مشروعية حق النقد
لا يعتبر قانون العقوبات العراقي ممارسة حق النقد وحرية التعبير جريمة، لان القاعدة وفقاً لمبدأ الشرعية ان لا جريمة ولا عقوبة الا بنص، فلا عقوبة على فعل او سلوك لم ينص القانون على تجريمه، الا ان الإشكالية تتجسد في كثير من الأحيان في صعوبة التمييز بين الفعل المباح وهو ممارسة حرية التعبير وحق النقد وبين ارتكاب جريمة القذف او السب، خاصة والملاحظ ان بعض المحاكم تدخل في موضوع البحث عن اركان الجريمة وما يتطلبه ذلك من إلقاء عبأ الإثبات على عاتق المتهم في الأحوال التي ينص فيها القانون على ذلك قبل تكييف الفعل فيما اذا كان فعلاً مباحاً وممارسة لحرية التعبير وحق النقد ام انه يشكل جريمة من خلال المقارنة بين اركان الجريمة وأركان الفعل المباح وخاصة الركن المعنوي ، مما يتطلب إيجاد معايير للتمييز بينهما حتى لا تكون الخشية من إقامة الدعوى وإجراءاتها الطويلة او احتمالية التجريم عائقاً أمام ممارسة أهم الحقوق الدستورية.
في الواقع ان معيار التمييز بين القذف والسب وممارسة حرية التعبير هو من أعمال الفقه القانوني والقضاء لا من أعمال المشرع، لان المشرع وخاصة في ظل النظام القانوني اللاتيني لا يغوص في تفاصيل فروض القاعدة القانونية وهذا من مقتضيات التجريد كخصيصة من خصائص القاعدة القانونية(17) ولا يضع تعريفات إلا ما ندر، بل تعتبر وضع التعريفات احيانا من العيوب التشريعية،خاصة إذا كانت هناك حركة فقهية نشطة باعتبار ان ترك هذه الأمور للفقه والقضاء من عوامل تطوير القانون ومواكبته للوقائع المستجدة في حياة المجتمع وعلى هذا النحو نصت المادة (5) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951 على انه ( لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان )، ولا ينكر هذا التغيير في ظل القيم التي جاء بها دستور جمهورية العراق لسنة 2005 مما يتطلب إيجاد قوانين وابتداع أحكام واجتهادات فقهية وقضائية في مستوى ذلك الحدث القانوني والسياسي والاقتصادي المهم في حياة العراقيين.
فالمشرع في مثل هذا النظام قد يحدد عقوبة للقتل مثلاً ولكنه لا يعرف هذه الجريمة او لا يعدد أركان تحققها ولا يضع معيارا للتمييز بين القتل العمد والقتل الخطأ والضرب المفضي إلى موت وإنما يترك هذه الأمور للفقه وشراح القانون.
ومع ذلك قد يرى المشرع ان هناك ضرورة لتبني اتجاه فقهي معين في التعريف ويضمنه في تشريعه عندما يرى ان دواعي امن واستقرار المعاملات امراً مطلوبا في مجال معين من العلاقات الاجتماعية.
، 434 ) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المعدل، إلا انه لم يضع معيارا للتمييز بين هاتين الجريمتين وبين ممارسة حرية التعبير وحق النقد وهو أمر ضروري في ظل توقف الحركة الفقهية في العراق او شبه توقفها، وربما كان ذلك امراً مقصوداً في ظل أنظمة دكتاتورية متعاقبة ترى في أمر إتاحة حرية التعبير وممارسة حق النقد تهديدا لوجودها غير الشرعي اصلاً، فهي اذا مهمة الفقه والقضاء في هذا المقام.
فلو دفع المدعى عليه أثناء نظر دعوى القذف او السب بأنه مارس حرية التعبير التي كفلها الدستور ولم يقصد الإساءة الشخصية، فان القاضي ملزم قانونا بالفصل في هذا الدفع وليس له ان يحتج بعدم وجود نص يعالج هذه الواقعة وهكذا قيل انه لا يجوز للقاضي ان يرد الدعوى بحجة عدم وجود نص لأنه في هذه الحالة يعتبر منكرا للعدالة (18)، حيث نصت المادة (30) من قانون المرافعات المدنية رقم 83 لسنة 1969 المعدل على انه ( لا يجوز لأية محكمة ان تمتنع عن الحكم بحجة غموض القانون او فقدان النص او نقصه وإلا عد القاضي ممتنعاً عن إحقاق الحق ، ويعد أيضا التأخر غير المشروع عن إصدار الحكم امتناعاً عن إحقاق الحق ).
