في اركان جريمة القذف
عرفت المادة (433) عقوبات عراقي القذف في الفقرة (1) منها بالقول ( القذف هو إسناد واقعة معينة إلى الغير بإحدى طرق العلانية من شأنها لو صحت ان توجب عقاب من أسندت إليه أو احتقاره عند أهل وطنه).(7)
وعرف المشرع المصري القذف بنفس الأسلوب في المادة (302) عقوبات مصري بالقول:
(يعد قاذفاً من اسند لغيره بواسطة احدى الطرق المبينة بالمادة 171 من هذا القانون اموراً لو كانت صادقة لأوجبت عقاب من أسندت إليه بالعقوبات المقررة لذلك قانوناً أو أوجبت احتقاره عند أهل وطنه)
وفي ضوء ذلك يذهب الشراح إلى وجوب تحقق ركن مادي وركن معنوي لتحقق جريمة القذف:
أـ الركن المادي:يقوم الركن المادي على ثلاثة عناصر، نشاط إجرامي هو فعل الإسناد وموضوع لهذا النشاط هو الواقعة المحددة التي من شأنها ان تعتبر جريمة توجب عقاب فاعلها، او انها توجب احتقاره عند أهل وطنه ولو لم تشكل جريمة، وصفة لهذا النشاط هي كونه علنياً.
1ـ فعل الإسناد: هو تعبير عن فكرة صراحة او دلالة، تصدر قولاً او كتابة او إشارة او رمزاً او رسماً فحواه نسبة واقعة الى شخص معين علناً، بغض النظر عما اذا كانت نسبة الواقعة على سبيل اليقين او الشك، او كانت مجرد نقل عن الغير. وعلى هذا وصف القذف بأنه ( جريمة تعبير ).
وعلى هذا تقوم الجريمة بالإسناد الصريح الذي لا يحتاج من السامع الى مجهود ذهني لاستخلاص المعنى المراد من التعبير، او انه كان تعبيراً ضمنياً يحتاج كشف المراد منه بذل مجهود عقلي لتحديد المعنى الحقيقي المستتر خلف معناه الظاهر.
فالجريمة قائمة ولو استعمل الجاني أسلوب التورية او التلميح او انه افرغ عباراته بصيغة استفهامية او افتراضية.
ويتحقق النشاط الإجرامي ولو كان الإسناد عن طريق الإجابة عن سؤال بـ (نعم) او (لا)، فلو سأل مقدم برامج شخصاً في مقابلة في إحدى وسائل الإعلام ، هل تعتقد ان فلان مرتشي؟ فأجابه بنعم . فان كلا من مقدم البرنامج وضيفه قد ارتكب جريمة القذف، الاول عن طريق الافتراض والثاني عن طريق التأكيد.
وانه سأله عن طريق القول، ان فلان معروف عنه النزاهة في العمل، فأجابه بالنفي صراحة او إشارة ، فان الضيف مسؤول عن جريمة قذف.(8)
2ـ تحديد الواقعة: وواقعة القذف يجب ان تكون محددة، والتحديد هو ما يميز جريمة القذف عن جريمة السب الأخف من حيث العقوبة، لان من الشروط الطبيعية للواقعة محل الإثبات حسب القواعد العامة في قانون الإثبات ان تكون الواقعة محددة (9) وهذا ما هو مطلوب في جريمة قذف موظف عام في حين لا يسمح بالإثبات في جريمة السب للاستحالة القانونية لان القانون لا يشترط في واقعته التحديد.
ومن جانب اخر فان تحديد فكرة الواقعة يقتضي التمييز بينها وبين الحكم القيمي كحد فاصل بين القذف والسب، فمن يسند إلى غيره واقعة محددة كسرقة دار معينة او تزوير مستند معين فانه يرتكب قذفاً ، ولكن من يحكم من باب الرأي والاستنتاج بان فلان سارق او مزور دون ان يسند ذلك الى واقعة محددة او القول انه يتوقع ان فلان سيصبح سارقاً في المستقبل فانه يرتكب جريمة سب وان يكن قد استخلص هذا الرأي من واقعة يعلمها ولكنه لم يصرح بها، لاستحالة إثبات الاستنتاجات في الغالب .
وللواقعة المحددة صورتين حددهما القانون، هما:
ـ الواقعة المستوجبة للعقاب: ويقصد بها إسناد واقعة محددة الى شخص لو صحت لاعتبرت جريمة أوجبت عقوبته، فمن يسند الى شخص وقائع محددة، قولاً او كتابة، بأنه سرق او زور محرر او اختلس مالاً عاماً او استلم رشوة للقيام بعمل او الامتناع عن عمل يدخل في اختصاص وظيفته فانه يرتكب جريمة قذف على اعتبار انه فيما لو كان ذلك صحيحاً يؤدي الى عقابه قانوناً. والمعيار في هذا المقام معيار موضوعي لأنه لا يتعلق بحالات شخصية او اجتماعية، وانما هو مستمد من القانون العقابي.
