بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين



أولاً: نور القلب وصفاؤه

إنّ واحدةً من أبرز وأهمّ آثار العبادة هي تلك النورانيّة الّتي تحصل للقلب، والصفاء والخضوع والتذلُّل الّذي يعيشه المتعبّد تجاه الله تعالى. ويُبصر عبره بقلبه فضلاً عن بصره. وعن التأثير الخاصّ للعبادة على القلب يقول عليه السلام:

“إنّ الله تعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب، تسمعُ به بعد الوَقْرَةِ وتُبصِرُ به بعد العَشوَةِ 15وتنقادُ به بعد المُعانَدَةِ، وما برِحَ لله ـ عزّت آلاؤهُ ـ في البُرهة بعد البُرهة وفي أزمان الفترات عبادٌ ناجاهم في فكرهم وكلّمَهُم في ذات عقولهم فاستصبحوا بنور يقظة في الأبصار والأسماع والأفئدة”16.

يقول الشهيد مطهّريّ تعليقاً على هذا النص العلويّ:

“وقد بيّن الإمام عليه السلام في هذا الكلام الأثر الغريب لذكر الله في القلوب، حتّى إنّها قد تستعدّ بذلك لتلقّي الإلهام من الله سبحانه والكلام معه”17.

وأيضاً فإنّ للعبادة أثراً في الترقّي بالإنسان نحو الكمال، والانتقال إلى حالات ومقامات معنويّة خاصّة كما يقول عليه السلام:

“قد حفَّت بهم الملائكة وتنزَّلت عليهم السكينةُ، وفُتِحت لهم أبوابُ السماء، وأُعِدَّت لهم مقاعدُ الكرامات، في مقامٍ اطّلع الله عليهم فيه فَرَضِيَ سعيهم، وحَمِدَ مقامَهُم، يَتَنَسَّمون بدُعائِهِ روح التجاوز”18.

وإنّ من أهمّ موجبات جلاء القلب وصفاء النفس وتطهير الروح ذكر الله

________________________________________
15- الوقرة ثقلٌ في السمع والعشوة ضعف البصر.
16-نهج البلاغة، الخطبة 222.
17- في رحاب نهج البلاغة، ص 67.
18- نهج البلاغة، الخطبة 222.

تعالى، لأنّ المداومة على ذكر الله تجعل العبد يُدرك أنّه مُراقَب دائماً من الله، يسمعه ويراه. ولهذا يوصي عليه السلام: “أفيضوا في ذكر الله، فإنّه أحسن الذّكر. وارغبوا فيما وعد المتّقين..”19.

ثانياً: الأُنس بالله، والّلذة في الحياة

عالَم العبادة في منظور الإمام عليّ عليه السلام وفقاً لنصوصه في نهج البلاغة هو عالَم آخر يختلف عن عالمنا. ودنيا العبادة ليست كالدنيا الّتي نعيش فيها، وموجبات السعادة فيها وكذلك موجبات الأُنس واللذّة فيها ليست هي نفسها في هذا العالم المادّيّ.

فالملذّات الدنيويّة هي تلك الأمور المادّيّة الّتي يحصل عليها الإنسان، أمّا الملذّات في دنيا العبادة فهي عبارة عن تحصيل وسائل القرب الإلهيّ، والسير والسفر إلى الله تعالى، وهو ليس سفراً ماديّاً كالسفر في الدنيا إلى العراق أو الشامّ أو… بل سفر في عالم روحانيّ يُضيء للإنسان طريقه إلى الهداية وإلى الصراط المستقيم.

فالعابد في سيره الروحيّ همّه رضى الله تعالى والفوز به، فإذا ما حصل له ذلك كان في أرقى حالات السعادة في دنياه. يقول الإمام عليه السلام:

“طوبى لنفسٍ أدّت إلى ربِّها فَرْضَها، وعَرَكَت بجَنْبها بُؤسَها، وهَجَرَت في الليل غُمْضَها، حتّى إذا غَلَبَ الكَرى عليها افتَرَشَت أرضَها وتوسَّدت كَفَّها، في مَعْشرٍ أسهَرَ عُيُونَهم خوفُ معَادِهِم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبُهُم، وهمهمت بذكر ربِّهم شِفاهُهُم، وتقشَّعَت بطول استغفارهم ذنُوبُهم، أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون”20.

________________________________________
19- نهج البلاغة، الخطبة 108.
20- م. ن، الخطبة 45.


وفي موضعٍ آخر يعتبر الإمام عليه السلام أنّ الذكر لله تعالى هو العِوض لأهله عن كلّ ملذّات الدنيا، وذلك للشعور الخاص الّذي يكتنفهم من هذه العبادة، يقول عليه السلام: “وإنّ للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً”

ولكي يُحافظ الإنسان على هذه اللذّة والأُنس من العبادة لا بُدَّ من الالتفات إلى ضرورة التوازن بين إقبال النفس عليها وعشقها لها في بعض الأوقات، وعدم رغبتها في العبادة في حالات معيّنة، ولذا يقول عليه السلام: “وخادع نفسك في العبادة وارفُق بها ولا تقهرْها وخُذْ عَفْوها ونشاطَها، إلّا ما كانَ مكتوباً عليك من الفريضة، فإنّه لا بُدَّ من قضائِها وتعاهُدِها عِند مَحَلِّها” .

ويقول عليه السلام: “إنّ للقلوب إقبالاً وإدباراً فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل وإذا أدبرت فاقتصِروا بها على الفرائض” .