ومن جانب أخر إذا تعارضت أحكام الدستور مع أحكام القوانين فان الدستور هو الذي يقدم عند التعارض لان الدستور هو الذي يعطي الشرعية للقوانين والسلطات او يمنعها عنها، ويزال التعارض بعدة أساليب منها إقامة دعوى الغاء القانون المخالف للدستور او تفسير القانون المتعارض تفسيرا يتلاءم مع الدستور القائم اذا كان ذلك ممكناً، ويكون ذلك ممكناً اذا لم تكن نصوص القانون قد جاءت مفصلة ومتوسعة في التعريفات والأركان ومعايير التطبيق، بما ان نصوص قانون العقوبات العراقي قد جاءت خالية من معايير للتمييز بين جريمتي القذف والسب من جانب وممارسة حق التعبير وحق النقد من جانب أخر فان تفسير هذه النصوص تفسيرا يتوافق مع الدستور امرا ممكنا.ً
ورغم وجود نصوص صريحة في قانون العقوبات المصري تعاقب على جرائم القذف والسب ونشر الاخبار الكاذبة مع عدم وجود تحديد واضح للتمييز بينهما وبين ممارسة حرية التعبير فقد استقرت أحكام المحكمة الدستورية العليا على تبني معايير للتمييز بينهما تطبيقاً واحتراما للنصوص الدستورية التي تقرر هذه الحقوق، ونأمل من قضائنا ان يسير على هذا النهج في ظل أوضاع دستورية تفوق ما هو متوفر للغير خاصة في نطاق الحريات العامةقضت محكمة النقض في مصر بأنه ( للصحافة الحرية في نقد التصرفات الحكومية وإظهار قرائها على ما يقع من الخطأ في سير المضطلعين بأعباء الأمر وإبداء رأيها في كل ما يلابس الأحوال العامة) (19)
ولم يشر القرار إلى نص معين وإنما هو مستفاد من النصوص الدستورية التي تبيح حرية التعبير والمعتقد ومنها حق نقد كل ما يتعلق بالصالح العام.
ولم ترد شروط حق النقد لا في القانون العراقي ولا في القانون المصري، اذ انه مستمد من اعتراف الدستور بالحريات العامة مادام انه لم يقيدها بقيد سوى قيد عدم مخالفة النظام العام والآداب العامة، والمطلق يؤخذ على إطلاقه ما لم يرد دليل التقيد صراحة او ضمنا. وضمن حدود القيد.
إلا ان هذه الشروط يمكن استخلاصها من القواعد المتعلقة بالنظام العام او الآداب العامة او من العرف او من قواعد العدالة لانها متعلقة بأسباب الإباحة لا بالتجريم و يلاحظ ان خلق جريمة او عقوبة يستند الى مصدر واحد هو التشريع حصراً، اما قواعد التفسير وتفسير أسباب الإباحة فيمكن للقاضي ان يستخلصها من مصادر متعددة، وللقاضي ان يلجأ في هذا المقام الى جميع وسائل التفسير وطرقه بدون استثناء ومنها اللجوء الى القياس.(20)
ويستخلص الفقه لاعتبار حق النقد سبب من أسباب الإباحة ايا كانت صفة من وجه اليه الانتقاد ، الشروط التالية :
1ـ ان ينال النقد أعمال وتصرفات الاشخاص العامة لا شرفهم واعتبارهم الشخصي:
ويذهب اغلب فقهاء القانون الى ان الحد الفاصل بين ممارسة حق النقد والقذف يتجسد في التفرقة بين توجيه اللوم او العبارات القاسية الى شرف واعتبار الشخص المُنتقد ذاته وبين توجيهها الى عمله وتصرفاته او الى شخصه دون المساس بشرفه واعتباره ،وهذه التفرقة هي التي تجد عندها الحد الفاصل بين دائرة النقد الذي يعد ممارسة للحرية العلمية والأدبية والثقافية ودائرة السلوك الذي يعد قذفاً او سباً.