ـ الواقعة المستوجبة للاحتقار: ويقصد بها إسناد واقعة محددة الى شخص من شأنها ان تقلل من الاحترام الذي يحق للمجني عليه ان يتمتع به في المجتمع، وهي تكون كذلك اذا كانت تخالف الأخلاق الاجتماعية او الأعراف العامة او تثير النفور لدى المجتمع، ومثل هذه الأمور هي نسبية تختلف من مجتمع الى أخر ومن زمن الى أخر في ذات المجتمع ، فوصف شخص في المجتمعات الغربية بأنه يتهرب من دفع الضرائب تعتبر وصمة عار على الشخص تستوجب احتقاره ، بينما لا تعتبر كذلك ولا تثير الاحتقار في مجتمعات أخرى، بينما القول ان الشخص يتردد على الحانات والملاهي يعتبر امراً طبيعيا في بعض المجتمعات وعاراً في مجتمعات أخرى.
ويدخل في مفهوم الإسناد الرواية عن الغير او ترديد إشاعات او نقل خبر عن صحيفة ولو أتيح للمجني عليه حق الرد، وجاء في حكم لمحكمة النقض في مصر على انه (متى كانت العبارات المنشورة دالة على ان الناشر إنما رمى بها إلى إسناد وقائع مهينة إلى المدعية بالحقوق المدنية هي انها تشتغل بالجاسوسية لمأرب خاصة وتتصل بخائن يستغل زوجته الحسناء وانه كان لهااتصالغير شريف بآخرين فان إيراد تلك العبارات بما اشتملت عليه من وقائع مقذعة يتضمن بذاته الدليل على توافر القصد الجنائي ولا يعفي المتهم ان تكون هذه العبارات منقولة عن صحيفة أجنبية وانه ترك المجني عليها تكذب ما ورد فيها من وقائع او تصححها فان الإسناد في القذف يتحقق ولو بصيغة تشكيكية متى كان من شأنها ان تلقي في الأذهان عقيدة او ظنا او احتمالا في صحة الأمور المدعاة).
وتقدير ذلك يدخل في نطاق السلطة التقديرية لقاضي الموضوع ليرى ان كانت نسبة الواقعة للمجني عليه قد قللت من احترام الشخص بين أبناء وطنه أم لا.
والمعيار في هذا المقام، معيار ذاتي يتعلق بالقيم الاجتماعية السائدة،وهذه مختلفة من بيئة الى أخرى حتى في الوسط الاجتماعي العام.(10)
ـ تحديد المجني عليه: يستفاد من التعريف الوارد المادة (433) عقوبات ان القذف يجب ان يوجه الى شخص معين بالذات، بحيث يتمكن من يسمع القذف مباشرة او من خلال وسائل الإعلام او النشر من تحديد شخصيته سواء ذكر اسم المجني عليه صراحة او استخدم القاذف رموز او صور او إشارات يمكن ان تدلل عليه ولو من قبل المجتمع او البيئة التي يعيش او يعمل فيها دون عناء او شك، أما إذا لم يكن تحديد شخص المجني عليه ممكناً بالطريقة التي ذكرناها فلا تعد الجريمة متحققة.
ذلك ان محل الحماية القانونية في هذه المادة هو الحق في الشرف الذي انتهكه القذف، باعتباره جزء من حقوق الشخصية.ويترتب على ذلك ان بعض الوقائع لا تعتبر قذفاً فإن انتقد شخص ولو بقسوة مذهباً سياسياَ او اقتصادياً او مدرسة فنية او رأياً علمياً مما يدخل في استعمال حرية التعبير فلا يعد ذلك قذفاً ولو كان لتلك المدارس والاتجاهات الفكرية مؤسسون وأنصار معروفون وذكرهم بالاسم، ولكنه يرتكب جريمة القذف إذا نسب الى أشخاص معينين بالذات من تلك الاتجاهات افعالاً تستوجب العقاب او الاحتقار.(11)
صفة المقذوف: إذا كان المقذوف مواطناً من عامة أبناء الشعب فلا يقبل من القاذف إثبات صحة ما أسنده الى المجني عليه وتتحقق الجريمة إذا توافرت أركانها الأخرى.
أسباب الإباحة: اما اذا كان المقذوف موظفا عاما او مكلفا بخدمة عامة أو شخص ذي صفة نيابية عامة أو كان يتولى عملاً يتعلق بمصالح الجمهور وكان ما أسنده القاذف متصلاً بوظيفة المقذوف أو عمله فإذا أقام الدليل على كل ما أسنده انتفت الجريمة.
