بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
ليس هناك من أحد أهم علينا ولاعندنا من انفسنا تلك التي بين جنباتنا ، تلكم التي ستصحبنا ونصحبها في أحلك الشدائد واحسن المسرات ، تلكم التي " قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " ..
إنها السر العميق بدواخلنا ، من يحمل عجرنا وبجرنا ، مساوئنا وعيوبنا ، شهواتنا وملذاتنا ، ثغراتنا ونقاط ضعفنا ..الخ
ليس أحد أعرف بها منا ، وليس أحد أعرف بنا منها ..!
إنها أعمق من المرايا التي نقف امامها ، إذ المرايا تظهر الظواهر وتخفي البواطن ، لكن نفوسنا هي بواطننا الحقيقية ، وواقعنا الذي نظهر منه ونخففي .
إنها البئر الأعمق الذي يربض فيه باطن الإثم ، ودوافعه ، ويكمن فيه الرياء والعجب ، والشرور والأحقاد ، والأمراض كلها ..
وهي كذلك الكهف الخفي الذي تتجمع فيه النوايا الطيبة ، والمعاني الكريمة ، والآمال النقية ، والأمنيات الشفافة ..
أليست تلك النفوس بكل ما فيها هي أحق من أوليناه اهتماما ، وراعيناه علاجا ودواء ، وتابعناه تقويما وتعديلا ومتابعة ؟
إن كل امرىء منا لفي حاجة ماسة لأن يحادث نفسه حديثا صادقا , يجلي فيه الحقائق ويضع فيه النقاط على الحروف , ليجيب فيه عن أسئلة حرجة ربما تكون الإجابة عليها منطلقا لحياة جديدة ..
الصالحون دائما يحاسبون أنفسهم ويعاتبونها ويلومونها ويقفون معها عبر حديث يجري بين كل منهم ونفسه , وكأنه يخاطب مغايرا عنه , فيهذبه تارة , ويعاقبه تارة , ويحاسبه تارة , ويحسن إليه تارة أخرى .
وحديث النفس ليس ضربا من ضروب الأوهام ولا الخيالات , وإنما هو موقف جاد يقفه كل امرىء منا مع نفسه .
غالبا ما لا يدرك الإنسان نواقصه , وغالبا مالا يهتم الإنسان بعيوبه , وغالبا ما يغفل المرء عن سقطاته , وحديث النفس يعالج كل ذلك , فيكشف العيوب , و يظهر المثالب ويقوم السقطات ..
وحديث النفس ينبغي أن يكون شفافا صادقا , إذ إن بعض الناس يضحكون على أنفسهم في أحاديثهم لأنفسهم , فحاله حال الذي ينظر إلى المرآة قائلا لنفسه : يالحسنك , ويالفضلك .
والواجب أن يكون حديث النفس هو حديث البحث عن النواقص لإضافتها , وعن الثغرات لسدها , وعن الانحرافات لتقويمها .
وينبغي أن يكون حديث النفس حديث اعتراف بالخطأ , وحديث بحث عن سبب الخطأ , وحديث مداواة للخطأ , وحديث عزم على عدم تكرار الخطأ .
كثير من الناس يرون أنفسهم أمام أعينهم كاملة غير منقوصة , ويرون ميزاتهم ظاهرة , أولئك الذين يكذبون على أنفسهم ثم يصدقون الكذبات , وأولئك الذين يحقرون الناس , فيرون عيوب الناس جساما ضخاما , في وقت يرون أنفسهم أمامهم وضيئة مضيئة .
هي إذاً دقائق معدودات .. ربما يحتاج أحدنا إلى قلم وورقة , وربما حتى لا يحتاج , ليكتب خطابا لنفسه التي بين جنبيه ، يجتر الماضي ويستعيده ، يبكيه ويشكوه ، ثم يغسله بماء التوبة والاستغفار ..