فإذا تناول النقد عملاً او خطة او إجراءات حكومية او مذهباً سياسياً او بحثاً علميا أو عملاً أدبيا او فنيا، وحدد قيمته، وكان منصباً على الأعمال والإجراءات والأفكار التي قامت او جاءت بها من حيث كشف عيوبها وتفضيل غيرها عليها دون ان يمس ذلك اعتبار او شرف الاشخاص العاملين او القائلين او المؤمنين بها ولو ذكر أسمائهم فان أركانالقذف لا تعد متوفرة.
ويورد الفقه أمثلة على ذلك النقد كالقول ان أداء الوزير الفلاني ضعيف او انه لم يكن بالمستوى المتوقع منه عند توزيره أو انه مسئول عن أرواح الضحايا أو أن وزارته فاسدة ويجب أقالته….. طالما أن الغرض منه إبراز وتوضيح هذه التصرفات للجمهور وبشكل يستطيع أن يفهمها ويدرك أبعادها وحقيقتها، فلا تعد جرائم ويترك الأمر لسلطة المحكمة التقديرية حسب ظروف وملابسات كل الدعوى. (21)
أما اذا كان النقد منصب على وقائع تعد لو كانت صحيحة جرائم وفقاً للقانون النافذ فيجب التحرز من ذكر الأسماء لأنها قد تعد قذفاً عند توفر أركانه الأخرى.
فاذا انتقد محلل سياسي او صحفي انتشار الرشوة او الإهمال او عدم الكفاءة في وزارة معينة دون ذكر الأسماء او عدم ذكره لواقعة محددة يمكن للجمهور معرفة أسماء القائمين بها مباشرة فلا يعد ذلك قذفاً او سباً، حتى لو كان الذي أوحى الى الناقد برأيه واقعة معينة صدرت من شخص معين طالما لم يحدد اسمه او لم يجعل تحديد اسمه من قبل الجمهور ممكناً دون عناء،وفي مثل هذه الأحوال. (22)
2ـ صحة الواقعة او الاعتقاد بصحتها:
يفترض في الناقد والمحلل السياسي او الأدبي انه يستهدف المصلحة العامة والتطور الاجتماعي وتقويم الأداء العام والخاص، لا يتحقق ذلك بالغش والخداع وتزييف الحقائق، فالناقد المحايد هو الذي يعرض الوقائع بحسب ما برزت في العالم الخارجي وبظروفها او ملابساتها المحيطة بها.
ومن جانب آخر وحسب القواعد العامة في القصد الجنائي، فانه يكفي الاعتقاد بصحة الواقعة، حتى لو تبين فيما بعد انها غير صحيحة، الا انه يجب في هذه الحالة ان يكون الاعتقاد مبني على أسباب ومبررات معقولة وكان هذا الاعتقاد مستندا الى التحري الواجب على من كان في مثل ظروفه ، فيستفيد من الإباحة، ومن أمثلة ذلك انه استند في تعليقه على الواقعة الى ما نشرته وسائل الإعلام من اخبار عن الواقعة محل النقد ولم يصدر تكذيب بشأنها بعد، او ان الواقعة كانت مشهورة ومعلومة لدى الجمهور، وسند ذلك انه لا يمكن ان يطلب من باحث ان يضمن بصورة مطلقة صحة ما يذكر او صواب رأيه في كل الأحوال، لان ذلك غير ممكن في الحياة العملية في كل الأحوال فقد يكون من العسير او من المستحيل على الباحث في مجال اختصاصه ان يبدي رأياً لا يكون محل نقاش قط، فيكفي انه بذل ما في وسعه لتحري الحقيقة وادى واجبه تجاه المجتمع مما يستحق معه إباحة فعله، ولا تنتفي الإباحة اذا ثبت فيما بد عدم صحة الواقعة او عدم سداد الرأي كما سبق البيان، فأساس الإباحة هو الاجتهاد في خدمة المجتمع وهو ما ثبت تحققه. وهذا الأساس للاجتهاد الذي يقبل الصواب والخطأ معترف به ومحمي من الشريعة الإسلامية الغراء، فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم انه قال: ( من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله اجر)، ومن هذه الروح الإسلامية الخالدة التي شرعت أبواب العلم والاجتهاد ينطلق القاضي لتقدير قيمة الاجتهاد في النقد.(23)
3ـ ان تكون للواقعة محل النقد والدراسة أهمية اجتماعية:
للنقد أهمية اجتماعية وهذه هي علة أباحته ، وهو لا يكون كذلك الا اذا تناول اموراً تهم ابناء المجتمع ويعرفون قيمتها وأبعادها، ولا يستفيد المجتمع شيئاً اذا تناول الناقد الحياة الخاصة للآخرين بل ان ذلك قد يشكل اعتداء على الحياة الخاصة للأفراد باعتبارها حق من حقوق الإنسان.