ـ القذف الموجه لشخص معنوي وسائر تجمعات الاشخاص: ، رغم ان للشخص المعنوي شخصية وكيان مستقل عن شخصية مؤسسيه وله الحق في السمعة والاعتبار، إلا ان هناك إشكالية في هذا المقام ،وتتجسد هذه الإشكالية في التوفيق بين حماية اعتبار الشخص المعنوي، ، وبين إتاحة الحق للمواطنين والباحثين من مختلف الاختصاصات العلية والفنية في نقد اداء هذه المؤسسات خاصة العامة منها باعتبار ان ملكيتها عامة وان من حق أبناء الشعب توجيه النقد إلى ادائها بهدف تقويمه وتصحيح مساره حماية للمال العام من الهدر والفساد. ويبدو ان التدخل التشريعي في هذا المقام امراً ضرورياً لحماية القيم الدستورية المتعلقة بحرية الرأي وما يتفرع عنها من حقوق ومنها حق النقد. كالنص على انه ( لا يعد قذفاً توجيه النقد إلى الاشخاص المعنوية العامة إذا كان لأغراض البحث العلمي او لتحقيق مصلحة عامة وتم ذلك بحسن نية).
ـ القانون يحمي الاعتبار المهني ولكنه لا يحمي المجد المهني: وهذا ما يذهب إليه اغلب الفقه القانوني، ومفاد ذلك ان من يناقش مستوى اداء شخص معين مقارنة بغيره او بمستوى اداء الآخرين بصورة عامة لا يعد قذفاً بل ممارسة لحق النقد وما تتطلبه الإجابة عن السؤال من أمانة، فلو سأل شخص اخر ولو علانية عن اداء شخص او فنان او طبيب،فأجاب مسلماً للشخص بأهليته في ممارستها ولكنه يناقش مستوى أدائه فيذكر انه متوسط او ضعيف او يقارن بينه وبن زملائه في ذات المهنة ويقرر انه اقل منهم، فانه لا يرتكب قذفاً وانما ممارسة لحق النقد، وتقدير ذلك يعود لقاضي الموضوع حسب ظروف كل واقعة. (12)
3ـ علانية الإسناد: لا يقوم القذف إلا إذا كان إسناد الواقعة إلى المجني عليه إسنادا علنياً في مكان عام بحيث يمكن سماعه من الجمهور المتواجد في هذا المكان ،والإسناد العلني يتحقق ايضاً بإحدى وسائل العلانية المرئية والمسموعة والمقروءة.
وتذهب محكمة النقض في مصر بهذا الصدد الى انه: ( لا يكفي ان تكون العبارات المتضمنة للاهانة او القذف قد قيلت في محل عمومي بل يجب ان يكون ذلك بحيث يستطيع ان يسمعها من يكون في هذا المحل، أما إذا قيل بحيث لا يمكن ان يسمعها إلا من ألقيت إليه فلا علانية).(13)
ويقصد بالمكان العام ، هو المكان الذي يحق للجمهور ارتياده، سواء على وجه دائم او في أوقات محددة، سواء كان ارتياده بدون قيد او شرط او كان بقيود وشروط محددة.
أما اذا كان المكان خاصاً ولو توفر فيه عدد كبير من الاشخاص تربطهم صلة سابقة كاجتماع للأقارب او حفلة عرس خاصة او اجتماع مجلس إدارة شركة او ناد للمشتركين فلا يعد مكاناً عاما ولا تتوفر العلانية المقصودة بالنص . (14)
القذف بغير علانية:
نصت المادة (435) عقوبات عراقي على انه: ( إذا وقع القذف في مواجهة المجني عليه من غير علانية او في حديث تليفوني معه او في مكتوب بعث به إليه او ابلغه ذلك بواسطة أخرى فتكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تزيد على خمسين دينارا او بإحدى هاتين العقوبتين).
ولا يشترط صدور عبارات القذف في حضور المجني عليه، وعلة ذلك ان المشرع لم يستهدف بالعقاب على القذف حماية شعور المجني عليه من ان تجرحه عبارات القذف وإنما هدف إلى حماية مكانته الاجتماعية وشرفه واعتباره الشخصي. (15)
ب ـ الركن المعنوي في القذف(القصد الجنائي): ان خطورة المجرم على المجتمع وتحديد مدى العقوبة التي يستحقها تكون على أساس الركن المعنوي للجريمة بصورتيه العمدية والخطأية لا على مجرد الأعمال المادية للجريمة، فالسلوك الإجرامي الذي يقود الى نتيجة واحدة تختلف عقوبته حسب ما اذا كان عمداً او خطئاً، فعقوبة القتل العمد قد تصل الى الاعدام بينما قد تكون عقوبة القتل الخطأ هي الحبس.
