على ذلك لمدة تسعة أشهر.
تدور الأحداث عام 1983 في مدينة صغيرة بشمال إيطاليا، حيث نتعرف على عائلة صغيرة متعددة الجنسيات، يتنقل أفرادها في الحديث بين الإنجليزية والفرنسية والإيطالية بسهولة بالغة، تتكون من أم وأب بروفيسور جامعي، والابن إيليو في السابعة عشر من عمره، وكل عام تستضيف الأسرة تلميذ للبروفيسور للإقامة، ومساعدته في عمله البحثي حول الآثار الرومانية، وهذا الصيف كان الدور على الأمريكي الشاب أوليفر.
هناك بعض الاختلافات بين الرواية الأصلية ونص الفيلم، أهمها تحويل أسلوب السرد من الراوي على لسان إيليو ليصبح فقط أحد أبطال الحكاية، ويأخذنا معه خطوة بخطوة في رحلته لاستكشاف هويته ومشاعره، وأيضًا تم التخلص من الحوار في العديد من المشاهد، لنجد أنّ الصمت بالفعل في تلك اللحظات أكثر تأثيرًا من أي حديث مبتذل، يجعل المشاعر تفقد جلالها، وتم استبداله بالأغاني والموسيقى والتمثيل الجيد للغاية.
لا يمكن تخيل أحداث فيلم Call Me By Your Name سوى في إيطاليا، فلو حاولنا وضع إيليو وأوليفر في الولايات المتحدة عام 1983 لتغير مسار القصة تمامًا، فأبطال الفيلم ليسوا الشخصيات وحدها، بل المنزل الأنيق الواسع بالبيانو الخاص به والكتب الملقاة في كل مكان مفتوحة على أحد الصفحات في انتظار صاحبها ليكمل قرأتها، الحديقة ذات الطاولة البسيطة التي تجلس عليها العائلة والضيوف في الصباح والمساء للاستمتاع بالوجبات الشهية، النهر القريب من المنزل حيث يستحم الشباب في الصباح، والنبع النظيف الذي دارت بجواره الكثير من الأحداث.
تم تصوير الفيلم في قرية بالقرب من “Crema” الإيطالية، التي احتفظت ببهائِها لقرون لتظهر بهذه الصورة الأيقونية خلال الأحداث، وتصبح كل لقطة في الفيلم كلوحة فنية يحتاج فريق تصميم الإنتاج والديكور أيام حتى تظهر بهذا الكمال، فحتى الأشجار كان كما لو أنّها تشارك في إضفاء هذا الطابع الصافي على الأحداث، وتهيئة المكان للقصة الرومانسية الدائرة.
فيلم Call Me By Your Name يفيض بالعاطفة والحب، ليس فقط في العلاقات الرومانسية التي يعيشها بطله إيليو، ولكن أيضًا في الطابع الأسري الإيطالي المميز، فهو قدم الأسرة الأوربية المثقفة كما يجب أن يكون، حيث من الطبيعي في الأمسيات أن تجتمع العائلة مع ضيف أو اثنين يستمعون لعزف الشاب على البيانو والجيتار، أو نجد أفراد الأسرة الثلاثة على أريكة واحدة يستمعون للأم تقرأ الشعر بالألمانية.
هذا المناخ كان ضروريًا حتى تنمو هذه العلاقة بين بطلي الفيلم إيليو وأوليفر، وساعد على أن تكون صراعات الشخصيات كائنه بينهم وبين أنفسهم، وليس بينهم وبين المجتمع، فلم نجد أطراف ضاغطة مؤثرة
ليضعنا هذا في مقارنة واضحة بين الصراع الذي خاضه إيليو في فيلم Call Me By Your Name والذي مر به شيرون بطل فيلم Moonlight، فالأول كان صراعه بينه وبين نفسه وبحثه عن هويته الجنسية، وكيفية تعامله مع علاقة الحب الأول في حياته، خوفه الوحيد كان من الرفض، بينما عانى شيرون من مجتمعه منذ الطفولة، الذي حاكمه على اختياراته الجنسية ولم يتقبل هشاشته ورقته فاضطر للتخلي عن جزء هام من شخصيته حتى يحظى بالقبول في النهاية، وهو القبول الذي حصل عليه إيليو من عائلته المتماسكة طول الوقت.
من أهم نقاط قوة الفيلم بالإضافة للسيناريو والإخراج والتصوير، التمثيل الذي كان رائعًا بشكل يفوق الوصف، واستحق كل من البطلين تيموثي شالاميت في دور إيليو، وأرمي هامر في دور أوليفر الترشح للجولدن جلوب كأفضل ممثل رئيسي وأفضل ممثل مساعد في فيلم درامي، وأتوقع لهما كذلك الترشح للأوسكار، عبر تيموثي ببراعة عن مشاعر المراهق اتجاه الحب الأول، الخليط العجيب من الحيرة والشغف والخوف من الرفض، وكانت هناك مباراة تمثيلية سلسة بينه وبين هامر في دور أوليفر، الذي ربما من الظاهر يبدو كما لو أنّه لم يعش ذات الصراع النفسي الذي مر به إيليو، لكنه كان مثله مرتبكًا أمام مشاعره الجديدة، عاجزًا عن التعبير عنها، والأهم مكبلًا بالشعور بالمسؤولية وهو الشخص الأكبر سنًا في هذه العلاقة.
لا يمكن إغفال بالطبع الأداء الممتع لكل من أميرة كاسار ومايكل ستولبيرج كأم وأب أيليو اللّذين يتمتعان بفلسفة خاصة في تربية صغيرهما، جعلتني أراهما الأسرة المثالية التي يحلم بها أي مراهق، شريكان متحابان مثقفان، يتقبلان ابنهما كشخص متكامل دون أن يؤثر أي من اختياراته الشخصية على هذه المحبة، علماه كيف يتقبل الحزن عندما يأتي كما يستقبل المحبة عندما تغمره.
فيلم call me by your name واحد من أفضل أفلام 2017 بلا جدال، وأكثرها رقةً ورومانسية. لا تحاول أن تراه وتحكم عليه من منطق أخلاقي صارم، بل ضعه في مكانته كفيلم يستحق المشاهدة والتحليل وعمل فني راقي.