بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين



فإن الخطيب الواعي والرسالي من كان عارفاً بزمانه، ويعرف لغة عصره، ويواكب التطور الهائل في الصناعة الثانية وعلى شرف الصناعة الثالثة، التي يتحكم فيها لغة الامواج الفكرية، فيعرف لغة الفضائيات،وأن یدعو إلی التوحيد الخالص وشعاره وكلمته (لا اله إلّا الله) أنّ (لا إله) تعني في يومنا هذا نفي الطغاة والبرامج التي يطرحها الإستكبار العالمي بتياراته الرأسمالية والاشتراكية والصهيونيّة والماسونية وغيرها، ويديرها ويدبر أمرها من وراء الكواليس ومن خلال عملائه في البلاد الاسلاميّة وبآليات مختلفة إعلامية وغيرها، وبعد تنظيف العقول والنفوس من الطواغيت والجبابرة في دائرة (لا إله) حينئذٍ يزرع التوحيد الخالص في نفوسهم وقلوبهم وعقولهم في دائرة (إلّا الله) فيكون بين الرفض والإيجاب، وهذا يجري في كل أصول الإسلام وفروعه وأخلاقه وآدابه.

ثم لابدّ من تعريف الشيطان وعداوته للانسان، ومن تعريف جنوده من الجن والانس، وتعريف تسويلاته ووساوسه وخططه، ثم سوق الناس وقيادتهم إلى عبادة الله سبحانه والخوف من عذابه يوم القيامة، والشوق إلى جنانه التي وعد الله المتقين، أن ادخلوها بسلام آمنين، بل يعلّم الناس كيف يعبدون الله عبادة الاحرار والشاكرين العارفين.

واذا عرف الناس ابليس وجنده و حزبه، وعرف آثار إتباع خطواته ووساوسه من التخريب والشقاء في الدنيا والآخرة، فانه لا محالة بفطرته المحبّة للكمال والجمال والخير، يقبل على ما فيه نجاته وسعادته وكماله، فيتوب إلى ربّه توبة نصوحاً، ويصلح أمره في نفسه وعياله ومجتمعه.

لابد للخطيب الفهيم الخبير من بيان الاسلام المحمدي الأصيل بلغة العصر والحداثة، بعيداً عن الموهومات والخرافات والبدع، وممّا لا أصل له من ا لوحي من الكتاب والسنة ومنهاج الائمة الاطهار:، ومن العقل السليم والفطرة الموحدة، فان هذه الثلاثة: (الوحي والعقل والفطرة) أدلّتها من الادلة العصمتيّة التي لا تقبل الخطأ والزّلل، ولا يستند على مثل الرؤى والمنامات التي لا حجيّة لها عقلاً وشرعاً، بل لابد من الاستدلال بالوحى والعقل والفطرة إلّا انه بلغة الخطابة لا بلغة البرهان.

وامّا في يومنا هذا فنحن بحاجة ماسة وملحّة، بل وضروريّة إلى مثل أولئک الخطباء العباقرة الذين حملوا الرسالة المحمدية الناصعة على كواهلهم بكل جهد وإخلاص، وبلّغوا رسالات ربهم بنصح وتقوى وإحساس، عارفين بأهل زمانهم، وبعلومهم ومعارفهم وثقافاتهم...

...ولابد لمن يحسّ بالمسؤولية من صنّاع القرار، كلٌّ بقدر ما أوتي من قوة وعُدّةٍ وعِدّة أن يقوم بالتكليف ويوظّف ما عنده من جهدٍ جهيد، ويسعى من أجل تربية خطباء جيدين وممتازين وبالمستوى المطلوب، بدواً من التلامذة والطلاب، ومن خلال الكتب المفيدة، والاساتذة أصحاب الخبرة والتجارب، ومن خلال الممارسة والتمرين المستمر فيما بينهم، حتى يعرفوا نقاط الضعف والقوة في منابرهم وخطبهم.

لابد أن يعرفوا فن الخطابة أولاً، ثم العلم بما يتناسب مع زمانهم ومكانهم، وإنّه كيف الدخول والخروج في إيراد الخطبة، وكيف التأثير على النفوس والعقول.