ان جريمة القذف من الجرائم العمدية التي لا تتحق بطريق الخطأ ، أي انها لا تقوم الا بتوافر عناصر القصد الجنائي وهما العلم والإرادة ، أي ان يكون الفاعل عالماً ان الواقعة التي تسبب بحدوثها بسلوكه تشكل جريمة قذف وان إرادته متجهة لاقترافها بالشروط التي نص عليها القانون لتوافرها.
وفي جريمة القذف فان الواقعة المسندة الى المجني عليه تكون أحدى تكييفين، اما انها تستوجب عقابه او انها تستوجب احتقاره، ويعتبر التكييف بحد ذاته احد أركان الجريمة وحسب القواعد العامة في القصد يجب ان يعلم المتهم انه يرتكب جريمة قذف، والعلم المطلوب هو العلم الفعلي ولا تكفي استطاعة العلم او افتراض العلم، فإذا ثبت ان المتهم كان يعتقد ان الواقعة لا تستوجب عقاباً او احتقاراً، فأن القصد لا يعد متوافر لديه، ويتصور ذلك اذا كان للعبارة التي تستوجب العقاب دلالة اصطلاحية غير معروفة في موطنه او ان لها دلالة عرفية محقرة في بيئة المجني عليه، ولكن المتهم يجهلها لانه لا ينتمي الى هذه البيئة، من ذلك ان المناداة على شاب بعبارة ( يا ولد ) مسألة طبيعية في العراق الا انها غير مقبولة اطلاقاً في مصر.
والعلم بتكييف بالواقعة او بتكييفها غير العلم بالقانون لان الجهل بالقانون ليس بحجة، فمن استولى على مال يعتقد انه له ثم تبين انه لغيره لا يعد سارقا لعدم علمه انه يرتكب جريمة سرقة ولم تتجه إرادته لذلك كما لو اخذ شخص حقيبة تشبه حقيبته في مطار ثم تبين انها لغيره، ولا تقوم جريمة قذف او سب اذا كان الفاعل لا يعلم ان العبارات التي أطلقها تشكل قذفاً او سباً ولا تقوم جريمة قذف او سب موظف العام اذا كان الفاعل لا يعلم ان المجني عليه موظف.
والقول ان بأن العلم بالواقعة بانها تستوجب العقاب لا يتطلب من الشخص العادي التبحر في علم القانون ليسأل عن قذف وانما يكفي العلم بان الواقعة تنطوي على مساس بحقوق أساسية للأفراد لا يتصور شخص معتاد ان القانون يتركها دون عقاب، والقول ان العلم بان الواقعة تستوجب الاحتقار يكون بالنظر الى القيم السائدة المعلومة للشخص المعتاد الذي ينتمي الى هذه البيئة.
وعليه لا تتحقق هاتين الجريمتين عن طريق الخطأ،ومفاد ذلك ان الخطأ غير العمدي ولو كان جسيماً لا يؤدي الى قيام هاتين الجريمتين، فمن اسند الى غيره واقعة محقرة جاهلاً دلالتها لا يسأل عن قذف، ولا يسأل عن قذف كذلك من دون في مذكرة خاصة عبارة قذف فاطلع عليها بإهماله شخص وقام بنشرها علانية،وانما يسال عن ذلك من قام بالنشر عند توفر جميع أركان الجريمة.
اثبات القصد الجنائي: بما ان القصد الجنائي ركن من اركان الجريمة، فان محكمة الموضوع تلتزم اذا ادانت المتهم بان تثبت توافر القصد لديه، ومفاد ذلك ان القصد الجنائي ركن في القذف وركن في العلانية، والمحكمة تلتزم بإثبات جميع اركان الجريمة، الا انه حين تكون عبارات القذف فاحشة في ذاتها فانه يفترض توافر القصد الجنائي ولكن هذا الافتراض قابل لإثبات العكس كأن يثبت المتهم انه أراد بعباراته معناً عرفياً سائداً ومتداولاً لا معناها اللغوي في هذه الحالة يجب اثبات الوقائع المتصلة بهذا المعنى العرفي.
اما اذا كانت عبارات القذف غير فاحشة فلا محل لافتراض توفر القصد الجنائي، ومثال ذلك افراغ عبارات القذف في عبارات من المديح او المجاز اللغوي او الاستعارة، فان عبأ اثبات ان المدح او العبارات المجازية كانت بقصد القذف يقع على عاتق سلطة التحقيق والمجني عليه.
وخلاصة القول انه لتحقق جريمة القذف ان تتوفر جميع اركان الجريمة بجميع عناصرها ، فان تخلف ركن او عنصر من العناصر انتفت الجريمة لعدم توافر شرائطها القانونية.(16)
ان الركن المعنوي هو اهم معيار من بين عدة معايير للتمييز بين جريمة القذف ممارسة حق النقد