ولا يشترط في أهمية الواقعة انها متصلة مباشرة بحدث سياسي او اقتصادي قائم وقت النقد، وانما يكفي انها موجهة لعدد غير محدد من الناس بقصد تحقيق فائدة او مصلحة لهم.
ومن الأمثلة الفقهية على ذلك تناول أعمال أصحاب المهن التي تتصل أعمالهم بمصالح الجمهور كالأطباء والمحامين والمهندسين والتجار وكل من يحمل صفة اجتماعية عامة بالنقد، ومن ذلك القول في معرض النقد ان الباحث الفلاني لم يتبع المنهج العلمي في البحث او انه لم يعتمد على مصادر موثوقة، او القول ان الطبيب او المحامي الفلاني يغالي في أجوره او انه يعامل زبائنه بطريقة غير لائقة، وكذلك الحال عند نقد إعمال وتصرفات وأقوال وأداء وآراء الشخصيات التي تعمل بالسياسة، فهذا النقد مفيد للمجتمع كما ان حق الرد عليه متاح.(24)
4ـ عدم التعسف في استعمال حق النقد:
لا يجوز التعسف في استعمال حق النقد ولا الخروج عن حدود مقتضياته، فينبغي ان يلتزم الناقد بحدود النظام العام والآداب العامة، لان النقد من أعمال الثقافة والتحضر لا وسيلة للهجوم والانتقام من الآخرين، ولا يبيح حق النقد استعمال عبارات اقسى مما تتطلبه مقتضيات تحليل الواقعة وتقيم اداء المنتقد، ويفهم من أحكام محكمة النقض في مصر ان معيار ملائمة العبارة هو ثبوت ضرورتها لتعبير المتهم بحيث لو انه لو كان قد استعمل عبارات اقل عنفاً لم تكن فكرته لتحضى بالوضوح الكافي،أو ان رأيه لن يكون له التأثير الذي يهدف اليه، ومن عناصر الملائمة ثبوت التناسب بين العبارة من حيث شدتها او قسوتها وبين الواقعة و موضوع النقد من حيث أهميتها الاجتماعية.
وقاضي الموضوع هو المختص بتقدير ملائمة العبارة، الا انه لا يجوز للقاضي ان يضع في هذا المقام قاعدة عامة مؤداها ان تكون العبارة رقيقة هادئة، ففي حالات كثيرة يقتضي المقام استعمال عبارات قاسية، فإن ثبت ذلك فلا يكون الناقد قد تعسف في استعمال حقه.(25)
5ـ توافر حسن نية الناقد:
يستفاد هذا الشرط من القواعد العامة للإباحة، وحسن النية مفترض لان الأصل في الإنسان حسن النية، وعلى من يدعي خلاف هذا الأصل ان يثبت ذلك. وأساس حسن النية ان يعتقد الناقد بصحة الواقعة التي يسندها الى من وجه اليه الانتقاد وان يكون هدفه من النقد تحقيق المصلحة العامة لا مجرد التشهير أو التجريح، ومن أهم القرائن على سوء النية وتحقق نية القذف استعمال عبارات قاسية من غير مقتض وعدم تناسبها مع الغاية التي يستهدفها بنقده، ولا يشترط استخلاص سوء النية من عبارات المقال او البحث ذاته، فيمكن استخلاص من مصادر اخرى كحصول تهديد من الصحفي و الباحث للمجني عليه قبل نشر المقال ومطالبته بمبلغ من المال لقاء عدم نشره.
ومن جانب اخر للناقد أن يتمسك أمام محكمة الموضوع بالدفع بتوافر حسن النية في ما قرره من عبارات نقد وان يوجه أدلة الإثبات وان ينفيها وان يدلل على حسن نيته بكافة طرق الإثبات.(26)

منقول عن بحث