ثم المنبري الحسيني بالخصوص، لابد وأن يستلهم الروح الحماسية من الامام الحسين× نفسه، ومن ثورته الخالدة، فانّ سيد الشهداء× كان وارثاً للأنبياء:، فلابد للخطيب أن يعرف فيما ورثهم ويتمثل لذلک، ثم ينقله قولاً وعملاً إلى المخاطبين، كما أن الامام الحسين× خليفة ربّه، فلابدّ من معرفة الاستخلاف، فانه× عصارة التوحيد، وخلاصة النبوّة، وزبدة الامامة، وتجلّى كل هذا في يوم عاشوراء في أرض الطف.

إن من أهم الوظائف للمنبري هو الموعظة، وإنّها تلين القلوب، وتقوم بتعديل القوى في النفوس، وتضبط الاهواء والشهوات، وتصيقل القلوب وتهذب النفوس، وتنير الدروب والطرق إلى الله سبحانه، وتضىء المسارات، وترجع العبد الآبق والغافل والساهي إلى ربه، وإلى شخصيته وكرامته وإصالته، وترجعه إلى إنسانيته، وتعلّمه فلسفة الحياة وسرّ الخليقة، وهذا ما يحتاجه الجميع سواء العالم او الأُمّي، وسواء الغني أو الفقير، الرجل أو المرأة، الكبير أو الصغير، فكل طبقات المجتمع وآحاده من الرئيس والمرؤوس، ومن الملک والرعية، والقائد والامة، فان الجميع سواسي في إفتقارهم إلى المواعظ الحسنة.

فالموعظة الحسنة كما أشار اليها القرآن الكريم، هى الأساس في الخطابة، وإنّها محور إستراتيجيتها، ومن أقدس أهدافها.

واذا كان فاقد الشيء لا يعطيه، فالمفروض من كل خطيب أن يكون هو متعظ في نفسه أولاً، ثم يكون واعظاً لغيره، فإنّ الكلمة إذا خرجت من القلب دخلت في القلب، واذا خرجت من أطراف اللسان ولقلقته، فانها لاتتجاوز آذان السامعين.

إنّ الموعظة الحسنة من الخطيب المتعظ تكبح الطغيان والاستعلاء في الآخرين، وتلجم الشهوات والرغبات ليكون زمامها بيد القوة العاقلة، والنفس الناطقة القدسيّة، وتسوق المخاطب إلى الفضيلة والاجتناب عن الرذائل من الافراط والتفريط.

فلابد من دعم الخطابة بفكر صائب، ورأى مستقيم، وأدب رفيع، وقول سديد (قولوا للناس قولاً سديداً) (قولوا للناس حُسناً) ولولا ذلک لكان الأمر كما قال دعبل الخزاعي في قصيدته المعروفة في وصف الامام الرضا×:

مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفّر العرصات


إن الخطيب العالم والخطبة العلميّة بلغة عصرية، لتضفى جمالاً على المنبر، ويشع منه الكمال والجلال، ويتفاعل معه الجمهور والنُّخب الاجتماعية، فيعود للمنبر حينئذ إصالته وهويته وإستراتجيته مرة أخرى. فلابدّ أيّها الأعزاء من اليقظة، وإعادة المنبر إلى مكانه المرموق الحقيقي، وإخراجه من أن يكون مذياعاً للخرافات، أو بوقاً للموهومات، بل يكون مصدراً نورانياً يشع منه العلم والمعرفة، وما فيه خير العباد، وإعمار البلاد.

والحذار الحذار من أن نكون من القاصرين أو المقصّرين في حق المنبر الكريم والعزيز، فان له حرمته وشموخه في النفوس وفي المجتمع الإيماني، فمن أضاعه قصوراً أو تقصيراً، دخل في زمرة الظالمين، فان كان يدري بذلک، فتلک مصيبة، وإن لم يدر فالمصيبة أعظم. ثم من الواضح عندما نقول بان المنبر والمنبري لابد أن يكون مواكباً لعصره ليتكلّم بلغته، فهذا لا يعني الانقلاب على الماضي ومجابهته وإتهامه بالرجعيّة، بل لابد من الحفاظ على الهويّة وحفظ الماضي الأصيل، فانه بمنزلة اللَّبنات الاولى والاساس المستحكم، وبمنزلة الجسد، إلّا ان مواكبة الحداثة والعصر يعني تبديل الثوب القديم بالثوب الجديد المتناسب مع آداب الزمان والمكان، من دون الافراط بسلامة الجسد.




ان التكنولوجيا الصناعية في تطور وتقدّم فمن الصناعة الاولى من الحجر إلى البخار، وإلى الصناعة الثانية من البخار إلى الطاقة، وها

نحن على شرف الصناعة الثالثة، بان يلبّي الرجل الآلى طلباتک من خلال قراءة فكرک بأمواج تخرج من الدماغ لتصل اليه، أي العروج من الطاقة إلى الطاقة أو المادة، فاذا أردت الماء منه فيتقل موج خاص إلى الرّجل الآلي فيقدّم لک الاناء لتشرب من دون أن تستعمله بيدک.

إنّ عصرنا عص المليارد مليارد مليارد، فانه في الآونة الاخيرة إجتمع الخبراء ليضعوا كلمة (هلا) لعدد ملياد ميليارد مليارد، أى

واحد وأمامه أصفاراً بمقدار مليارد مليارد مليارد ـ وكل مليارد مليون مليون، وكل مليون ألف ألف، وكل ألف مأة مأة، وكل مأة يتركب من ثلاثة، واحد وامامه صفران، فاجعل الواحد امامه: مليارد مليارد مليارد صفر، ولمثل هذا العدد الهائل الذي يبدوا انه من الموهومات في الوهلة الاولى، وضعوا اسماً (هلا) وهو باللغة العاميّة في كاليفرنيا الشمالية بمعنى (الكثير الكثير).

وعلى ضوء هذا العدد ستكون الحسابات الرياضية، ويأتى زمان من كان في الشرق يقرأ فكر من كان بالغرب، ومثل هذا العقل البشري كيف لا يسخّر ما في الارض والسماوات، وكيف لا ينفذ إلى أقطارها، إلّا إنه لا ينفذ إلّا بسلطان من الله سبحانه.

إن من الضروري جداً للعلماء والخطباء أن يجيدوا (معرفة الزمان والمكان) و(معرفة أهل زمانهم) فيعرفوا الصديق من العدو، والجيد من الرديء، والفاضل من الأفضل.

أتدرى انّ تسلّط الاستعمار والاستكبار في بلادنا وحكومتهم علينا سياسياً وإقتصادياً، وحتى ثقافياً ودينياً، وإستثمار الجهود، وإستعباد النفوس، ونهب الثروات، إنّما كلّ هذا، كان نتيجة مطالعاتهم القديمة والدقيقة في معرفة الزمان والمكان ومعرفة الناس بكل أطيافهم وأصنافهم وقومياتهم ولغاتهم، ومعرفة عقائدهم وتقاليدهم ومراسمهم وآدابهم وحياتهم الفردية والاجتماعية، وسلوكهم الذاتي والجماعي، فدخلوا بلاد المسلمين بعناوين مختلفة، ومنها الاستشراق،

إلّا انه من المؤسف وما يقطع نياط القلب أنّ بلادنا الاسلامية ومن بيدهم القرار قد غفلوا او تغافلوا عن ذلک، وأهملوا هذا الجانب الحيوي، فباؤوا بالفشل والتقهقر والتراجع يوماً بعد يوم، والانحطاط وفقد الهويّة، وذهب ريحهم وعزّتهم بخدمة الاستعمار وأذنابهم، لاسيما في المنطقة وفي الشرق الاوسط والبلاد العربيّة، فابتلينا بحكّام وملوک يلحسون أقدام الأجانب ويلثمونها تقبيلاً، ليتسلطوا على رقاب الناس والمستضعفين بلغة الارهاب والعنف والقتل والسجن والتشريد والنفي والاضطهاد وبيع الوطن الغالي، وقمع الاحرار وخنق الاصوات الحرّة ا لواعية التي تريد التحرّر من الاستبداد وتسلط الاجانب وعملائهم من الدكتاتوريين والحكومات الفاسدة والفاسقة.


وليعلم اولئک العملاء أنه اذا أراد الشعب الحياة الحرّة يوماً، فلابد للقدر أن يستجيب، ولابدّ للقيد أن ينكسر، ولليل أن ينجلى، وتشرق شمس الحريّة والعزّ والكرامة الإنسانية. وان هذا لقريب، أليس الصبح بقريب